اليسار الإسرائيلي ينتحر: متى وكيف؟! -هآرتس
2016-08-30
ذات مرة كانت مناكفة اليسار ومحاججته مسلية. وحين كان هذا اليسار قوياً وجدّياً، كان من المناسب طرح أسئلة تزعزع بعض المعتقدات التي كان يقدّسها. وحين كان اليسار مسيطراً على الحكومة، ووسائل الإعلام، وجهاز القضاء، والمؤسسة الأكاديمية، والجيش، كان من المهم مواجهته بالبديهيات التي كان يتهرب منها وبالحقائق التي كان يتنكر لها. أما الآن، وقد أصبح اليسار صغيراً إلى هذا الحد، فهو يثير الشفقة. الآن، بينما بات هذا اليسار مُطارَداً ومضطهَداً لا داعي لرش الملح على جروحه.
إن نشطاء اليسار هم إخوتي وأخواتي، أشاركهم قيَمهم وأتألم لهزيمتهم، ولذا حتى حين يرجمونني بكلام هراء، أميلُ إلى الكظم والصفح والعض على النواجذ ومواصلة المسير قُدماً. لكن لا بد من حاجة إلى العودة أحياناً لشرح ما تشوّش، ولإعادة التذكير بمتى وكيف انتحر اليسار.
لقد انتحر اليسار الراديكالي هنا حينما انقطع عن الواقع. وأدى رفضه الاعتراف بفشل اتفاقيات أوسلو (1993) ومؤتمر كامب ديفيد (2000) وعملية أنابوليس (2007)، إلى أن اعتبِر اليسار في إسرائيل غير صادق وغير موثوق به. كما أن رفض الاعتراف بأن الانسحاب (الصحيح والمبرَّر) من قطاع غزة (2005) جلب القذائف الصاروخية على عسقلان وأسدود وتل أبيب، جعل اليسارَ يبدو في نظر الإسرائيليين غير واقعي إلى حدّ الهذيان. ورفضه الاعتراف بحقيقة أن الشرق الأوسط منطقة وحشية وأن الجسم السياسي الفلسطيني مشلول لا يؤدي مهماته، جعل اليسار يبدو في نظر الإسرائيليين مُحلّقاً وبعيداً عن الواقع.
إن هذا الانقطاع عن الواقع يدفع أغلبية الإسرائيليين إلى عدم الإصغاء أكثر للتقييمات الصحيحة التي يطرحها اليسار حول الاحتلال والمستوطنات والخطر المحدق بالديمقراطية الإسرائيلية.
انتحر اليسار الراديكالي أيضاً حين انقطع عن الشعور الإسرائيلي بالفخر والاعتزاز في وقت تفتخر فيه أغلبية الإسرائيليين بدولتها. صحيح أن الوضع قاس هنا، وهناك غلاء أسعار واكتظاظ وصراع، لكنّ بالرغم من ذلك كله قامت هنا أمّة ومعظم الإسرائيليين يحبّونها. ولذا حين يقول لهم اليسار إنهم بشعون ومنفِّرون ونَتِنون فهم لا يتحمسون لهذه الرسالة. وحين يقول إن كل شيء سيئ ومقيت هنا فهم لا يشترون هذه البضاعة. إنهم غاضبون على المتجهمين الذين لا يتيحون لأنفسهم ولا لسواهم إمكانية الاحتفال بإسرائيل وإنجازاتها.
انتحر اليسار الراديكالي حين ألغى ذاته أمام الفلسطينيين. صحيح أنه ليس ثمة تماثل بين المحتل والقابع تحت الاحتلال، وصحيح أن إسرائيل تتحمل المسؤولية الأساسية عن الاحتلال. لكن ماذا عن القيادة الفلسطينية؟ في سنة 1937 كما في سنة 1947، كان بالإمكان إقامة دولة فلسطينية والحؤول دون وقوع النكبة، لكن الفلسطينيين قالوا «لا». كذلك في سنة 2000 كما في سنة 2007، كان بالإمكان إقامة دولة فلسطينية وإنهاء الاحتلال، لكن الفلسطينيين قالوا «لا» مرة أخرى. وبذا اختاروا تكريس الاحتلال المرة تلو الأخرى.
هل هاجم اليسار الراديكالي الفلسطينيين مرةً بمثل هذا الغضب الشديد الذي يهاجم به حكومات إسرائيل؟ هل توجه إلى رام الله، وضرب على الطاولة وقال لمحمود عباس مثل ما يكتب عن بنيامين نتنياهو؟ كلا. إن هذا العجز عن رؤية جيراننا بنظرة سليمة أوصل الإسرائيليين والفلسطينيين، على حد سواء، إلى عدم أخذ ما يقوله اليسار الراديكالي بجدية أو باحترام.
إن الانقطاع عن الواقع وعن الأسرلة، مع توسل الفلسطينيين، يدفعان اليسار الراديكالي الآن إلى الانقضاض على مصطلح «دولة يهودية ديمقراطية».
حتى باراك أوباما وهيلاري كلينتون يدركان أنه من غير الممكن تقديس الدولة القومية للشعب الفلسطيني وازدراء الدولة القومية للشعب اليهودي. لكن أعضاء اليسار الراديكالي لا يفهمون ذلك، فالصراع الإسرائيلي - الفلسطيني في عُرفهم بدأ مع الاحتلال (1967) ولا يدور إلا حوله. وهم يعتبرون مطالبة الفلسطينيين بالاعتراف بوجود الشعب اليهودي هنا ضرباً من السادية. والحقوق القومية المُعلنة في هذا البلد من وجهة نظرهم هي لغير اليهود فقط.
بمثل هذا التوجه الأحادي وغير التاريخي والمنزوع عن الواقع إلى هذا الحد، لن يكون من الممكن إحداث أي تغيير سياسي في إسرائيل. ولن يكون من الممكن أيضاً إنهاء الاحتلال ومحاولة إحلال السلام. وهكذا بعد أن أقدم اليسار الراديكالي على الانتحار، ها هو الآن يساعد اليمين على توجيه سهامه إلينا جميعاً.