:مصدر المقال
https://ajalia.com/article/10308

الديماغوجيا اليمينية تمهّد الطريق لصعود الفاشية في اسرائيل

2016-07-18

بقلم: شلومو أفنيري
كلنا مدينون بدين هائل لزميلي وصديقي البروفيسور زئيف شتيرنهل على المقال الذي نشره هنا قبل اسبوع "الثورة الثقافية مجرد البداية" ويبين شتيرنهل – من كبار باحثي الفاشية في العالم إن لم يكن أكبرهم - في مقاله أن صعود القومية المتطرفة، العنصرية، والفاشية يجب فهمها ليس فقط كظواهر سياسية، بل ينبغي رؤيتها في سياقها الاجتماعي كانتقاد ثقافي لتراث التنور. فليست الازمات السياسية والاقتصادية هي التي رفعت هذه الحركات الى الحكم: فلو لم تمهد التربة ثورة ثقافية، وعداء لقيم الليبرالية والديمقراطية، لما كانت حققت التعاطف الهائل الذي نالته.
يركز شتيرنهل على الدول الثلاث الكبرى – فرنسا، ألمانيا وايطاليا – ويشير الى علامات التطرف القومي والفاشي في أواخر القرن التاسع عشر. ولكن المسألة لا تنحصر في التاريخ الفكري: فالسؤال هو لماذا نجحت هذه الأمزجة في ان تجرف وراءها الجماهير من كل طبقات المجتمع بالذات بعد 1918، وتحولت من مدارس فكرية الى حركات جماهيرية. الجواب يكمن في الحرب العالمية الاولى وفي آثارها على هذه الدول. وكانت الآثار مختلفة في كل واحدة منها، ولكن بعد 1918، كل المجتمعات الثلاثة التي بحث فيها شتيرنهل كانت مرضوضة ومصابة، والكثير من مواطنيها رأوا أنفسهم مهانين ومنبوذين وشعروا بالاغتراب تجاه النخب الاجتماعية.
بدأ هذا التطور في فرنسا قبل ذلك، وهو ايضا يرتبط بالهزيمة العسكرية، أمام ألمانيا في حرب 1870 – 1871. فقد اعتقد اليمين الفرنسي المناهض للجمهورية، والذي كانت له جذور عميقة في قمة الكنيسة، طبقة النبلاء والجيش، بان سبب الهزيمة هو تبني القيم الكونية للتنور على حساب الوعي القومي والتقاليد الدينية. وفي تلك المناسبة كان يمكن القاء الذنب ايضا على يهود فرنسا العالميين، الذين كانت لهم وليس فقط الروتشيلديين جذور ألمانية. والمحاولة الفاشلة للجنرال بولنجا لخوض انقلاب مناهض للجمهورية في 1889 باسم قيم الامة الفرنسية، يذكرها شتيرنهل وعن حق كحدث تأسيسي في سياقات تبلور هذه القومية المتطرفة.
ومع أن فرنسا كانت مع المنتصرين في الحرب العالمية الاولى، إلا أن العدد الرهيب للضحايا، عدم قدرة جيشها على حسم حرب الخنادق، والحاجة لمساعدة الولايات المتحدة من اجل الانتصار في الحرب، تسللت الى الوعي السياسي الفرنسي بعد 1918. ومع ان الهزيمة الفرنسية المهينة في 1940 والتي رفعت الى الحكم اليمين المتطرف بقيادة المارشال بتان عرض حكم فيشي نفسه كبديل للجمهوريات ولتراث التنور (وعليه فقد غير اسم فرنسا ايضا ليصبح من الآن فصاعدا "الدولة الفرنسية" بدلا من "الجمهورية الفرنسية"). وقد تضمن هذا ايضا اقصاء اليهود، حملة الجرثومة الجمهورية، عن الحياة العامة والاقتصادية، وفي نهاية المطاف التعاون مع "الحل النهائي" للنازيين.
ألمانيا بعد 1918 كانت دولة مهزومة ومهانة: فمعاهدات فرساي، التي مزقت اجزاء من اراضيها، احتلال فرنسا اقليم الراين، سحق الجيش الألماني وتقييد تسليحه، القاء ذنب الحرب على ألمانيا والزامها بدفع التعويضات – كل هذه قوضت شرعية النظام الجمهور ودستور فايمر. وكان أحد نجاحات هتلر في عرض نفسه كـ"جندي بسيط" يقف في وجه النخب الليبرالية والاشتراكية، وضد اليهود حملة الكونية. ما نسي هو حقيقة ان المصيبة اوقعتها على ألمانيا سياسة الطموح واحلام التوسع الامبريالية لقيادة الجيش. وحده إحساس الهزيمة والاهانة سمح للافكار القومية المتطرفة والعنصرية بالاندفاع من الهوامش نحو المركز.
في ايطاليا كانت الصورة مركبة اكثر: صحيح أن ايطاليا كانت في جانب المنتصرين، ولكن في الحرب فشل جيشها في قتاله ضد الامبراطورية الابسورغية، وبعد الحرب اعتقد الجمهور الايطالي بان دولته لم تنل الانجازات الاقليمية التي وعدتها بها بريطانيا وفرنسا مقابل انضمامها الى الحرب الى جانبها. كما أن عدم قدرة الحكومات الضعيفة في روما على استقرار الاقتصاد ولجم الحركات العمالية الراديكالية التي سيطرت على المشاريع الصناعية، ساهمت في الاحساس بالازمة. ويشير شتيرنهل الى المواقف الفلسفية العدمية لبنتو كروتشيه، ولكن الاساس لـ"مسيرة روما"، الذي قدمته الجماهير، بعضهم عمال عاطلون عن العمل وجنود مسرحون كادحون، ولم يجدوا مكانهم في المجتمع بعد ان كرسوا سنوات – مثل موسوليني نفسه – للقتال في الجبهة.
باختصار، الاساس الفكري لصعود الحركات القومية المتطرفة والفاشية أعدته بالفعل مجموعة من المثقفين اعداء تراث التنور منذ نهاية القرن التاسع عشر، ولكن ما جعلها ذات قوة سياسية (او بلغة ماركس، ما سمح بتحول النظرية الى ممارسة هو تبني الجماهير لها). كان الواقع، الذي انجرفت فيه الجماهير بفعل الاحاسيس الشديدة للاهانة القومية وانعدام الوسيلة الاجتماعية؛ فهذه الجماهير شعرت بانها مقصية عن السياق الديمقراطي الذي اعتبرته كمعبر عن ارادة النخب التي تنكرت "للمصالح الحقيقية للشعب".
احدى المفارقات التي لا يمكن تجاهلها هي حقيقة ان الحركات القومية الراديكالية والفاشية لم تنجح في الصعود الى الحكم في دول امبريالية قوية: لا في بريطانيا ولا في الولايات المتحدة. الفاشية، كما يتبين، ليست نوعا من الامبريالية العدوانية والمسيطرة، بل تعبير بالقوة والعنف عن احباطات واحساسات بالضعف.
لهذه الاقوال آثار على أيامنا: صعود دونالد ترامب وانتصار خروج بريطانيا من الاتحاد هما ايضا تعبيران عن احساس بالضعف واحباط من طبقات واسعة. وحتى لو لم يكن هذا فاشيا. ثمة هنا بالتأكيد علامات مقلقة. يعزف ترامب على الاحساس بالظلم والضعف لاجزاء من الطبقة الوسطى – الدنيا وطبقة العمال الاميركية البيضاء، وعلى مخاوفهم من المهاجرين المكسيكيين ويعدهم بان "يعيد" اليهم دولتهم القوية، المسيطرة في العالم، التي تدهورت بسبب ضعف اوباما. أما المؤيدون لخروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي، فقد استجابوا هم ايضا للدعاية التي عزفت على اوتار مشابهة – فقدان السيطرة على الحدود والخوف من اغراق بريطانيا بموجات من المهاجرين. وهذا حصل ايضا في فرنسا. وبالحذر اللازم، ينبغي الاشارة ايضا الى أن "غوش ايمونيم" لم تنشأ في عهد حماسة القوة لاسرائيل بعد حرب "الايام الستة"، بل بالذات بعد أن اثارت حرب "يوم الغفران" احساسا في البلاد، محقا وان كان مبالغا فيه، بالهشاشة وربما بالضعف ايضا.
لكل ثمة معنى بالنسبة لطريقة الكفاح في اسرائيل ضد الميول التي يحذر منها شتيرنهل. فالجماهير التي اندفعت في حينه – وتندفع اليوم – نحو الحركات المتطرفة، التي تتدهور نحو القومية المتطرفة، كراهية الاجانب بل الفاشية، لم تتعمق بالضرورة في الجدال الثقافي على تراث التنور. فقد وقعت ضحية لديماغوجيا متملقة للجماهير وكراهية الاجانب التي استغلت الاحاسيس – الحقيقية أو الوهمية – من الاهانة والاحباط، على المستوى الشخصي والقومي. اشك اذا كانت مراجعة معمقة لكتابات كانت او فولتير (الاخير لا سامي بعض الشيء ايضا، ولكن هذه قصة اخرى) ستغير موقفه.
ما ينبغي عمله هو دحض الديماغوجيا اليمينية التي تربط بين "الارهاب" الفلسطيني والكارثة، والعودة مرة تلو الاخرى على اننا دولة قوية – حتى لو كانت مهددة – وتشديد مظاهر الضعف التي تمزق اليوم المجتمعات العربية وبشكل غير مباشر تعزز اسرائيل. كما هو مرغوب فيه الى جانب ذلك مثلا الكف عن هتافات التحقير نحو وزيرة الثقافة والرياضة، حتى لو لم تكن مواقفها مقبولة من اولئك الذين يرون انفسهم جزءا من تراث التنور. الجدال الموضوعي المعمق واللاذع مع مواقفها – نعم؛ اما سلوك الرعاع فلا. من الواضح ان كل حدث كهذا يخدم ميري ريغف، ويعظم فقط التأييد لها في اوساط تلك الطبقات التي لم يجد المتبنون للقيم الكونية الطرق الى قلوبهم.
وبالتوازي، في قبالة القومية المتطرفة الفظة لليمين في اسرائيل، يجب عرض التأييد لحق الشعب اليهودي في تقرير المصير في دولته، الحق المكتسب باسم المبادئ الكونية لتقرير المصير للقوميات. من يؤيد حق الفلسطينيين في دولة قومية ويتنكر لحق اليهود في ذلك، لن يحظى بالتأييد في اوساط الطبقات التي تنجر اليوم وراء الديماغوجيا القومية والدينية لليمين.
يشير شتيرنهل ايضا – وعن حق – الى مساهمة يوهان غوتفريد هاردر وادموند بارك في انتقاد التنور، ولكن يخيل لي ان الصورة مركبة اكثر بقليل وليس مناسبا القاء الرضيع مع الماء، مثلما محظور ادانة فولتير وروسو بسبب الارهاب اليعقوبيني او شجب ماركس بسبب جرائم ستالين، هكذا ايضا بالنسبة لهاردر وبارك.
باختصار طالب هاردر باسم المبادئ الكونية للتنور باحترام التقاليد الثقافية اللغوية والادبية لكل الشعوب، ولا سيما الشعوب الصغيرة وعدم اخضاعها تلقائيا للنظرات الفرنسية للتنور. وهكذا كان مصدر الهام لحركات التحرر القومية الكثيرة، ولا سيما في وسط وشرق اوروبا، ممن قاتلوا في القرن التاسع عشر ضد القمع الامبريالي الروسي والألماني. وليس صدفة ايضا ان احد كتاباته المهمة التي نشرها في 1782 يسمى "عن الشعر العبري" الذي يمجد المساهمة التاريخية للشعب اليهودي في الشعر والثقافة العالمية، وليس فقط في صعود المسيحية. هذا موقف متنور وتعددي يأتي على لسان قسيس بروتستانتي في القرن الثامن عشر نجح في التعالي على الهيمنة المسيحية.
اما بارك فيعتبر عن حق مؤسس المحافظة الحديثة، ولكن يجب الا يتجاهل بانه نشر في 1790 "افكارا عن الثورة في فرنسا" وحذر من أن بعضا من مبادئها المبسطة، غير المغروسة في التاريخ وفي الوعي السياسي لطبقات واسعة، من شأنها أن تؤدي الى دكتاتورية ثورية عنيفة، مثلما حصل بعد بضع سنوات من ذلك، في ايام ارهاب روبسبير.
فضلا عن ذلك، قبل بضع سنوات من ذلك دافع بارك، في خطاباته في البرلمان البريطاني عن حقوق المستعمرات البريطانية في شمال اميركا في وجه طغيان التاج والبرلمان في لندن، موقف يحتاج الى شجاعة غير قليلة، ودفع ثمنا سياسيا باهظا بسببه. عندما يسعى شتيرنهل وأنا – وكثيرون آخرون – الى تعليل مطلب الفلسطينيين في الا يعيشوا تحت حكم اسرائيلي، الذي يحرمهم من حقهم في الحرية والسيادة، يمكننا أن نستعين بين الحين والآخر بتعليلات بارك ضد الامبريالية البريطانية. فالتاريخ ليس فقط حرب أبناء النور ضد أبناء الظلام.