بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي-
2016-06-27
كانت رحلة القادمين الى مطار هثرو، ليلة السبت، هادئة وجميلة مع الموسيقى. لا حاجة الى جهد كبير من اجل معرفة المصدر: من فيلم «تايتانيك» بما في ذلك صوت الناي في الخلفية، اختيار «تايتانيك» في هذا التوقيت كان شيئا مميزا. أو أن أحدا ما نسي وضع قائمة الاغاني أو أن له حس دعابة استثنائيا. لا تغرق بريطانيا لكنها مقسمة. الحسم في الاستفتاء الشعبي، الخميس الماضي، اعتبر هنا حدثا له مغزى تاريخي وله تأثير دولي، وهذا أمر لا مبالغة فيه. في احيان بعيدة يحمل الحسم الديمقراطي في الصناديق تأثيرات كبيرة الى هذا الحد. الى جانب الخاسر يوجد اشخاص جديون يعتبرون نتائج الاستفتاء الشعبي مثل انتصار هتلر في الانتخابات في ألمانيا في 1933. إنهم يبالغون، لكن من المعقول القول إنه منذ يوم الجمعة صباحا لم تعد بريطانيا هي بريطانيا ذاتها ولم تعد أوروبا هي أوروبا ذاتها. الامور التي كان متفقا عليها في العلاقات الدولية وداخل الدول منذ الحرب العالمية الثانية بحاجة الى اعادة نظر، هذه ثورة. تعلمنا هذه القصة شيئا حول العلاقات المتوترة بين المتروبولين في لندن، منهاتن وتل ابيب وبين باقي الدولة. عن الاغتراب والعداء، الكراهية والحسد، عن طموح هذه المدن بأن تكون دول منفصلة، دولة لندن، دولة تل ابيب، وعما يحدث حينما يصفي المحيط حساباته معها. «ضباب في القناة. اوروبا معزولة»، هذا ما جاء ذات مرة في عنوان صحيفة في لندن. حول مصدر العنوان هناك جدل. ولكن حول نتيجته هناك اتفاق كامل. بريطانيا ضحت بأفضل أبنائها في الحروب التي عاشتها القارة، لكن معاملتها مع اوروبا كانت دائما غير مستقرة، ومشتبهة، ومتعالية. في العام 1975 قرر البريطانيون في استفتاء شعبي الانضمام لما سمي في حينه السوق الاوروبية. 67 في المئة من المصوتين أيدوا الانضمام – اغلبية واضحة. لكن بريطانيا امتنعت عن الانضمام الى كتلة اليورو ورفضت فتح أبوابها لجميع مواطني الدول الاعضاء في الاتحاد، وهذان امتيازان ميزاها عن باقي الدول في القارة. بمعنى ما، أكلت الكعكة وأبقتها كما هي. قبل أي تحليل لهذه الدراما الكبيرة، مطلوب ملاحظة تهدئة. نهاية الاسبوع مرت على بريطانيا براحة، الدبابات لم تهاجم مبنى البرلمان – فقط جموع السياح. الطقس الجميل أخرج الى شوارع لندن مئات آلاف السكان في المدينة، رغم أن سكان لندن تعرضوا لضربة شديدة في الاستفتاء (60 في المئة منهم صوتوا مع البقاء في الاتحاد الاوروبي، مقارنة مع 45 في المئة في باقي الدولة). لم يؤثر أي شيء على احتفال الصيف، النوادي الليلية كانت مليئة والبيرة تدفقت مثل المياه، ووقف الناس داخلها وغنوا أغانيهم، وفي الشوارع رقص مئات الشباب على مخارج محطات القطارات على طول شارع اكسفورد. علامات الحداد في لندن انبعثت من جنازة في نيو اورليانز: الميت يسير في طريقه الاخيرة والموسيقى تُعزف ومن في الحداد يرقصون. خلال يوم واحد وقع اكثر من مليوني بريطاني على عريضة تطالب باجراء الاستفتاء الشعبي مجددا. والادعاء: نظرا لأن 72 في المئة من اصحاب حق الاقتراع قاموا بالتصويت، وأقل من 52 في المئة منهم أيدوا الانفصال عن الاتحاد، لا يمكن القول إن اغلبية البريطانيين يؤيدون الانسحاب. باستطاعة البرلمان أن يقرر اجراء جولة ثانية.لا توجد فرصة كبيرة لهذه الخطوة، لكنها تعيد الحياة في الجدل حول نتائج الاستفتاء. الانباء حول مليوني توقيع منحت المبرر للمظاهرات. أول من أمس صباحا وقف أمام مبنى البرلمان عند أقدام تمثال ونستون تشرتشل بضع عشرات من المتظاهرين. وكتبوا الشعارات على علب الكرتون «نعم للاتحاد الاوروبي»، «هذه فاشية، كراهية واصولية»، «نحن نريد تعددية اجتماعية ومساواة ونريد بلادنا من جديد»، «من يؤيد الانفصال عن اوروبا؟ ترامب وبوتين، وليس الجيل الجديد». جيل المتظاهرين موحد: لقد كانوا في العشرينيات من أعمارهم، المئات من أبناء جيلهم انضموا الى المظاهرة، وانشؤوا دائرة لافتة محاطة بكتيبة من المصورين. أحدهم قام بالقاء خطاب في أساسه زعم أن كبار السن قد خانوا في تصويتهم على مستقبل الشباب. توجه عجوز الى شاب يحمل اللافتة وقام بتوبيخه. «لماذا تحتجون؟»، «يمكننا تدبر امورنا بشكل ممتاز بدون اوروبا. الايام الجيدة ستعود». تلك الايام الجيدة توجد في أفواه الكثيرين من كبار السن الذين صوتوا مع الانفصال. تلك الايام الجيدة من المشكوك فيه أنها كانت ذات مرة، لكن هكذا يتذكرونها. 60 في المئة من البريطانيين من جيل 65 فما فوق أيدوا الانفصال، 73 في المئة من اجمالي البالغين من 18 – 24 أيدوا البقاء. نظرا لأن سكان بريطانيا اغلبيتهم من المسنين، فهم الذين حسموا الامر. حينما رجعت الى البرلمان بعد الظهيرة اختفى متظاهرو الاستفتاء. مظاهرة اخرى من اللاهتافيين الذين يحتجون ضد خوف المثليين، حلت محلهم. هذا الاسبوع كان اسبوع التفاخر في لندن. ففي لندن دائما السعادة هي سعادة. ايان بلاك، رئيس ملف الشرق الاوسط في الصحيفة البريطانية المهمة «الغارديان»، مثل اغلبية زملائه أيد بقاء بريطانيا في الاتحاد. لم يأخذ نتائج التصويت بصعوبة. قام بمقارنتها بالانقلاب في العام 1977 الذي أدى الى صعود مناحيم بيغن للسلطة. في تلك الفترة كان يعيش في اسرائيل. طلبت منه تفسير مغزى الشرخ الداخلي الذي كشف عنه الاستفتاء. «لندن وجنوب شرق بريطانيا هما دولة منفصلة»، قال، «يوجد هنا الكثير من الاموال، شمال شرقي بريطانيا هو قصة عكسية. مدن صغيرة كانت فيها صناعات كثيرة، خصوصا الصناعات الثقيلة، فقدت مصدر الرزق. تم نقل المصانع الى الصين. السكان هم ضحايا العولمة. غضبهم يوجهونه نحو لندن وما تمثله «كانت الهجرة كما يبدو هي الخط المركزي في القرار الذي اتخذه المصوتون. انضمام بريطانيا الى السوق الاوروبية فتح أبوابها. الحدث المركزي في العام 2004، ست دول كانت في الجسم الشيوعي الى أن سقطت الشاشة الحديدية وانضمت هذه الدول الى الاتحاد. بعد ذلك تم ضم رومانيا وبلغاريا. مهاجرون من بولندا ومن رومانيا وصلوا الى هنا واندمجوا في سوق العمل. لقد أثاروا الغضب». لا أفهم، قلت، حصلتم على ملايين المهاجرين المسلمين ولا سيما من باكستان، حصلتم على الهنود والافريقيين. الرومانيون والبولنديون هم مسيحيون بيض. كيف يعقل أنكم تكرهونهم؟ «أنت تتحدث عن اجيال الهجرة السابقة، منذ الخمسينيات»، قال بلاك. «300 ألف مهاجر وصلوا الى بريطانيا في السنة الماضية، نصفهم من دول أعضاء في الاتحاد الاوروبي، لكن الانطباع هو أنهم جميعا جاؤوا من هذه الدول». موجة اللاجئين التي تؤجج اوروبا، قلت، اولئك الذين هربوا من سورية وافغانستان، لم يصلوا الى بريطانيا. قسم قليل وصل. «هذه هي المفارقة»، قال بلاك، «رغم أنهم لم يصلوا، إلا أنهم تحولوا الى سلاح في الصراع على الاستفتاء. نايجل فرج، السياسي الذي ربح من كراهية المهاجرين، تصور قبل اسبوع من الاستفتاء أمام لافتة ضخمة لجموع اللاجئين السوريين الذين يسيرون على حدود كرواتيا. وقد سمى ذلك «نقطة انكسار» وكأن هؤلاء اللاجئين يسيرون نحو شواطئ بريطانيا. وضع كراهية الاغيار في شعار لافت جدا – أعيدوا لنا السيطرة. هذا كان كذبا لأن السيطرة كانت طول الوقت في أيدينا. لم يجبرنا الاتحاد على فتح البوابات». لكنكم قمتم بفتحها، قلت. «كان ذلك خطأ حكومة الليبر»، حسب رأي بلاك، «لقد اعتقدوا أن الحديث يدور عن عشرات الآلاف لا أكثر. لكن من يؤيدون الانفصال لم يتوقفوا عند هذه القصة وزعموا أنه بعد قليل سينقض 70 مليون تركي على بريطانيا. تطالب تركيا بالانضمام الى الاتحاد الاوروبي، وأعلنت حكومة بريطانيا أنها تؤيد هذا الطلب. الحقيقة هي أنه ليس هناك فرصة لانضمام تركيا، وتأييد بريطانيا هو ضريبة كلامية، لكن الكذب نجح». كراهية الاغيار، قلت، توجد في جميع اوروبا. ما هو المغزى الخاص لما حدث في بريطانيا؟. «نحن نسمي أنفسنا المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى»، أجاب بلاك، «نحن غير موحدين، ويمكن أن لا نكون كبارا، ستذهب اسكتلندا الى استفتاء شعبي جديد حول مشاركتها في المملكة. الاتحاد الاوروبي جيد لها. نتيجة الاستفتاء الشعبي تعطيها المبرر للانفصال عن بريطانيا. في شمال ايرلندا يتحدثون عن الانفصال عن بريطانيا والانضمام الى ايرلندا التي هي عضو في الاتحاد الاوروبي. في جميع الحالات، حسب اتفاق السلام، كل شخص من سكان شمال ايرلندا يمكنه الحصول على جواز سفر ايرلندي، أي جواز سفر اوروبي. نظرا لأن السكان يكثرون من عبور الحدود واحيانا بشكل يومي، فانهم جميعا، بما في ذلك البروتستانت، سيطلبون الحصول على جوازات سفر ايرلندية. الآن الحدود مفتوحة تماما. بعد القرار سنضطر الى تجديد الحدود وهذا يخيفهم.