صراع نفوذ ومصالح .. فأين المصلحة الفلسطينية ؟-فتحي كليب
2016-08-15
الازمة السورية المستمرة منذ اكثر من ستة اعوام والصراعات الاقليمية والدولية المفتوحة في المنطقة كشفت بوضوح طبيعة الصراعات الدولية القائمة اصلا على مصالح بعيدا عن مواقف مبدأية لهذه الدولة او تلك، فلا العداء لهذه الدولة هو ثابت ونهائي ولا التحالف بين مجموعة الدول هو تحالف لا يتغير..
ولا ناتي بجديد عندما نقول ان في قوانين السياسة كل شيء يتغير وفق منطق المصالح، فهذا ما علمتنا اياه ابجديات السياسة بأن ليس هناك عداوة دائمة بل هناك مصالح دائمة.. والامثلة على ذلك تعد ولا تحصى.. وعلى سبيل المثال:
- الولايات المتحدة وحلفاؤها من العرب عملوا وجهدوا بكل قواهم على محاربة ما سمي ب " احتلال الاتحاد السوفياتي لافغانستان " من خلال ارسال آلاف المسلحين الاسلاميين من الدول العربية لمحاربة ذلك الاحتلال فيما اصطلح على تسميتهم ب " الافغان الغرب". لكن عندما انتهت الحرب بانسحاب القوات السوفياتية وعودة الافغان العرب الى بلادهم والى بعض الدول الاوروبية وبقاء اخرين في افغانستان وباكستان اعلنت الولايات المتحدة حربا ضد هذه المجموعات التي تحولت لتشكل تنظيما جهاديا " القاعدة".
- شكلت تركيا حجر الزاوية في الازمة السورية واعتبر موقفها المتحالف مع المملكة العربية السعودية الاشد بين مجموعة الدول المناوئة لحكم الرئيس بشار الاسد باصرارها على رحيل الرئيس السوري قبل البحث بأي تسوية ومطالبتها بمنطقة عازلة وغير ذلك من المواقف المتشددة التي طالت ايران باعتبارها دولة داعمة لسوريا، لكن هذه المواقف تغيرت الى نقيضها وقال سفير تركيا لدى موسكو "ان أنقرة لا تعارض مشاركة الحكومة السورية الحالية في المفاوضات حول سوريا" فيما قال وزير خارجية تركيا جاويش اوغلو في مؤتمر صحفي مع نظيره الايراني محمد جواد ظريف: " علينا مكافحة التنظيمات الارهابية معاً وسنعزز من تعاوننا مع ايران بشأن الأزمة السورية ولدينا الكثير من القواسم المشتركة". ولعل كلمة السر في هذا التغير ما اشار اليه اوغلو نفسه عندما قال: "نعمل على رفع حجم التبادل بين تركيا وإيران ليصل لغاية 30 مليار دولار وسنزيد حجم الاستثمارات".
_ سبق للرئيس التركي رجب طيب اردوغان ان شن هجوما عنيفا على الرئيس الاسرائيلي شيمون بيريس خلال منتدى دافوس الاقتصادي عام ٢٠٠٩ واصفا اياه بالإرهاب وقاتل الاطفال في غزة.. ثم ساءت العلاقات بشكل كبير بين الطرفين بعد هجوم البحرية الاسرائيلية على السفينة التركية " مرمرة" عام ٢٠٠٢ وسقوط عدد من الشهداء الاتراك..
غير ان هذا الخلاف سينتهي في تموز ٢٠١٦ عندما تم التوصل إلى اتفاق بشأن تطبيع العلاقات بين تركيا وإسرائيل. ومن المتوقع ان تعود العلاقات التاريخية بين البلدين الى طبيعتها لجهة التبادل التجاري والتعاون الاقتصادي بين تركيا واسرائيل إضافة الى لمناورات العسكرية بشكل مشترك بين الطرفين وفتح الطريق امام امدادات الغاز الاسرائيلي المحتملة الى اوروبا عبر تركيا.
ورغم ان الاتفاق قد حقق مصلحة اسرائيلية كاملة بسقوط الحجج التي قدمها البعض لتبرير هذا الاتفاق كونه يهدف الى رفع الحصار عن قطاع غزة فقد جاءت الايام لتؤكد حقيقة من كان المستفيد منه بعد ان منعت سلطات الاحتلال الإسرائيلي ادخال المواد الخام ذات الاستخدام المزدوج الى قطاع غزة، على خلفية ان تلك المواد تستخدم في صنع وسائل قتالية مختلفة، دون ان نسمع ولو موقف احتجاجي واحد..
دولة اخرى تصلح كمثال على طبيعة المواقف الدولية وتحكم المصالح بهذه المواقف حتى لو انقلبت رأسا على عقب. فدولة مثل قطر كانت من اكثر الدول العربية التي ساهمت ببناء العديد من القرى والبلدات اللبنانية التي تدمرت بفعل العدوان الاسرائيلي على لبنان عام ٢٠٠٦ اضافة الى تمويل عدد من المشاريع التنموية تحت عنوان" دعم لبنان ومقاومته " حتى ان مواقف امير قطر كانت لافتة في تموز من عام ٢٠١٠ عندما اعلن من مدينة بنت جبيل: " ان أبناء الجنوب رفعوا رأس لبنان ورؤوس العرب بانتصارهم على اسرائيل".. وهو ما دفع بالكثير من اللبنانيين ومنهم قياديين في حزب الله الى اعتبار امير قطر بأنه " الامير المقاوم ".
بعد اقل من عام على المواقف القطرية، دخلت قطر طرفا رئيسيا في الازمة السورية وكعدو لحزب الله الذي " شرف العرب بانتصاره على اسرائيل " عبر دعمها وبشكل علني للمجموعات المسلحة التي تحارب حزب الله في سوريا. بل اكثر من ذلك ساهمت وبشكل فعال في وضع حزب الله على " لائحة العرب السوداء " باعتبار الحزب " منظمة ارهابية ". واتخذت اجراءات ميدانية ضد بعض المواطنين اللبنانيين في قطر بتهمة الانتماء الى حزب الله.
ليس الهدف من هذا الاستعراض تسجيل نقاط على هذه الدولة او تلك، فلكل دولة مصالح تسعى جاهدة من اجل تأمينها وضمان رفاهية شعوبها بغض النظر عن الطريقة المتبعة تطبيقا لنظرية ميكافيللي " الغاية تبرر الوسيلة ". وبغض النظر عن مدى مشروعية هذه النظرية ومدى التزامها بالقانون الدولي وحقوق الشعوب في ارضها وسيادتها عليها، فان جميع الحروب والصراعات الدولية تخاض وتشن تحت يافطة هذه النظرية. فحروب امريكا المباشرة او بالوكالة تبررها دائما المصلحة القومية للشعب الامريكي، بل ان احتلال فلسطين من قبل عصابات الارهاب الصهيونية المدعومة من الغرب الامبريالي تبررها ايضا بشكل او بآخر نزعات الهيمنة والسيطرة الهادفة الى التحكم بمقدرات العالم..
كثيرة هي النماذج التي تؤكد ان جميع الحروب راهنا وسابقا ومستقبلا تحركها نزعات المصالح لأطرافها التي اصبحت جزء لا يتجزأ من علوم السياسة او من البديهيات. وحدها الدول العربية خالفت هذه النظرية وشذت عن هذه القاعدة، فخاضت العديد من الحروب بعيدا عن لغة المصالح، بحيث لو احصينا عدد الحروب التي كان العرب احد اطرافها لوجدناها خاسرة في المحصلة الاستراتيجية..
حتى في منطق المعادلة الصفرية التي تعني ان خسارة احد اطراف الصراع لنقاط معينة تعنى حكما ربحا للطرف الآخر، حتى وفقا لهذه النظرية نجد العرب خاسرين.. وان حصل وربح العرب في المعارك العسكرية نجدهم خاسرون في الاستثمار السياسي.. هذا ما حصل في الكثير من الحروب التي انتصر فيها العرب لكنهم لم يحسنوا استثمار انتصارهم في السياسة فتحول انتصاراتهم الى هزائم..
اليس هذا ما حصل خلال العدوان الاسرائيلي على قطاع غزه عام ٢٠١٤ عندما انتصر الشعب الفلسطيني ومقاومته سواء على المستوى الميداني بافشال اهداف العدوان ودفع اسرائيل ثمنا باهظا لعدوانها بوصول صواريخ المقاومة الى عاصمة الكيان او على المستوى السياسي بتشكيل الوفد الفلسطيني الموحد.. رغم ذلك، يبقى السؤال: من المسؤول عن ضياع كل هذا وعدم ترجمة انتصارنا وصمودنا بانجازات سياسية تقود الى رفع الحصار عن قطاع غزة.. وهذا ما ينبغي ان يقودنا الى تساؤل مشروع: ما هي الآلية التي تضبط ايقاع العمل السياسي الفلسطيني والآلية التي ينبغي الاحتكام اليها في حالة النزاع والخلاف .
فأمام كل مفصل من المفاصل الكبرى التي تعترض قضيتنا الوطنية، تعود الحالة الفلسطينية الى نقاش اوضاعها وكأنها تبدأ من الصفر.. بل ان هذه النقاشات ترجعنا الى ما قبل الصفر في الكثير من الاحيان عندما تتخذ من السياسات ما يتناقض مع ما توافقت عليه الحالة العامة .. سواء كانت في الاطار الرسمي او الفصائلي او على مستوى الاطر الشعبية..
رغم التمايزات التي تتسم بها حركتنا الوطنية عن غيرها من حركات التحرر العالمية، الا انها تخضع لذات المعايير العامة باعتبارها عرضة لمد وجزر من قوى محلية واقليمية ودولية، لكن ما ليس مفهوما في حالتنا الفلسطينية هو التخلي عن جميع عناصر القوة التي يقر بها عدونا على انها احد مشكلاته.. نعم كثيرة هي تجارب الشعوب وحركات التحرر الوطني التي انتصرت على المستعمر وانتزعت حقوقها بتضحيات مناضليها. لكن بعض هذه الشعوب لم تحسن الاداء ولم تتمكن من استثمار انتصاراتها وانجازاتها لتضعها في خدمة قضيتها.. فضاعت انجازاتها وانتصاراتها هباء..
الجميع كان يتفق على ان انجازا فلسطينيا تحقق بعد فشل العدوان الاسرائيلي الاخير على قطاع غزة.. وقلنا في حينه ان الانتصار الذي تحقق في قطاع غزة بفعل صمود المقاومة والشعب وتلاحمهما معرض للاندثار ما لم يتم استثماره سياسيا والمراكمة عليه بخطوات تقربنا اكثر من هزيمة العدو ومشروعه..
عندما توحدت الحالة الفلسطينية، رغم ثقل المعاناة، استطاعت ان تحقق الانتصار.. وصدقت مقولة:"أن صيغة الشراكة الوطنية، من شأنها أن تقوي الحالة الفلسطينية في وجه العدو". بعد ان نجحنا بتشكيل وفد موحد صاغ تجربة جديدة، حين ضم في صفوفه جميع التيارات، وحين صاغ قراراته بموجب التشاور والتوافق الوطني، وأخذ بالاعتبار صون وحدة الموقف، ما عزز ثقة المقاومة والشارع الفلسطيني به، وأعاد الاعتبار للحالة الفلسطينية.. خاصة وان هذا الوفد كان يستند الى مقاومة صامدة والى وحدة داخلية. وبالتالي أن الحركة الشعبية كانت عنصر رئيسي من عناصر نجاح أية عملية تفاوضية. إن أية عودة إلى العملية السياسية يجب أن تأخذ بعين الاعتبار مثل هذه الأمور. وهذا ما كان يتطلب استراتيجية فلسطينية جديدة.
مع صدقية وصحة هذا الاستنتاج وتأكيده بالملموس، الا ان هناك من لا زال يغمض عينيه ويصم اذنيه عن سماع صوت العقل والمنطق..
اليوم نحن مطالبون برفع مستوى ومنسوب المعارضة السياسية في الهيئات المعنية في منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية وجميع الهيئات والاطر المتفرعة عنهما وفي أوساط الرأي العام، ليس فقط للتذكير بقواعد الشراكة السياسية بل وبخطأ السياسة والخيار المتبع منذ نحو ربع قرن كخيار اوحد وبأنه لا خيار أمامها إلا التخلي عن هذه السياسة واحترام قواعد الشراكة السياسية والديمقراطية التوافقية التي بفضلها كنا دائما نوفر الحماية للوحدة الوطنية الفلسطينية والحماية للحقوق والمصالح الوطنية الفلسطينية.