الـثـورة الثـقـافـيـة فـي إســرائـيـل .. بــدايــة الـفـاشـيـة-هآرتس
2016-07-11
في اسرائيل، مثلما في ارجاء اوروبا، يطرح في السنوات الاخيرة، في صيغ مختلفة، السؤال ذاته: هل ستعود ثلاثينيات القرن الماضي؟ التاريخ بالطبع لا يتكرر ابدا، لا في صورة مهزلة أو مأساة، كما قال كارل ماركس، ولكن السؤال المهم هو على المستوى المبدئي، والجواب هو أن المقارنة ذات المغزى حقا ليست بين عهدنا والعهد الذي بين الحربين العالميتين، بل بالذات العهد الذي سبق الحرب العالمية الاولى، قبل أن تعطي الحرب مؤشراتها. في حينه بدأت تنمو سياقات يمكن أن تستخلص منها الاستنتاجات الاكثر اثارة للاهتمام بالنسبة لاسرائيل اليوم.
عندما تجرى مثل هذه المقارنة يتبين ان الاضواء في اشارات التحذير عندنا بدأت تنتقل منذ الآن الى الاصفر. فثمانينيات القرن التاسع عشر كانت البداية الحقيقية للقرن العشرين، وفيها تبلورت الايديولوجيا الحديثة للقومية المتطرفة، تلك التي تجند جماهير الشعب ضد الديمقراطية الليبرالية والقيم الانسانية للتنور. في حينه تعمقت الكراهية لتراث حقوق الانسان في الثورة الفرنسية، واصبحت قوة ايديولوجية انتظرت اللحظة المناسبة لتصبح قوة سياسية حقيقية.
بالفعل، يمكن ان نقارن فقط ما يمكن مقارنته؛ ونحن لا نزال نعيش في الديمقراطية. صحيح ان هذه ديمقراطية الاسياد، التي تستعبد على نحو طبيعي مفزع شعبا آخر وتقيم في مناطق الاحتلال نظام «أبرتهايد»، الا أن لدينا احزابا وانتخابات، واليسار لا يزال لا يجلس في معسكرات الابادة. فحتى في ايطاليا موسوليني لم تكن معسكرات ابادة، ومن اختار السكوت، مثل عظماء المفكرين الايطاليين في عصره، بانديتو كاوتشيه، بعد أن تراجع عن تأييده النشط للفاشية في البداية – كان يمكنه أن يجلس بهدوء في بيته وألا يتحرش به أحد.
وعليه، فيجب ان نراجع السياقات التي أمامنا في تشكلها: هكذا يمكن ان نحاكي المسار الذي أدى من دحر القيم الثقافية والاخلاقية لليبرالية الى الفاشية الناضجة. هكذا يمكن ايضا ان ننظر الى الطريقة التي تطورت فيها الفاشية الألمانية، غير النازية وما قبل النازية. الفاشية غير النازية، تلك التي لامست النازية فقط، وكانت نقدية – بهدوء وبتواضع – تجاه نظرية العرق، هي تلك التي في عهد جمهورية فايمر شقت طريق الطبقة الوسطى العليا، المثقفة، الى اذرع النازية. من الصعب بشكل عام ان نتصور طريق النازية الى الحكم دون سياق الحرب الطويلة والعنيدة ضد الديمقراطية الليبرالية. والشوط الطويل الذي قطعه معها الفاشيون. وفي هذا السياق يقال على الفور ان الفاشية والنازية هما ظاهرتان، تلامس الواحدة الاخرى، بل وتشبهان بعضهما من نواح عديدة، ولكن في جوهر الامر هما ظاهرتان تختلف إحداهما عن الاخرى: الفاشية كانت هجوما عاما على تقاليد التنور، على فلسفته، وعلى الفكر الانساني، اما النازية فكانت ظاهرة وحشية. لم يسبق أن كان للفاشية، حتى في عهدها الاسوأ، الطابع الشيطاني الذي كان للنازية. كما كانت هناك تنوعات من الفاشية ودرجات من التطرف داخل الحركات الفاشية نفسها. في الحزب القومي الفاشي الايطالي كان هناك جناح لاسامي علني ونشط، ولكن القوانين العرقية سنت بعد 15 سنة من دعوة موسوليني الى تشكيل الحكومة. حتى ذلك الحين كانت نسبة اليهود بين اعضاء الحزب أعلى من نصيبهم النسبي في عموم السكان.
ولكن ما يثير الاهتمام والاهمية في الفاشية ليس لباسها الايطالي، بل كونها ظاهرة عموم اوروبية. فالى جانب الاسباب العميقة التي أدت بموسوليني الى الحكم فإن الطريقة التي دارت فيها حركات واحزاب مناهضة للديمقراطية في البلدان التي تصل فيها الفاشية الى الحكم مثيرة للاهتمام. بهذا المفهوم تشكل فرنسا مجموعة رقابة مثالية، إذ هناك عملت حركات ما قبل الفاشية والفاشية حتى قبل سقوط الديمقراطية وقيام الدكتاتورية غداة الهزيمة في 1940. في فرنسا نشبت حتى في الفترة الانتقالية بين القرنين الازمة الاولى الكبرى للديمقراطية الليبرالية، والتي حملت معها المؤشرات الواضحة الحديثة لرفض الديمقراطية باسم الشعب، ظاهرة جديدة، سرعان ما تطورت الى الفاشية.
هنا بالفعل توجد نقطة البداية. في الدول الثلاث الكبرى في اوروبا الغربية، ألمانيا، فرنسا وايطاليا - رغم الفوارق الكبيرة في تاريخها القومي – تطورت تيارات مشابهة من التآمر على الاسس الديمقراطية الليبرالية وتطوير قومية متطرفة. وتشكل قضية درايفوس حالة محك، وهذه هي اهميتها الحقيقية في التاريخ الحديث. ولكن سبقت قضية درايفوس الازمة التي حملت اسم الجنرال بولنجا، في العام 1889: كانت هذه هي المحاولة الاولى، التي كانت لا تزال بدائية، للانقضاض الحديث باسم الشعب على الطريقة الديمقراطية – الليبرالية التمثيلية. وليس صدفة أنه هنا سجلت ايضا شهادة ميلاد اللاسامية كقوة سياسية في المجتمع الديمقراطي. فاليهودي كان الاساس المناهض للقومية، العدو من الداخل، الذي يجب ازالته او تحييده على الاقل. وهنا بدأت تتبلور فكرة سياسية جديدة، اساسها الثورة العامة ضد التنور، ضد فكرته القومية، ضد رؤية المجتمع كمجموع للافراد الاحرار والمستقلين.
ان فكرة القومي كهيئة تنظيمية تطورت في القرن الثامن عشر في ألمانيا (يوهان غوتفريد هاردر) وفي انجلترا (ادموند ارك) كثورة ضد التنور الفرنسي؛ ولكن فقط في نهاية القرن التاسع عشر بدأت تحصل على طابعها الهدام. القومية هي نتاج تاريخ طويل، مثل الشجرة التي لا توجد فروعها والاوراق التي تنبت عليها الا بفضل وجود الشجرة كلها. القومية تسبق بني البشر كأفراد، مثلما الشجرة تسبق فروعها، وعليه فان كل ما يضمن وجود القومية ومستقبلها صحيح ومبرر بمجرد التعريف، ولا حاجة ليوضع تحت أي اختبار اخلاقي او قانوني. حقوق الانسان لا توجد لا في الطبيعة ولا في التاريخ، وهي ليست الا ابتكارا بائسا للتنور. ليس لبني البشر حقوق أخرى غير تلك التي يمنحهم اياها المجتمع: المجتمع هو قبيلة، ونتاج التاريخ؛ القومية هي جسد حي ذو طابع خاص، وهي ذات روح خاصة، ولغتها هي التعبير عن المبنى العقلي المميز لها. ولاحقا، كلما تقدمنا مع سنوات القرن العشرين، تبين أن العنصر العرقي تعزز، واعتبرت القومية ليس فقط ذات طابع مميز تاريخي بل وايضا ذات تميز بيولوجي.
ولهذا الكمال الرائع للقومية خطر دائم يتمثل بفقدان الهوية، ما يستوجب نصب سور دفاعي. فالعدو يتربص من كل صوب: قد يكون هذا عدوا خارجيا، مثلا، الروح الألمانية في عيون الفرنسيين، او الروح الفرنسية او الانجليزية في عيون الألمان؛ ويمكن لهذا أن يكون عدوا داخليا – الاجنبي والآخر. في الفترة الانتقالية بين القرنين كان العدو هو اليهودي، الآخر المطلق. والقومية ليست شركة مساهمة ينضم الناس إليها حسب الارادة او الحاجة بل هي جسد حي ومتنفس. ومن هنا تنبع مراتبية واضحة: جمهور المواطنين، الذي يضم ايضا من ليسوا من ابناء القبيلة هو جمهور مصطنع وبالتالي سيكون دوما دونيا.
إن الاعداء الاكثر تدميرا للجمهور القومي هم المثقفون العالميون، ممن يحملون القيم الكونية، كالحقيقة او العدالة. هذا ما قيل في قضية درايفوس: لا توجد حقيقة واحدة، الحقيقة متعلقة بزاوية النظر، وهي تنبع من الروح القومية. ومن يخضع الحقيقة القومية لحقيقة كونية واحدة، متساوية للجميع، يرتكب جريمة بحق القومية. هذا نوع من التفكير ليس غريبا على الاسرائيليين ابناء عصرنا.
من كل صوب في اوروبا ينطلق النداء ذاته: الشعب البسيط، الفلاح الذي يشق التلم في ارض ابائه واجداده، صاحب الحرفة وفروعه في الضاحية، العامل الذي لا يفهم الماركسية، الناس الذين لا يتعرفون على الثقافات الاجنبية، ممن لا يهتمون بكانت وبروسو، هم حملة الحقيقة القومية. ومقابلهم، من يعلمون بان المجتمع ليس اكثر من مجموع الافراد. حرية النقد وحرية التعبير عن الاراء التي ترفضها الاغلبية تتآمر على شخصية الامة. والاستنتاج واضح: من اجل انقاذ الامة مطلوب ثورة ثقافية، تجعل الناس البسطاء سورا منيعا يقف في وجه مظاهر العفن. كان هذا هو الابتكار الاكبر الاول لذاك الزمن: الجموع ستكون دوما الاغلبية، وبالتالي يمكن تجنيد حق الاقتراع العام ضد قيم الديمقراطية والليبرالية حقوق الانسان. هذا ايضا يفهمونه في اسرائيل جيدا، اذ ان هذا هو معنى الثورة الثقافية التي نجتازها.
في العام 1897 صدرت احدى الروايات السياسية الاولى للقرن الذي كاد يوشك على القدوم، ان لم يكن أولها، «المقتلعون»، بقلم الكاتب الفرنسي الشهير في العالم الفرنكفوني، موريس بارس. وقد سبقت مضامينه قليلا افكار غيدي طؤوب، نفتالي بينيت، وميري ريغيف. فالنخبة المثقفة منقطعة عن جموع الشعب، فقد اقتلعت من جذورها من قبل الاخلاق الكانتانية، الانسانية والكونية. قيم التنور التي انغرست في جهاز التعليم الجمهوري، تفرغ القبيلة من قوتها الحيوية: فالفهم يجفف الاحساس الغريزي، بدلا من ان يعظم شعور التراص القبلي، والادمان على العقلانية يضع القومية في خطر وجودي. وقد وصلت هذه المنظومة الايديولوجية الى نضجها قبل زمن طويل من الحرب العالمية الاولى.
هكذا كان ايضا في ايطاليا وفي ألمانيا. خط مباشر يربط بين حرب كروتشيه ضد التنور والقيم الانسانية في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الاولى وبين تأييده لموسوليني، حين بات جوهر النظام الجديد باديا للجميع. السناتور كروتشيه، الفيلسوف الليبرالي، كان مقتنعا جدا بالدور التاريخي للفاشية في حربها ضد اليسار، حيث أيد حكومة موسوليني حتى عندما أخذ زعيم الفاشية على عاتقه مسؤولية شخصية عن قتل احدى الشخصيات البطولية للحركة المناهضة للفاشية، جكومو ماتيوتي. وهو الحكم في مدرسة «الثورة المحافظة» في ألمانيا، من السنوات الاخيرة للقرن التاسع عشر وحتى جمهور فايمر، مع أوسفالد شبينغلر وآرنست يونغر.
ودرءاً للخطأ: الفاشية هي قبل كل شيء القومية المتطرفة، آلة حرب ضد الليبرالية كمنظومة قيم، ضد جمهور المواطنين المصطنع، باسم الجموع ذوي الاحاسيس «السليمة» ممن لم يصيبهم بعد فيروس التنور وحقوق الانسان للثورة الفرنسية. الفاشية في تشكلها كانت قبل كل شيء ظاهرة ثقافية مندمجة بالتغييرات الواسعة التي وقعت في الفترة الانتقالية بين القرنين. من جهة استوعبت القومية الثقافية عناصر من الداروينية الاجتماعية، ومن جهة اخرى طرأ تغيير دراماتيكي في النظرة الى الانسان. الانسان – هكذا علم غوستاف لا بون، من مؤسسي علم النفس الاجتماعي، في العقد الاخير من القرن التاسع عشر – ليس مخلوقا عقلانيا للتنور، بل مخلوق تحركه المشاعر، الغرائز، المخاوف والكراهية. من هنا ينبع ان السياسة في الديمقراطية هي فن استخدام الجماهير ليس من خلال التوجه الى فهمهم بل التوجه الى مشاعرهم، احباطاتهم، وغرائزهم الاساسية، بما فيها ادناها (كتابات لا بون حظيت بنجاح مدو: فقد نشر 250 مقالا في المجلات واصدر عشرات الطبعات من الكتب التي ترجمت الى 16 لغة). كانت هذه هي طبيعة الديمقراطية ما بعد الليبرالية الجديدة، وهناك من يشتاقون إليها في اسرائيل اليوم ايضا.
هذه هي بعض من مضامين الثورة الثقافية التي تجري الآن في اسرائيل، حرب السخافة ضد النخب الليبرالية «القديمة» وضد التراث الانساني الغربي. ثقافة الكذب، الديماغوجيا، التحريض الفظ ضد المعارضين، تحديد العدو من الداخل والضغط على المؤسسات الثقافية للسير على الخط حسب ما يمليه الحكم، تنال الزخم. الانسجام مع الخط وعبادة الاجماع، الرقابة الذاتية، الجبن والانبطاح باتت موجودة، والحرب ضد السلطة القضائية في ذروتها. استخدام الاغلبية البرلمانية لتحطيم قواعد اللعب الديمقراطية الليبرالية بات نمطا مقبولا. ويبقى مفتوحا السؤال هل التتمة المعروفة من العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي تكمن لنا أيضا، أم ستكون فيها القوة للوقوف في وجه قوى الدمار؟