لا يمكن التقليل من أهمية القرارات التي اتخذتها حكومة اسرائيل في حزيران 1967 فور حرب الايام الستة، بشأن القدس. فبين 11 حزيران بعد يوم من انتهاء الحرب وحتى 27 حزيران، عقدت حكومة اسرائيل ثماني جلسات. في تلك الجلسات ولدت القدس الجديدة كما نعرفها اليوم، مدينة ضخمة، غير قابلة للادارة، لا توجد اي صلة بين حدودها وحدودها التاريخية. في داخلها يعيش مئات الاف السكان ذوو مكانة قانونية مؤقتة وجزئية. وفي تلك الايام ايضا نشأت فكرة "القدس الموحدة الى أبد الآبدين"، وفي تلك الجلسات ولدت بذور المشاكل التي تواجهها القدس حتى يومنا هذا.
بحث جديد، يستند ضمن امور اخرى الى المحاضر التي سمح بنشرها مؤخرا، يحلل عملية اتخاذ القرارات في الحكومة في تلك الجلسات. وبشكل غير مفاجيء تبين بان من وقف خلف قرارات الوزراء ورئيس الوزراء كانت تجربة الماضي، ولا سيما الصدمات النفسية جراء الحصار على القدس في 1948 والانسحاب الذي فرض على اسرائيل من سيناء 1956. وقد تم كل شيء في ظل ضغوط شديدة – من جانب ما، ضغط دولي لعدم اتخاذ خطوات من طرف واحد ومن جهة اخرى، الجمهور الاسرائيلي والصحافة بطلب العمل بسرعة وبتصميم على ضم شرقي المدينة. والنتيجة هي القدس كما لم يقصد احد.
أن نحتل أم لا نحتل
وكان حرر البحث د. أمنون رمون، الباحث في معهد القدس وهو جزء من كتاب يعنى بالسياسة الاسرائيلية تجاه السكان العرب في شرقي القدس منذ 1967. واستند رمون كثيرا على بحوث سابقة ولا سيما على كتاب الصحفي عوزي بنزيمان الذي نشر في 1973 بعنوان " مدينة بلا سور". واستند بنزيمان الى قسم من المحاضر التي حظر نشرها بعد ذلك ولم تتحرر مرة اخرى الا مؤخرا.
القرار الاول الذي كان يتعين على الوزراء اتخاذه حتى قبل أن تنتهي الحرب هو هل نحتل أم لا نحتل البلدة القديمة. قبل يوم من الاحتلال، في الزيارة الشهيرة لوزير الدفاع موشيه دايان الى جبل المشارف، قال دايان انه يعارض الاحتلال. "لماذا نحتاج الى كل هذا الفاتيكان"، كان الاقتباس الدقيق. ولكن هذا لم يمنعه من أن يسارع الى استحكام القيادة المتقدمة بعد 12 ساعة فقط من ذلك وحث الجيش الاسرائيلي على احتلال البلدة القديمة. وفي الجلسة التي عقدت في الوقت الذي دخل فيه المظليون واللواء المقدسي الى هناك قال رئيس الوزراء اشكول: "كيف سنعيش مع هذا العدد الكبير من العرب؟". أما يغئال يدين، مستشاره، فقدر وأمل بان "مع دخول اسرائيل سيغادر العرب". بعد 24 ساعة من الزيارة الى جبل الزيتون كان دايان يقف في ساحة المبكى المحررة ويعلن "عدنا الى أقدس اماكننا، عدنا كي لا نودعها ابدا". في تلك الساعات الاولى لم يذكر احد السكان العرب في القدس. ويقتبس رمون من يوميات قائد المنطقة الوسطى عوزي نركيس، الذي كتب بانه اعتقد بان سكان شرقي المدينة هربوا. "ولكن في الغداة يتبين أني اخطأت. سكان شرقي القدس لم يهربوا. فقد اختبأوا في الاقبية وما أن هدأت المدافع – حتى صعدوا جميعهم من مخابئهم. ذكروني، اي مفاجأة هذه كانت لنا جميعا حين بدأ المواطنون يخرجون الى الشوارع".
ما الذي نوحده في واقع الامر
في جلسة الحكومة الاولى بعد الحرب، في 11 حزيران، طُلب من الوزراء ان يقرروا ما العمل بالمدينة. في هذه المرحلة لم يتصور احد الا توحد من جديد، ولكن لم يكن واضحا ايضا ما الذي نوحده. فالقدس الاردنية كانت مدينة صغيرة جدا، 7 كيلو متر مربع مساحتها (منها كيلو متر واحد هو البلدة القديمة). وكان واضحا للجميع بان على القدس ان تكون أكبر. في نظرة الى الوراء كانت الاعتبارات التي وجهت الوزراء تبدو عدمية، الخريطة التي رسمتها بقدر كبير مخاوف احداث الحرب السابقة. هكذا مثلا، من أجل الامتناع عن وضع الحصار ونقص المياه في حرب مستقبلية طلب الوزراء أن تلحق المنطقة التي تتضمن ينابيع وادي القلط، التي تبعد نحو 20 كيلو متر عن المدينة ومن أجل منع الجيوش العربية من محاصرتها، تقرر ايضا ضم مطار قلنديا (عطروت) في شمالها. وطلب احد الوزراء (يوسف سبير) ان تضم ايضا بيت لحم "لاعتبارات سياحية"، بينما يغئال الون تحدث عن ضم جبل الخليل وغور الاردن. وفي هذه المداولات طرح أيضا الاعتبار الديمغرافي والتخوف من أن يؤدي ضم واسع جدا الى "دولة ثنائية القومية" أو "جزائر ثانية". ولكن رئيس الوزراء اشكول قال: "على القدس نحن مستعدون لان نُقتل". وذلك بخلاف غزة "التي عندما نتذكر 400 الف عربي تكون بعض المرارة في القلب".
ويأخذ رمون الانطباع بان الوزراء لم يعرفوا الخرائط والجغرافيا. "الوزير اسرائيل يشعياهو مثلا يطلب ضم كفار هشيلوح وهناك نقاش كامل هل سلوان هي كفار هشيلوح"، قال لـ "هآرتس". "من كان لديه المعلومات هم رجال جهاز الامن، الجيش امسك بالخرائط الاردنية". وبالفعل أبدى رجال الجيش دورا هاما في رسم الخرائط. الخريطة بالحد الاقصى اقترحها اللواء رحبعام زئيفي، الذي كان في حينه رئيس شعبة العمليات. وتتضمن خريطته ضم 200 كيلو متر مربع من ضواحي رام الله وحتى مداخل أريحا. "اضافة أرض قصوى تنضم الى القدس (وبالتالي الى دولة اسرائيل) وتسمح بتوسيع القدس جدا"، شرح زئيفي في رسالة لوزير العدل، يش شبيرا.
قبل وقت قصير من اقرار خريطة زئيفي في الحكومة، طرح دايان اعتراضاته. فقد قال وزير الدفاع "أنا اعرف شهية اليهود. فاذا ضمنا المطار وعين فارة فهذا ليس ضما للقسم الثاني من القدس بل تقسيم الضفة الغربية الى قسمين وأنا ضد هذا". وبتأثيره تقلص الضم الى 70 كيلو متر مربع، مساحة أكبر بعشرة اضعاف من المدينة الاردنية. وبقيت ينابيع وادي القلط في الخارج، ولكن من أجل مطار قلنديا تم رسم اصبع سميك يصعد الى الشمال. وعلى الطريق ضموا بلا قصد مخيم شعفاط للاجئين. أما المكانين المقدسين قبر راحيل والنبي صموئيل فبقيا في الخارج. في نظرة الى الوراء فان خريطة زئيفي، التي توسع القدس شرقا، حتى أريحا تقريبا، لم تختفي تماما. فمن ينقص خريطة القدس لايامنا من خريطة زئيفي سيحصل الى هذا الحد او ذاك على منطقة معاليه ادوميم ومنطقة E1 حيث بدأت اسرائيل تقيم مستوطنة جديدة (مفسيرت ادوميم) – ولكن البناء توقف بسبب ضغط البيت الابيض، حيث عرضت حجة مشابهة لحجة دايان – اقامة مستوطنة في E1 ستقسم الضفة الى قسمين ولن تسمح بوجود فلسطيني مستقل.
سابقة أرض 48
تداخلت المداولات على الحدود بالمداولات على مصير الضفة الغربية كلها وعلى مكانة السكان العرب في المنطقة المضمومة. وفكرة أن يحصل السكان على المواطنة الكاملة استبدلت بسرعة بفكرة الاقامة المؤقتة. ويجد رمون ان هذا الحل القانوني طرحه رجال وزارة العدل استنادا الى السوابق من العام 1948. في حينه ايضا لم يحصل كل العرب الذين كانوا يسكنون في المنطقة التي احتلتها اسرائيل على المواطنة التلقائية، بل فقط من سجل في سجل السكان في تشرين الثاني 1948. اما الباقون، نحو 100 الف من السكان، فقد طلبوا وحصلوا على المواطنة في غضون بضع سنوات. هكذا ايضا مع سكان شرقي القدس، حيث تلقوا مكانة اقامة مؤقتة بحكم قانون الدخول الى اسرائيل. وكان الصحفي والسياسي الفلسطيني زياد ابو زياد وصف ذلك ذات مرة: "70 الف سائح اردني دخلوا اسرائيل في يوم واحد". وبالفعل، حتى اليوم، فان مكانة الفلسطينيين في القدس هي كمكانة سياح دخلوا اسرائيل واستقروا فيها. ما لم يأخذه اصحاب القرار في 1967 بالحسبان هو أنه خلافا لعرب 48، واصل المقدسيون الاحتفاظ بالمواطنة الاردنية ولم يتوجهوا لطلب المواطنة الاسرائيلية، وحتى من فعل ذلك لم يحصل على المواطنة دوما. وهكذا نشأ الوضع العبثي الذي يكون فيه نحو 40 في المئة من سكان عاصمة اسرائيل ليسوا مواطنين في الدولة.
تخوف من الضغط
يتبين من البحث ان الوزراء تخوفوا جدا من ضغط امريكي – سوفييتي متداخل مثلما حصل في 1956، يجبر اسرائيل على الانسحاب من المناطق ومن القدس، وبالمقابل، تخوفوا ايضا من الرأي العام ومن الصحافة اللذين ضغطا لاتخاذ قرار الضم والتوحيد. وتجمعت كل الضغوط في جلسة دراماتيكية واحدة في 27 حزيران. وزير الخارجية أبا ايبان الذي كان في حينه في الجمعية العمومية للامم المتحدة في نيويورك مارس الضغوط لتأجيل التصويت. "التشريع ليس ضروريا لتعزيز مكانتنا في القدس"، قال ايبان الذي حذر من مصيبة سياسية. ويشار ايضا الى أنه الى جانب ايبان كان في نيويورك مندوبون من كل كتل الائتلاف وكلهم ايدوا موقفه، بمن فيهم اعضاء كتلة مناحم بيغن "كاحل". ولكن من جهة ثانية كانت ضغوط اخرى، كما اوضح رئيس الوزراء في الجلسة: "صحف المساء كتبت المقالات وبعثتها الى الرقابة، مراسلو التلفزيون مدعوون الى الكنيست، واضح لي بان كل الصحف ستكتب بان فجأة حصل شيء ما واسرائيل فزعت وسيسألون ماذا حصل هنا وعندها سيقول الاغيار انكم ذعرتم وبالتالي سيضغطون اكثر كي لا نتخذ القوانين بعد اسبوعين ايضا"، اجاب رئيس الوزراء.
واطلع وزير العدل شابيرا الوزراء بحديثه مع محرري الصحف فقال: "عندما كان تفكير قبل اسبوع للقيام بكل العملية واحالة القوانين الى الكنيست التقيت يوم الجمعة مع الصحفيين، وكما هو متبع في هذه الحالات، كان كل الصحفيين متعاطفين للغاية باستثناء محرر واحد يعتقد ان من الاهم ان يعرف قراءه ماذا يحصل من أن يبقي هذا في السر كون هذا مناهض للديمقراطية. طلبت منهم والكل وافقوا الا يجعلوا حول هذا صخبا كبيرا". وكان لا شك لرمون ان المحرر الذي رفض اطاعة تعليمات الحكومة هو غرشون شوكن محرر "هآرتس".
موافقة بالابتزاز
وفي الجلسة نفسها اتصل اشكول بـ أبا ايبان في نيويورك ونجح في أن "ينتزع" منه موافقة. "ستكون ضربة ولكننا سنواصل المواجهة"، قال ايبان. وفي الغداة شعر بانه مخدوعا وادعى بان رئيس الوزراء ضلله وانه كان ممكنا تأجيل القرار. "وعدوه بان حتى لو اتخذ القرار فانهم لن ينشروا الامر، ومما سمعه من اشكول فهم بانه لا توجد اغلبية لتأجيل القرار في الموضوع"، يقول رمون. "في الغداة اكتشف بان اشكول ضغط على الوزراء كي لا يؤيدون التأجيل. ويرتبط قرار اشكول بمكانته السياسية وبرغبته في ان يتخلص من صورة المتردد، وكان هذا اعتبارا مركزيا جدا في قراره الوقوف ضد أبا ايبان". وفي نظرة الى الوراء يبدو أن ايبان كان محقا، فبالنسبة للقدس كل دول العالم، بلا استثناء، تقف الى جانب الفلسطينيين.
وحسب توصية ايبان، كان القرار فنيا تماما وافتقد الى مزايا تاريخية. في ذاك اليوم (27 حزيران) في الساعة الرابعة بعد الظهر رفع الى الكنيست تعديل قانون بيروقراطي ظاهرا – تعديل 11 لامر انظمة الحكم والقضاء يقول ان "القضاء، القانون والادارة للدولة تنطبق على كل اراضي بلاد اسرائيل التي قررتها الحكومة في الامر". كلمة القدس لم تذكر هناك. وبعد الاقرار بالقراءة الاولى نقل القانون بسرعة الى لجنة الدستور، القانون والقضاء وكذا في لجنة الداخلية وما أن مر اسبوع ونصف حتى اقر في الكنيست بكامل هيئتها بالقراءتين الثانية والثالثة. وقد تغيب رئيس الوزراء والوزراء عن قصد عن المداولات والتصويت في الكنيست. وفي الغداة وقعت سكرتيرة الحكومة ياعيل عوزئي على أمر قرر حدود المنطقة المضمومة وفي ذات اليوم نشر وزير الداخلية شبيرا "اعلان القدس"، اللائحة التي ضمت الارض المضمومة الى المجال البلدي لبلدية القدس.
ومع مرور الايام، كلما توجهت الكنيست يمينا، تحولت هذه اللائحة لتصبح جزءا من القانون الاساس: القدس وفي قوانين اخرى واصبحت احد البنود الاكثر تحصينا في سجل قوانين دولة اسرائيل. "حسب القانون حتى لو ارادت البلدية نقل صلاحيات جمع القمامة في مخيم شعفاط للاجئين، فانها تحتاج الى اغلبية 80 نائب في الكنيست"، يقول رمون.
وغداة اعلان وزير الداخلية في 29 حزيران، في الساعة 12 ظهرا أزالت الشرطة الحواجز بين شطري المدينة وبدا السكان اليهود والعرب ينتقلون من جانب الى آخر. وكتب رئيس البلدية تيدي كوليك في يومياته يقول: "كان هذا يوم سكينة للروح غير عادي في القدس".

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف