أقدام الكوشي و<<الدبكة الشعبية>>... عشقُ لتراث الأجداد يعانق أرض الفرح
2013-06-29
هذه المرة حملت "فلسطين" العيش والملح إلى مائدةٍ تراثية قديمة زينتها فناجين القهوة السادة، حيث تحلق حولها أناسُ لطالما عشقوا التراث الفلسطيني الأصيل ليكتبوه شعراً مُغنى، وبرقصات شعبية معروفة يهز أصحابها أرجلهم فرحاً وإحياءً للتراث الجميل، ويكسبون بها قوت أبنائهم.
" الدبكة الشعبية الفلسطينية ".. تعتبر من أهم الفنون التراثية للشعب الفلسطيني التي تشبهه في أصالته، كما تمتاز بأنواعها الكثيرة و"حجلاتها" المتعددة التي لطالما أضفت نكهة الفرح لزفات أعراسهم ومهرجاناتهم الوطنية.
قفزت فكرة التقرير في عقلي عندما رأيتُ فرقة للدبكة في أحدى حفلات الزفاف، فأعجبني أداؤها كغيري من الحضور، فقد جذبتني الوجوه السمراء لتلك الفرقة التي بدت عاشقة لهذا الفن، أما تساؤلي الأول الذي كان يتأمل بدهشة قفزاتهم صعوداً وهبوطاً " كيف لهم أن يكونوا موحدين في كل حركة وحجلة بهذه الدرجة الفائقة؟!".
حجزُ لهدفٍ آخر!!
رحلتي بدأت بشاب ( أسمر البشرة) استحوذ على أبصار الحضور برقصاته السريعة في تلك الحفلة، كان من الواضح ثقته العالية بنفسه وبأدائه للدبكة، وربما هذا ما ميزه عن سائر رفاقه بحركات ورثها عن والده وأعمامه.
من بين عشرات المعجبين من الناس تمكنتُ من شد يد الشاب "الكوشي" كما يلقبونه رفاقه الذين يقود فرقتهم المسماة "بأنغام الربيع" التي تنشر شذاها في كافة أنحاء قطاع غزة، وقبل أن يجفف عرقه الذي تناثرت قطراته على جبهته السمراء، سألته عن اسمه فردّ بابتسامة أبرزت بياض أسنانه " أيمن زايد " وقبل أن أهم بتوجيه سؤال آخر، سبقني بابتسامته وقال:" لا تقل لي أنك تود أن تحجز هذا الشهر، لأن شهور الصيف كلها عنا " full "، فأخبرته بابتسامة أخرى أنه لم يحن وقت زفافي بعد، وطلبتُ منه أن يحدد لي موعداً في بيته "لدردشة صحفية"، رحب بي ووعدني بمفاجأة سارة عند زيارته.
هناك في "حي التوام" شمال مدينة غزة وتحديداً في الشارع الذي وصفني إياه "الكوشي الدبيّك" استقبلني بعض الأطفال السُمر وهم يتلاعبون، حيث تنافسوا جميعهم في ندائه بأعلى صوت " يا كوشي..."، إلى أن خرج أيمن زايد ليرحب بـ "فلسطين" بعبارات بدوية اللهجة في بيته المتواضع....جلستُ على أريكة مزركشة بألوان غلب عليها الطابع البدوي وذكرتني بما شاهدته بمعارض التراث الفلسطيني....كنت أثناء ذلك كله أتساءل "ترى ما هي المفاجأة!"....في تلك اللحظات كانت أذني تتجه نحو صوت "دقة دبكة" ويرغول ومزمار وهي الآلات الموسيقية التي تستخدم في الدبكة، حيث كان صوتها ينبعث من جهاز حاسوب لديه، أما عيني فكانت توزع نظراتها على صور كثيرة معلقة على الجدران لفرقة الدبكة التي يقودها "الكوشي".
تلك هي المفاجــأة!
لم يقبل الكوشي أن نبدأ اللقاء الصحفي إلا بعد أن تأتي المفاجأة المنتظرة، فإذ بصوت رجل عجوز يخترق هذا الترقب، حيث دخل علينا بطلتّه السمراء وجبهته المجعدة، وأسنانه التي تآكلت بفعل دخانه العربي ذي الرائحة النفاذة، بينما سيجارته تعانق شفتيه وهو يتأملني بصمت كسره الكوشي، عندما قال :" هذا الرجل هو المفاجأة، اسمه شحدة خضر صالح عبدان (60عاماً) دبيّك قديم من "أيام البلاد" ويلقب بأبي خضر، من تراه هذا هو موسوعة متكاملة عن الدبكة الشعبية والتراث الفلسطيني.
وأضاف الكوشي: والدي خضر صالح عبدان، وجدي صالح , وأعمامي إبراهيم وسليمان, كلهم كانوا دبيكة قدماء وتوارثناها أباً عن جد ".
ويروي "أبو خضر" بلهجته البدوية القديمة بقدم "شرواله" الأبيض حكاية عشرته مع الدبكة وأهلها، معتبراً نفسه هو "من أعز أهلها " وأخذ يرددّ مراراً:" شغاّلين دبكة من أيام البلاد، فقد مارستها منذ كان عمري 6 سنوات، وتعلمتها من أبي وأعمامي حينما كانوا يمارسونها في ليالي السمر الصيفية، وبحمد الله الآن أصبحت من مورثيها للأجيال التي أتت من بعدي".
وبلهجة المشتاق إلى بلاده وصيفها وبحرها وخيراتها مضى أبو خضر في قوله :" إحنا أصلنا من روبين قضاء يافا, كان أهل فلسطين كلهم يجتمعون في موسم النبي روبين والذي كان يمتد لثلاثة شهور, وفي تلك الفترة كنا نرقص الدبكة، وكان الناس يشجعوننا ويتشوقون لمشاهدة الحركات التراثية والثوب الفلسطيني الخاص بها ".
ويستذكر هذا العجوز رفاقه القدامى الدبيكة, عندما اتفقوا على أن يشكلوا فريقاً للدبكة الشعبية بعد هجرتهم إلى معسكر جباليا, حيث أصبحوا يعملون على إحياء حفلات الأعراس بالدبكة الشعبية والغناء التراثي بأنواعه المختلفة.
كان وميض الحنين يزداد اتساعاً في عيني العم "أبو خضر" وهو يتحدث عن ماضيه، وتاريخ أبيه وأجداده في هذا " الكار".
وعن المواقف المثيرة في حياة "أبو خضر"، قال أنه في أحد المهرجانات الوطنية في بيروت كانت تحييه فرقة دبكة تسمى "فرقة العاشقين" فانتقد مؤسس الفرقة، قائلاً له :" هناك أرجل غير فلسطينية في هذه الفرقة "، وما كان من هذا المؤسس إلا أن اعترف بأنه بالفعل هناك اثنين من الدبيكة اللبنانيين في الفرقة.
أسرار الجفرا والدلعونا!!
بدأ الحديث يتخذ منحنى آخر من التشويق، عندما أخذ يتحدث عن جذور الدبكة، بقوله:" لكل شعب فلكلور خاص به، وفي فلسطين يشتهر فلكلور الدبكة التي يختلف من منطقة إلى أخرى حتى في فلسطين".
وعن أسماء وأنواع الدبكات المختلفة... رفض العجوز الفلسطيني الإفصاح في بادئ الأمر، محتفظاً بها لنفسه لأنه حسب تبريره يعزم على تدوينها في كتب تنشر باسمه، حيث استغربت منه وبعد طول إلحاحٍ مني ومن "الكوشي" الذي أنا بضيافته قبلَ أن يفصح عنها وعن أسرارها, ولكنه طلب مني أن أحث الجهات الرسمية كوزارة الثقافة بالتوجه إليه وطباعة ما عنده من معلومات عن الدبكة والتراث في كتب.
وكان أول ما أفصح عنه هو أول أسماء الدبكة ( الدلعونا ) الذي عرفه بأنه اسم فتاة كان الشاعر يتغزل بها في القديم ويقول " على دلعونة على دِلعونة *** راحوا الحبايب ما ودعونا" .
أما ( ظريف الطول ) فقال: " هي الفتاة أو الشاب جميل الطول, حيث كان الشاعر يتغزل ويتغنى، " يا ظريف الطول يابو سن ضحوك *** يلي رابي في دلال أمك وأبوك ".
و اسم ( الجفرا ) أوضح أبو خضر أنها الفرس التي لم تحمل من قبل وكان الشاعر يتغنى بها كناية عن البنت البكر, ليقول " جفرا وهي الربع بين العشب الأخضر *** قلبي أنا بحبكم يا عالم بتمرمر ".
والأسماء لم تنته بعد، فهناك رقصة الطيارة وهي أحد أنواع الدبكة، وتسمى بهذا الاسم لأن القفز فيها أكثر من المشي وتسمى بـ"الشمالة", وعن دبكة الشايب فيتغنى بها الشاعر " يا حري ع الشايب يا حري عليه *** لحطه في الجرة وأسكر عليه ", وعن رقصة ( الهودلك ) وهي تعني " على مهلك" ويغني بها الشاعر قديماً " يا هويدلك يا هويدلي *** نارك ولا جنة هلي ".
ويتابع "الدبيك القديم" بابتسامة تراثية استعاد فيه روح الدبكة والشباب: " كنت قديماً أعمل كـ" لواح " لفرقة الدبكة، واستوقفتنا الكلمة فأجاب :" اللواح هو الدبيك الذي يلعب بالأمام، ويمسك بيد رفاقه وبالأخرى يلوح بمسبحة أو بمنديل أو بعصا ".
وينتقد أبو خضر فرق الدبكة الحديثة بشيء من العصبية:" هناك نواقص كثيرة في الفرق الموجودة اليوم، " واللي بدو يعرف الدبكة على أصولها لازم يرجع للمراجع مش الكتب بل الأشخاص اللي عايشوا بداياتها ".
وعن آخر مرة مارس فيها الدبكة، أشار "أبو خضر" إلى أنها كانت في عام 1994 ، وآنذاك كان في الخمسينات من عمره, معرباً عن عدم تفاؤله بأن تعود الدبكة إلى سابق عهدها ومجدها الأول.
بدأتها من السجن
الحديث الشيق مع موسوعة ممثلة في رجل عن تراثنا الفلسطيني الأصيل، لا يُمل على الإطلاق، ولكن كوننا جئنا لزيارة "الكوشي" فكان لا بد له أن يحدثنا عن بداياته مع هذا الفن"، الذي قال :"شو ضل حكي بعد الموسوعة التراثية – مشيراً إلى أبو خضر".
ويروي حكاية بداياته الأولى مع الدبكة التي ابتدأها من سجن النقب منذ أن كان يبلغ من العمر (15 عاماً), حيث كان يمارسها للترفيه عن السجناء ولإقامة المناسبات الوطنية.
ويقول: إن الدبكة أصبحت جزءاً هاماً من حياته وأنه يعتبرها كأحد أبنائه الذين يعلمهم الدبكة ليل نهار، وعن سر تمسكه بها، أجاب:" أنا كنت أشعر أنها ستذهب بلا عودة، ولكن نحن نحرص على تعليمها لأبنائنا كي يمارسوها من بعدنا، ويعلموها لكل فلسطيني يعشق أرضه ووطنه".
وناشد الكوشي كل فلسطيني على وجه الأرض بالتمسك بالدبكة وبالتراث الشعبي الفلسطيني, وانطلق مسرعاً إلى غرفة، قال: إنه خصصها للدبكة ليعرض أثواباً متعددة من الأثواب الخاصة بالدبكة منها " الشروال – وهو البنطلون الفضفاض الواسع من أعلى والضيق من الأقدام والذي يصل بوسعه أحيانا إلى 16 متراً, والقمباز، يشبه البالطو وهو مصنوع من الصوف والشملة، وهي الحزام الذي يلف على خصر الدبيك وممكن أن يصل طولها إلى 12 متراً).
مع الأسف مضى الوقت الممتع سريعاً....حيث خرجت من منزله ولا زلت معتقداً بأنه بقي الكثير في جعبة هؤلاء السمر، وودعني "الكوشي" وانتهيت معه ممازحاً بأنه عندما يحين موعد زواجي فعليه أن يهديني فقرة الدبكة، فما كان منه إلا أن رد وكعادة أهله من البدو بوعده بذلك بجدية وقال :" أنت انوي وإحنا جاهزين .. وبابتسامة ساحرة، أضاف :" بس خبرني قبل بشهر أو شهرين مشان ما تكون أيامنا كلها" فُل ".
محمد السوافيري