ولد الفن التشكيلي الفلسطيني من قلب المعاناة والمأساة، فكان بمثابة الإثراء والدعم للقضية الفلسطينية بكل أبعادها ومحاورها، حيث جسدت أعمال العديد من الفنانين التشكيليين الفلسطينيين الهوية الفلسطينية والويلات والنكبات التي مرّ بها الشعب الفلسطيني في جميع مراحل حياته خاصة 1948 و 1967. ففي الستينيات ظهرت مجموعة أكاديمية فنية نشطه من الفنانيين الفلسطينيين في فلسطين وخارجها لترسم اللوحات الخلابة وتقيم المعارض التي تصيغ وتشكل وتجسد معاناة وهمّ الشعب الفلسطيني، واقتلاعه وتشريده من أرضه، وحلمه في تأسيس وطنه، بصورة فنية خلابة تبهر الناظرين، ومن هؤلاء الفنانيين المتميزيين الفنان المبدع والمتميز إبراهيم هزيمة.
إن الفنان التشكيلي الفلسطيني إبراهيم هزيمة هو حالة متفردة للفن التشكيلي المعاصر، فهو فنان غير تقليدي خارج عن المألوف، ويتحلى بطريقة متميزة يرصف عبرها مفرداته ويوزع عناصر تكويناته في وحدات لونية متكاملة. إن أسلوبه يجمع ما بين الواقعية التعبيرية والرومانسية البريئة التي تسحر قلوب الجماهير.
ولد الفنان إبراهيم هزيمة في مدينة عكا في العام 1933، ثم لجأ مع أسرته بعد نكبة فلسطين في العام 1948 إلى الجمهورية العربية السورية واستقر في مدينة اللاذقية، لتبدأ رحلة المعاناة والكد والعمل من أجل مواجهة الظروف الحياتية الصعبة من جراء التهجير والتشريد، والإقتلاع من الأرض.
برزت موهبة الفنان ابراهيم هزيمة كموهبة فنية فطرية ظهرت ملامحها في سن الخامسة من العمر، وذلك عند رؤيته لرسامة أوروبية جالسة في المقهى الذي يعمل به والده، فوقف أمامها لساعات ينظر ويتأمل ويتابع ويدقق ما تقوم به هذه الفنانة. ثم تطورت موهبته في المرحلة الدراسية على يد الأستاذ عبد الرحمن قباني الذي شجعه وساعده في تهذيب أدواته الفنية ونضوج حسه الفني بشكل موجه ومنظم.
في العام 1951 انضم الفنان ابراهيم هزيمة إلى النادي الموسيقي الفني في مدينة اللاذقية، حيث تمكّن من المشاركة في النشاطات والأعمال الفنية في النادي. وحصل في العام 1952 على جائزة النادي الموسيقي التي تسلمها من قبل الفنان اللبناني الكبير مصطفى فروخ، حيث دهش من اللوحات الفنية التي يرسمها هزيمه خاصة ابداعه في استخدام الألوان المائية، وقام بتشجيعه للاستمرار قدماً في العمل الفني والإبداع لتطوير قدرته التقنية وصقل موهبته الفنية. عمل أيضاً كمدرس للرسم في مدرسة الثانوية الأرثوذكسية ومدرسة راهبات العائلة المقدسة، واستطاع خلال فترة عمله هذه من تمكين الطلبة من استخدام الرسم كوسيلة تعليمية خاصة في مجال البيولوجيا ورسم أعضاء الإنسان، هذا إضافة للرسم كموهبة فنية وإبداعية.
في العام 1957 حصل على جائزة معرض الخريف الذي أقيم في متحف دمشق للآثار، كما حصل على جائزة صالون القاهرة "حدث فني يعقد سنوياً" إذ شارك بلوحة زيتية وسبعة أعمال مائية.
وفي العام 1960 مكنته موهبته الفذة والمبدعة من الحصول على بعثة دراسية لاستكمال دراسته الأكاديمية الفنية في ألمانيا بمدينة لايبزيغHGB ، حيث درس فنون التصوير في أكاديمية الفنون الجميلة لدى البروفيسور برنهارد هايزش، ومن اللحظة الأولى شعر بوجود إنسجام أولي بينه وبين البروفيسور هايزش، كما شعر بوجود تجاوب إنساني وروحي للمواضيع التي يرسمها، ولقي تفهماً عميقاً ساعد في صقل موهبته وتطور عمله الفني أثناء فترة دراسته. تخرج بتفوق في العام 1963 وعمل كمعيد في معهده لمدة خمس سنوات، وقام بعملية هضم واستيعاب للفن الأوروبي، من خلال دراسات واسعة وعميقة محورها الفنانين المشهورين في أوروبا، الأمر الذي ساعده في تكوين أسلوبه وخطه الفني الخاص والمتميز.
وفي الفترة الواقعة ما بين 1968 - 1974 انتقل للعمل في برلين الشرقية في إذاعة برلين العالمية كمسؤول لبرنامج الصداقة الألمانية العربية وبرنامج الفن والأدب.
وقد عمل في مؤسسة الصليب الأحمر/قسم المعاقين في برلين خلال الفترة ما بين 1974 – 1991، حيث ساعد حسه الفني والإنساني في رسم وجوه المرضى النفسيين لتسهيل مهام الأطباء في تشخيص حالات المرضى بدقة، وبنفس الوقت قام بتدريب هؤلاء المرضى على الرسم وإظهار حسهم الفني والتعبير عن أنفسهم ومعاناتهم وآلامهم.
في العام 1979 انتخب عضواً في الأمانة العامة لإتحاد الفنانين التشكيليين الفلسطينيين وأصبح مسؤول العلاقات الخارجية فيه.
هذا وقد أقام الفنان إبراهيم هزيمة العديد من المعارض في ألمانيا وأوروبا وتونس وسوريا ومصر والكويت وموسكو، بالإضافة لدول أخرى، وحصل على العديد من الجوائز منها جائزة الشراع الذهبي في المعرض الكويتي العاشر للفن التشكيلي العربي في العام 1987. وفي العام 1988 انتخب هزيمة رئيساً للجنة الوطنية التشكيلية الفلسطينية في اليونسكو.
لقد عبر الفنان إبراهيم هزيمة عن حسه الفني ووجوده الإنساني في كثير من الأعمال أهمها: لوحة الانتفاضة، ولوحة انتظار، ولوحة القدس بعد المطر، ولوحة فلسطين بلد أحلامي، وقد أُستخدم العديد من رسوماته كطوابع فلسطينية للمراسلات البريدية، والتي أُخرجت في مطبعة الدولة ببرلين، وكان طابع سنة 2003 قد حصل على المركز الثالث لأجمل طوابع في العالم في المعرض الدولي الذي أقيم في فيينا لهذا الغرض.
لقد احتلت المدن والقرى الفلسطينية وعلى الأخص مدينة القدس وعكا وطمره وكفر ياسيف وغزه ورام الله وغيرهما مكانة ملموسة في ذاكرته الشخصية حيث شكلت هذه المدن قاعدة فنية تعبيرية زخمة تعبر عن صموده وانتماءه الوطني لفلسطين وأرضها الطيبة. لقد مثلت البيوت الريفية عمقاً كبيراً في أعمال هزيمة فكانت بمثابة بصيص أمل لإنفعالاته الحسية والعاطفية والإنفعالية التي تصنع من الشجر والنسوة حاملات الأطباق بمثابة ولائم بصرية لمكونات الحالة والموقف التشكيلي. وبالنسبة للمرأة فقد تجسدت بعمق في أعماله الفنية فهي تشكل الأم والعطاء والصبر والمحبة والإرتباط بالجذور، فهذه الصفات تجسد الملامح الجمالية والمعنوية التي تتحلى بها المرأة الفلسطينية.
لقد شكل التراث الفلسطيني الراسخ في ذاكرة الفنان إبراهيم هزيمة نقطة تجاذب بين ريشته وألوانه، فقام بتشكيل وبرسم الصور لتعبر عن بنيانه الوجودي كإنسان مشتاق ومتعطش لوطنه المفقود وطفولته المسلوبة وشبابه المنثور في البلاد المختلفة.
وقد شارك الفنان إبراهيم هزيمة في إخراج ديوان شاعرنا الكبير المبدع محمود درويش " على هذه الأرض ما يستحق الحياة" بصورة مبدعة خلاقة ذات حرفية فائقة ورسومات تجسد نفس المعنى، مما يؤكد أن الفن وسيلة تعبيرية وحسية ووجدانية هامة.
كما شارك الفنان هزيمة في مشروع الرسم على الدب الذي يعتبر شعار برلين وتدعمه منظمة اليونيسكو، حيث ينظم سوق للمزايده، يقدم بعد ذلك القسم الأكبر من ريعه لدعم أطفال العالم، ومن ثم تعرض الدببة في دول عديدة في العالم وتحت شعار من أجل التسامح والحرية والأمن والسلام وحقوق الإنسان.
ويقول الفنان ابراهيم هزيمه عن عمله الفني: مواضيع أعمالي الفنية تصور ترجمة لونية لمشاعري وأحاسيسي الدفينة الحية للحياة في فلسطين الحبيبة، بإيقاعات واضحة متكررة، عناصرها الإنسان، والأرض، والبيت، والشجرة، والضوء. ويلحظ المشاهد عودة وترديد العناصر والمواضيع التشكيلية، ولكن بإيقاعات حسية داخلية متجددة، وهذا ما يذكرنا بالترديد والإعادة في الموسيقى العربية، والبناء العربي والأرابيسك الذي ترك للحضارة العالمية إرثاً وتأثيراً كبيرين. والجدير بالذكر أن الإنسان الفلسطيني يحتل مكان الصدارة في عملي الفني، أحلامه، ورغباته، وتشوقه إلى الحرية والعيش بأمان وسلام في أرضه الحبيبة فلسطين. الإنسان في لوحاتي يقف بثبات كشجرة راسخة الجذر في الأرض وجذعها متعالياً بأغصان في السماء. ويمكنني القول إن من يشاهد أعمالي يطل على روحي وحبي لوطني وأهلي.
وأخيراً، فالفنان إبراهيم هزيمة فنان يؤمن بتنوع وجمالية فن بلاده، هو فنان محب للناس ولإحياء الموروث الفلسطيني عبر ألوانه وريشته، فهو يراقص ريشته لتبارز الفراغ الأبيض، ولتصنع منه فراغاً مبدعاً من وحي الإبداع والخيال الوجداني الرقيق الحساس الطفولي غير الساذج، فهو الفنان الذي يحلق خياله في فضاء فلسطين حاملاً معه الألوان الحياتية والجمالية التي ترنو بالفرح والغبطة والسرور. إنه الفنان الذي استطاع عبر رسوماته تشكيل كلمة حق للشعب الفلسطيني وكلمة رفض للإحتلال والتشريد والتهجير، فهذه الرسومات عبرت عن انغماسه وانغماس جميع الفلسطينيين المهجرين والمشردين في بلاد العالم بأرضهم ومدنهم وقراهم.

لا يوجد تعليقات
...
عزيزي المتصفح : كن أول من يقوم بالتعليق على هذا المقال ! أدخل معلوماتك و تعليقك !!

الرجاء الالتزام بآداب الحوار
اسمك *

البريد الالكتروني *

العنوان

المعلومات المرسلة *
أدخل الكود *
أضف