دراسة حول عزوف الشباب الفلسطيني عن المشاركة في الحياة السياسية
2016-09-20
مقدمات وحيثيات ونتائج
1- المقدمة:
أثارت نتائج استطلاعات الرأي العام الذي نشره مركز العالم العربي للبحوث والتنمية(أوراد) في شهر نيسان الماضي عن تدني مشاركة الشباب في الحياة السياسية والتنظيمية (الحزبية) موجة واسعة من الاستغراب والاندهاش بسبب كونها وضعت علامات استفهام كبيرة حول أسباب عزوف الشباب الفلسطيني (15–29) سنة عن المشاركة في الحياة الحزبية والتنظيمية بشكل خاص والسياسية والعمل المجتمعي بشكل عام. وعلى الرغم من أن هذه النتائج والتوصيفات ليست بجديدة أو غير معروفة لدى قيادات الأحزاب ، لكن ربما توقيتها جاء ليعطي لها أبعادا وتفسيرات مختلفة وخاصة في ظل التساؤلات والآراء حول مصير الهبة الجماهيرية التي انطلقت في أكتوبر/تشرين الأول 2015.ومن المتفق عليه بأن هذه الخاصية أو السمة – عزوف الشباب عن المشاركة في الجسم التنظيمي للأحزاب كأعضاء وكوادر– تكاد تنتشر في كل الوطن العربي. فالفئة العمرية المذكورة تشكل أكثر من 30% من المجتمع الفلسطيني ،ولا يفوقها إلا الفئة العمرية من (صفر- 14) سنة والتي تبلغ نسبتها وفقا للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني (39.4%) كما هي في منتصف عام 2015. وهذا يعني أن نحو 70% من المجتمع الفلسطيني يتراوح عمره بين صفر و29 سنة، أما الذين يزيدون عن 60 عاما فلا تتجاوز نسبتهم ال 5%. والنسبة الباقية (25%) تخص الفئة العمرية من 30 -59 سنة.وبنظرة سريعة على متوسط أعمار قادة منظمة التحرير والفصائل والأحزاب سنجد أن أغلبيتهم الساحقة تزيد على ال 60 عاما بل وفي النصف الثاني منه، مما يعني أن الأقلية العمرية(5%)في فلسطين تقود وتتحكم وتستأثر وتسيطر على ال95% من المجتمع الفلسطيني بل وتقرر مصيرهم .ولعلها تعتبر من أول المعضلات التي تواجه النضال الوطني الفلسطيني حاليا وتحول دون الانفتاح على جيل الشباب الذين شكلوا على الدوام وقود الثورة وابقوا على جذوتها وهًاجة ومضيئة عبر العقود الطويلة للنضال التحرري الفلسطيني.ويمكن القول بدون تحفظ أن الجيل الذي قاد مهام النضال الوطني والتحرري وتحمل المسؤولية على إثر نكبة 1948 وما تبعها من مرحلة التحرر والتخلص من الهيمنة الاستعمارية التي كانت تعم الوطن العربي، وكان عمره آنذاك لا يتجاوز الثلاثين عاما قد فشل كليا في تسليم راية ومهمات النضال والكفاح الوطني للجيلين التاليين له بطريقة ديمقراطية،انطلاقا من مبدأ وأهمية زج عموم الشعب بالمشاركة في تحمل المسؤوليات الكفاحية وعدم حصرها في جيل تجاوز معظمه الآن عقد السبعينيات ومنهم من دق أبواب الثمانينات وولج عتباته مفتخرا ومستبدلا فكرة الاكتفاء أو الاستقالة أو التقاعد بعبارة "مت وأنت قاعدا" .لذا فقد بات من الضروري الوقوف مليا وطويلا أمام الحيثيات و/أو الأسباب و/أو المبررات التي أدت جميعها وتدريجيا إلى عزوف الشباب عن المشاركات الحزبية والتنظيمية الفعالة والملموسة بما في ذلك عدم المشاركة في الحياة السياسية والمجتمعية العامة في فلسطين. وهناك نقطة على جانب كبير من الأهمية أهملتها قيادات الأحزاب والأنظمة العربية دون استثناء وهي أن فشل المشروع النهضوي القومي والتنموي وانتشار الفقر والبطالة والقمع وبيروقراطية الأحزاب نفسها،دفع الشباب إلى تحبيذ فكرة الهجرة نحو الدول الغربية الاستعمارية والتي كانت السبب الرئيس وراء تخلف وتشتت وتقسيم وضياع فلسطين والعديد من الأقاليم والمناطق الجغرافية والتي تحولت فيما بعد لمرتع خصب لتوليد وتكاثر قوى التخلف والرجعية والجهل والأمية ومراكز لتفريخ الإرهاب وحتى للتآمر على القومية العربية والمكتسبات التي حققتها في نضالها الطويل ضد الاستعمار.فطبقا للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني فان 23.6% من الشباب من الفئة العمرية(15-29) سنة لديهم الرغبة للهجرة للخارج.(37% في القطاع مقابل 15.2% في الضفة الغربية) وتأتي السويد والولايات المتحدة الأميركية في مقدمة البلدان التي تشكل مقاصد للهجرة النهائية. وهذا بحد ذاته يعتبر في غاية الخطورة حيث لم تقف أمامه لا السلطة الوطنية ولا الأحزاب والحركات والفصائل لوضع الحلول له/أو معالجته بالتدريج.
2- الحيثيات والمبررات:
إن التبحر في كشف ومعرفة الأسباب والحيثيات التي كانت وراء عزوف الشباب عن المشاركة الواسعة في معارك النضال الوطني والتنموي فيما بعد،سيساعد بلا شك في سبر غور الأزمة أو العقبة التي حالت دون اقتناع النسبة الكبرى من الشباب للولوج في معمعة النضال والكفاح للمشاركة في التغيير ورفد النضال الوطني والقومي بدماء جديدة أكثر إيمانا وحماسة وإصرارا وصلابة على التمسك بالثوابت الوطنية وفي مقدمتها تحرير فلسطين وعودة اللاجئين من خلال الكفاح المسلح بالدرجة الأولى بما يضمن تفكيك المشروع الصهيوني برمته.لقد نُشرت أبحاثا ودراسات كثيرة حول أسباب إحجام قطاعات واسعة من الشباب عن المشاركة الفعالة بكل محطات ومفاصل النضال والخروج الطوعي من دائرة التأثير والمواجهات والوقوف على هوامش الحياة السياسية والكفاحية.وقد تحولت مشاركة الشباب،للأسباب التي سنأتي عليها، إلى ما يشبه فورات الغضب أو الانتفاضات الشعبية الموسمية المؤقتة وغير الممتدة و/أو الدائمة مع أن بعضها كان كبيرا ومؤثرا ،سواء نجم كرد فعل على العدوان والوحشية الإسرائيلية أو كنتيجة لقمع أجهزة الأمن العربية. ومن المتفق عليه بين المحللين والباحثين والسياسيين أن هناك سمات وعوامل مشتركة كبيرة تجمع أسباب عزوف الشباب عن المشاركة الفعالة في الحياة السياسية والتنظيمية للأحزاب العربية وبين مثيلاتها الفلسطينية.وبدون الدخول في التفاصيل المعروفة لنا جميعا فإن نسبة مشاركة الشباب من الفئات العمرية المذكورة في عموم الدول العربية ما زالت دون ال 8% وفي بعضها كفلسطين والأردن دون ال5%.لقد كان هناك تشابها كبيرا بين أسباب الانتفاضات الشعبية الشبابية التي كانت تجري في بعض الدول العربية، فعلى سبيل المثال انتفاضة رفع الأسعار في مصر في شهر يناير 1977 وانتفاضة الخبز والجوع في تونس عام 1979،كما يمكن مقارنتهما بما جرى في جنوب الأردن(معان)عام 1989على إثر تخفيض قيمة الدينار وحدوث ارتفاعات كبيرة وملموسة في الأسعار. ومن المفيد في هذا السياق أن نركز على الأسباب والحيثيات التي كانت وراء عزوف الشباب عن الانتماء الحزبي والعمل التنظيمي، والتي يمكن تقسيمها إلى ثلاث مجموعات رئيسة،الأولى، تعود للبيئة الاجتماعية والثقافة الدينية والتنشئة (التربية) التي تعمل في ظلها وتحت سقفها الأحزاب والفصائل والحركات،ويمكن إطلاق تعبير الظروف الموضوعية على هذه المجموعة والثانية،تخص الأحزاب نفسها وبنيتها التنظيمية،بما فيها العلاقات الداخلية الناظمة للحياة الحزبية وأسلوب انتخاب الهيئات القيادية وتأثيرها على مجمل الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية وضعف قدرتها التأثيرية على التغيير والثالثة،تخص الطفرات والتحولات الهائلة التي حدثت في عالم الاتصالات وتكنولوجية المعلومات والمعرفة وخاصة أمام انتشار شبكات التواصل الاجتماعي أو ما أطلق عليه أسم العالم الافتراضي وفي مقدمتها وسائل الإعلام ومحطات البث المباشر من المحطات الفضائية التي تعمل على غسل أدمغة الشباب وإعادة ترتيب الأولويات والاهتمامات لديهم على مدار الساعة بالإضافة إلى الحوارات عبر شبكات التواصل الاجتماعي والتي أدت إلى خلط وتزوير وفبركة المعلومات والحقائق،كل هذا يتم أمام سمع وبصر قيادات الأحزاب كلها دون استثناء.ومن المؤكد أن هذا يعكس ثقافة الطبقة الحاكمة حيث تشكل بعض الأحزاب الفلسطينية الكبيرة عمودها الفقري، فهي كغيرها تحرص على إلهاء الشباب وإبعادهم عن المشاركة الفعالة في النضالات المطلبية والمهنية السياسية بغرض تسهيل سيطرتها على إدارة السلطة بما يعني رغبة الأحزاب بإبقاء تأثيرها محدود جدا في المجتمع (الدولة) خشية من قيام الشباب بانتفاضة تغييريه ضدها.هذا إلى جانب تأثير القوى المضادة الخارجية. وسنناقش الحيثيات والأسباب التي كانت وراء عزوف الشباب على التوالي.
المجموعة الأولى:المناخ والبيئة الاجتماعية والثقافة الدينية والتربية (الظروف الموضوعية)
1- تتأثر البيئة الاجتماعية الفلسطينية والعربية بشكل كبير بالموروث الثقافي والتاريخي والتربية الدينية والتنشئة التي يتم تلقينها للشباب منذ الصغر والتي تعتبر من ضمن الثوابت والمنظومات الاجتماعية التي تؤثر على تكوين الشخصية العربية وفكرها وسلوكها.وهي على الأغلب لا تتعارض مع ما هو سائد من مجموعة التقاليد والعادات والسلوكيات الناظمة بل والمؤثرة على مجريات ووقائع وأنماط الحياة اليومية لأفراد المجتمع وفي المقدمة منهم الشباب.وعليه فقد صُبغت بشواخص وخصائص وقواعد إرشادية من الصعب جدا تجنبها أو الابتعاد عنها والتقليل من تأثيرها السلبي،لكونها مستمدة أو منسوخة من المخزون الثقافي والديني والتاريخي الذي نفتخر به وتمت مراكمته عبر مئات السنين وخاصة لجهة الفتوحات الكبيرة التي تمت في آسيا وأفريقيا وجنوب أوروبا (الأندلس على وجه الخصوص).فليس غريبا والحالة هذه أن يتم تلقين الشباب وحقنهم (وهم دون العاشرة من عمرهم) وتزويدهم بمجموعة مفاهيم متوارثة خاطئة ناتجة عن الخوف والخشية من مصير غير صالح أو غير مستقر أو غير آمن بل ومحفوف بالمخاطر ، مستندين إلى تجارب وأمثلة واقعية ملموسة من المجتمع .
2- الموروث الثقافي الديني والتاريخي الذي تطفح وتفيض به كتب التدريس والتلقين في كافة مراحل التعليم لا يجد أي مبرر لإدانة لنظام توريث الحكم وتغييب الديمقراطية ،بل أنها لا تتردد في تمجيد نظام الخلافة بمعنى التوريث دون حاجة لمراجعة المبدأ أو الوقوف عنده وخاصة أمام التطورات الهائلة التي حدثت في أنظمة وطريقة الحكم في العالم أجمع في القرن الماضي على وجه الخصوص،سواء لتبيان إيجابياتها وسلبياتها أو لمجرد إعطاء فرصة للشباب لاختيار ما هو مناسب لهم وليكونوا على علم ودراية بما هم مقبلون عليه في المستقبل ليتحملوا مسؤولياته ويطوروه ويجددوه بما يتناسب والمفاهيم الجديدة التي تمت صياغتها وخاصة المشاركة في الحياة السياسية والتنظيمية والحزبية وحقهم في تبوأ المراكز الهامة لقيادة المجتمع في كافة المجالات.
3- فالموروث الثقافي غير السوي والممتلئ بالروايات والمنقول إلى الشباب، قد أرسى قواعده وأسسه معاوية بن أبي سفيان حينما ولىَ أبنه يزيد الحكم بعده مباشرة في خطوة تناقضت وتعارضت كليا مع أسلوب وآلية ونظام اختيار الحاكم الذي كان سائدا في عهد الخلفاء الراشدين في إدارة الدولة والحكم وشؤون الرعية وبذلك يكون معاوية قد سنَ نموذجا سيئا وغير ديمقراطي بتأسيسه لنظام التوريث ملغيا حق الشعب في اختيار الأكفأ والأفضل لإدارة شؤون الدولة.وقد أدى ذلك للحرمان المبكر للشباب من حق الاختيار مما نجم عنه عدم اهتمامهم بالمشاركة في العملية السياسية منذ قرون ليست قليلة.
4- أكثر من هذا فإن المدافعين عن توريث الحكم وإقصاء الشباب عن المشاركة وتجنب إجراء انتخابات ديمقراطية يجدون ضالتهم بل وتبريرهم الخاطئ بالطبع في مفهوم البيعة والخلافة في الموروث الديني، حيث يقولون بأن الأنبياء والرسل الذين وردت أسماؤهم أو قُصت علينا وذكرت في الكتب كانت بأغلبها تنتقل من الأب إلى الابن أو الأخ. فمن سيد الأنبياء إبراهيم عليه السلام إلى ولديه إسماعيل وإسحاق وحفيده يعقوب وأبن حفيده يوسف ثم سليمان وابنه داود وزكريا وابنه يحي وموسى وأخيه هارون وقبل ذلك لوط أبن أخ سيدنا إبراهيم.وقد تناسى هؤلاء بأن اختيار الأنبياء وبالطريقة والأسلوب الذي تم به هو قرار إلهي بامتياز في فترة وزمان ومكان وظروف تختلف كليا عما ساد بعدها.لذا فمن المستحيل سحبه أو نسخه وتعميمه على الظروف الحالية في الحكم وإدارة شؤون العباد نظرا للاختلافات والاختلالات الهائلة والتعقيدات التي حدثت في بنية المجتمعات منذ ذلك الوقت وحتى الآن.
5- تعتبر العشائرية والقبلية من ركائز وأسس النظام العربي والإسلامي حيث يخضع الأفراد وفي مقدمتهم الشباب للالتزام بما يقوله شيخ العشيرة/ القبيلة.لذا فمن الصعب خروج أو تمرد الشباب على زعيم القبيلة لكونهم يحصلون على الحماية والتأييد والدعم والوظائف من خلال انتمائهم للقبيلة /العشيرة أولا وليس للوطن.فخروجهم أو تمردهم سترتد عليهم سلبيا ولن يجنوا منه شيئا،مما يقلص الخيارات أمامهم ويحصرها في الالتزام بالنظام والمعايير القبلية السائدة والتي تؤدي إلى عزوفهم عن الانتماء للأحزاب والحركات التي تتعارض أفكارها وأيديولوجيتها مع توجهات ومصالح العشيرة /القبيلة.فالولاء للقبيلة والعشيرة يأتي أولا. ومع استمرار الحالة على هذا النحو وبالتدريج يصبح الشباب لديهم حوافز للدفاع عن النظام السائد والتخلي عن مضمون ومحتويات ومدخلات مناهج التعليم التي دروسها في الجامعات مما يولد أو يخلق لديهم لاحقا فجوة كبيرة في الثقافات والازدواجية والظهور بمظهرين متناقضين من الصعب جدا أن يلتقيا فالمخرجات باتت تتعارض ولا تتوافق مع منظومة المدخلات التربوية والثقافية التي تلقوها في مراحل التعليم المختلفة.
6- هناك تحالفات ومصالح غير دائمة وغير مستقرة بين القوى الاجتماعية وخاصة الاقتصادية والدينية والعشائرية يتولد عنها بالضرورة أحزاب وتجمعات سياسية والتي بدورها ترتبط بنظام الحكم لقيادته بشكل مستقل أو بالاشتراك مع الغير في إدارة النظام والدولة.ومع وجود الاختلاف تدخل لدائرة التحالفات أحزاب وتخرج منها أخرى وقد يصل الحال كما هو واقعنا المخزي إلى الاحتراب الداخلي العنيف لإقصاء طرف معين عن المشاركة في الحكم.فتصبح الدولة تدار من حزب/أحزاب مؤيدة وتقمع المعارضة بالقوة ، وفي هذه الحالة ووفقا للتجارب فإن انتماء الشباب لأحزاب المعارضة المقموعة وغير المشتركة في الحكم يتراجع كثيرا خشية من النتائج السلبية التي ستترتب على التحاقهم ومن ضمنها الصعوبة البالغة في إيجاد عمل أو وظيفة وحتى حصوله على الترقية المستحقة. فالثقافة السائدة في المجتمع العربي تقول بعدم إمكانية الانتماء للحزب/ الأحزاب غير المشاركة في الحكومة وإدارة الدولة.وبالجهة المقابلة فإن الانتماء للحزب الحاكم وخاصة إذا كان متبوعا بصفة الحزب القائد(حزبا البعث في سوريا والعراق والاتحاد الاشتراكي العربي في مصر سابقا والحزب الوطني الديمقراطي لاحقا وحزب جبهة التحرير الجزائرية وحزب القذافي!! - الكتاب الأخضر- وحركتا فتح وحماس في الضفة الغربية وقطاع غزة على سبيل المثال) ينجم عنه إغداق المناصب والمكاسب والامتيازات المباشرة وغير المباشرة للمنتمين لهذه الأحزاب بغض النظر عن ثقافتهم ومؤهلاتهم وخبراتهم وقدراتهم وإمكانياتهم وكفاءاتهم وحتى وطنيتهم أحيانا.
7- المناخ السياسي العام وطبيعة نظام الحكم وغلبة الأجهزة الأمنية وسيطرتها على آلية اتخاذ القرارات وممارسة القمع وسياسة الاعتقالات والحرمان من الحقوق بما فيها حق المواطن بالحصول على جواز سفر بدون قيود أو حدود أو شروط أو التنقل والسفر الحر،تلعب دورا كبيرا في عدم تحفيز وتشجيع الشباب ودفعهم إلى الانتماء للأحزاب وخاصة تلك غير المؤيدة للنظام أو المغضوب عليها أو التي تطالب بالإصلاحات ومحاربة الفساد والشللية وتطبيق قواعد الدستور ومواد القوانين بالرغم من كل علاتها.
8- انتشار البطالة والأمية والفقر والفساد وعدم توفر متطلبات الحد الأدنى للحياة الكريمة تغير من أولويات الشباب وتجعل من الانتماء الحزبي والتنظيمي في آخر سلم الاهتمامات بل لعله غير مطروح على جدول نشاطاتهم في المدى المنظور بالنسبة إليهم.
9- تراجع الإحساس بالانتماء للوطن بسبب سيادة الدكتاتورية المطلقة في الحكم ومبدأ التوريث وتفشي ظاهرة المحسوبيات والواسطات والتي تولد اشمئزازا وفقدان الثقة لدى الشباب من مجرد التفكير بالانتماء لحزب ما أو العمل ضمن الأطر والمنظمات الصديقة له أو المحسوبة عليه.لأن من شان ذلك أن يزيد ويفاقم الأعباء والهموم والمشاكل التي يواجهها الشباب.
10-الإخفاقات والهزائم المتتالية التي لحقت بالمشروع القومي العربي السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتحرري في العقود القليلة الماضية تحديدا، حدَت وفي أحيان كثيرة منعت وصدت الشباب من الانتماء للأحزاب أو حتى التفكير فيه.
11- المشاركة السياسية والانتماء للأحزاب مرتبط بشكل كبير بتطور النظام الاجتماعي وتقدمه وانتشار الوعي بأهميته في رسم معالم المستقبل وهو ما زال بعيدا عن فكر واهتمامات الشباب،لأن منظومة التعليم والتربية لم تبدأ بعد ببلورة المساقات التعليمية التي سيتم تدريسها للشباب ، والأهم من ذلك عدم وجود نية حقيقية لدى مؤسسات النظام/قيادات الأحزاب الحاكمة بطرحها على نطاق واسع وتثقيف وتدريب التنشئة الجديدة عليها
12-ولأن انتظام المشاركة السياسية والحزبية والتنظيمية لا تتولد فجأة أو بمجرد اتخاذ قرار بالانتماء، وإنما يجب أن يسبقها عمليات ونشاطات تراكمية كمية ونوعية محمية بالقانون وان تبدأ منذ الصغر في العائلة ضمن ثقافة احترام الرأي الأخر والتكيف أو التعود بالعيش معه بدون تناحر واقتتال دموي بل وضرورة التعاون معا لخدمة الوطن، لذا فمن المبكر القول بأن المنظومة الاجتماعية والثقافية والتعليمية باتت مهيأة وجاهزة ومستعدة للتعامل مع طموحات الشباب ورغباتهم ،مما يعني أن تحفيز الشباب على المشاركة يتطلب أولا وجود الأرضية والبيئة القانونية المناسبة للعمل بحرية وبدون خوف أو خشية من النتائج وهذا لم يتحقق حتى الآن، بل ولم يبدأ التفكير به بعد.
13- خلو التراث والفكر العربي من مبدأ التخلي الطوعي عن السلطة والحكم ،حيث لم يسجل التاريخ العربي المليء بالتناحرات والاقتتال والذي عبر عنه ونقله بأمانة ابن خلدون والكواكبي وغيرهما كثير،أي تنازل طوعي ذي مغزى تم عن إدارة الحكم بكل فترات التاريخ العربي سواء السابق للإسلام أو التالي له من هنا فإن أكثر الأشياء التي يكرهها الحكام ولا يحبون سماعها بل ولا يستسيغها المستأثرون والمتحكمون والدكتاتوريون والحزب القائد والأميون والجهلة هي فكرة التخلي الطوعي عن السلطة أو عبر الانتخابات لإعطاء فرص للشباب لتبوأ مراكز هامة في إدارة شؤون الدولة /الحزب /المؤسسة.فالانتخابات الديمقراطية عبر صناديق الاقتراع تتعارض مع الشريعة والدين والعادات والتقاليد والتي تقوم بالأساس على الغلبة والبيعة الإلزامية ومفهوم الخلافة المبتورة غير المسندة والمثبتة في كتاب الله وسنة رسوله.
14- من الصفات الأخرى الملازمة والمرافقة للنظام العربي هو وجود الأجهزة الأمنية القمعية والشرطية لكبت الأنفاس وملاحقة كل من لا يقدم الولاء والطاعة والانصياع لأوامر النظام بما في ذلك معاقبة كل من ينتمي أو يلتحق بحزب غير مرضِ عنه أو معارض لنظام الدولة.والعقوبات في بعض الدول [الخليج وشبه الجزيرة العربية وليبيا سابقا تكون قاسية جدا وقد تصل إلى الإعدام على قاعدة من (تحزب خان) وفي بعضها تصل إلى السجون والمعتقلات والتعذيب والحرمان من ابسط الحقوق المدنية ومنعه من العمل وفي بعضها الأخر توجيه ضربات موسمية بين فترة وأخرى بما في ذلك الضغط لتقسيم الأحزاب وتجزئتها بغرض إضعافها].وعليه فالأجهزة الأمنية والقمعية شكلت على الدوام (وما زالت) موانع وحواجز حالت دون انضمام وانتماء الشباب إلى الأحزاب بحرية.ففي دراسة حديثة نشرتها جريدة الغد الأردنية أن العاملين الرئيسيين لعزوف الشباب الأردني (والفلسطيني والعربي)هما الخشية من العواقب الأمنية والخوف من الانتماء للأحزاب، والقلق على المستقبل الوظيفي لهم. لذلك فإن أحد أبرز القيود الكبيرة التي تقف بقوة أو تحول دون انتماء الشباب للأحزاب هو الخوف من قمع وملاحقات الأجهزة الأمنية العربية لهم.
المجموعة الثانية : تخص الأحزاب نفسها وبنيتها التنظيمية.
في البداية لا بد من الإشارة إلى بعض البديهيات الهامة والرئيسة التالية :
أ- كافة الأحزاب والحركات وخاصة اليسارية منها تأسست وعملت ونشطت في ظل ظروف ومناخ وبيئة غير صديقة وغير مؤيدة وفي أحيان كثيرة عدائية، حيث تلقت ضربات مؤلمة بين الفترة والأخرى من قبل الأجهزة الأمنية أثرت بشكل كبير على قدرتها وشلت حركتها وأضعفت كوادرها وأفشلت العديد من البرامج والنشاطات التي كانت موضوعة.
ب- وكنتيجة لتكرار استهدافها، اتجهت الأحزاب نحو العمل السري في فترات مختلفة وانتهجت مبدأ "المركزية التشاورية " بين بعض القيادات المؤثرة والمتربعة على قمة الهرم الحزبي والتنظيمي مما أضعف من جماهيريتها مع طيلة الفترة الزمنية التي انقضت لإتباعها هذا الأسلوب في قيادة العمل الحزبي والذي حال دون رفدها بدماء جديدة مؤهلة وحرم كوادرها من الترشح المباشر للهيئات القيادية الأولى واقتصار أو حصر آلية الترشح بتزكية من قبل المكاتب السياسية وعما هو مقبول ومرضي عنه أيضا، مما أدى عمليا إلى تغييب الديمقراطية الحقيقية في صفوفها مع إبقاء نصوصها نظريا في اللوائح والأنظمة الداخلية وفي التقارير والنشرات ووسائل الإعلام.وكان من الطبيعي أن يؤدي ذلك إلى إضعاف تأثيرها في صفوف الشباب
ت- لقد تعرضت الأحزاب وخاصة اليسارية منها لموجات ليست قليلة من نزيف خروج الكوادر المجربة والذين غادروا صفوفها عند كل مفصل أو محطة نضالية معينة بفعل البيروقراطية والذاتية المؤذية وعدم المحاسبة على الأخطاء التي سادت فيها لعقود طويلة خلت وما زالت مستمرة رغم التحسن النسبي بالظروف الموضوعية المحيطة بها.(فلسطين ومصر وتونس والأردن والمغرب والجزائر أمثلة)
ث- تشمل عبارة الأحزاب في هذه الورقة" كل الحركات والأحزاب والفصائل الفلسطينية اليسارية منها
والديمقراطية والوطنية والدينية على حد سواء".
ومن الأهمية بمكان بعد هذه البديهيات الرئيسة أن نركز أو نمعن النظر في تتبع الاختلالات الجوهرية التي بدأت تظهر وتتفشى بشكل ملموس في الحياة التنظيمية والحزبية وتراجع دورها وتأثيرها وخبوَ وهيجها، مما أدى إلى عزوف الشباب عن الانضمام أو الانتماء إليها،مع ثبات مكونات وعناصر المجموعة الأولى.وبتعبير آخر وبالاستعانة بعلم الاقتصاد، فأنه مع ثبات العوامل الموضوعية المشار إليها [المناخ والبيئة الاجتماعية والثقافة الدينية والتربية] فإن دور وتأثير الأحزاب على الشباب في الوقت الحاضر بات ضعيفا ومحدودا جدا،بعكس ما كان عليه الحال في فترة الخمسينيات والستينات وحتى السبعينات.وسنحاول الإشارة إليها بنقاط وباختصار قدر الإمكان كما فعلنا في المجموعة الأولى.
1- لم تقدم الأحزاب والحركات كلها نماذج يحتذى بها للشعب وخاصة فيما يتعلق بممارساتها الميدانية بالدرجة الأولى،تميزها عن السلطات الحاكمة أو الأحزاب الوطنية والقومية والمجموعات والشخصيات التي تصنف نفسها ضمن التيار اليسار أو المحسوبة عليه، والتي أتيح لها الوصول للحكم في العراق وسوريا والجزائر واليمن الجنوبي والسودان ومصر وليبيا وفلسطين.فلم يشعر الشباب أن أمامهم أحزابا تشكل نقلة نوعية مختلفة عما هو سائد وجدير بالانتماء إليها أو الالتحاق بها والنضال تحت راياتها والدفاع عنها.
2- ومع فشل وإخفاق المشروع الوطني في أكثر من دولة عربية بما فيها فلسطين، والهزائم المتتالية التي لحقت بكل القوى الوطنية والقومية واليسارية وفي مقدمتها منظمة التحرير الفلسطينية بسبب الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة والهجمة الأميركية الغربية على المنطقة وقمع الأنظمة، دفعت بجموع إضافية من الشباب للعزوف عن المشاركة والانتماء للأحزاب وخاصة اليسارية والقومية. فقد وجدت مجموعات كبيرة من الشباب ضالتها في الأحزاب والحركات والتجمعات الإسلامية التي بدأت تنمو وتتسع قواعدها وخاصة بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 ومقتل السادات في أكتوبر 1981 ومن ثم نشوء حركة حماس عام 1987 وقبلها تأسيس حركة طالبان بدعم وتسليح أميركي كامل لمواجهة التدخل السوفيتي في أفغانستان وزيادة نفوذها الإقليمي وتحقيقها لانتصارات ملموسة وبروز تيارات سلفية مسترشدة بالفكر الوهابي المتوحش،مثل القاعدة وداعش والنصرة وغيرهما، مما حفز قطاعات واسعة من الشباب العربي والإسلامي للانخراط في صفوفها بدلا من الانتماء إلى الأحزاب الوطنية والقومية واليسارية.
3- سعت كل الأحزاب لتحقيق مصالحها وتفضيلها عن مصلحة المجتمع والوطن. فزرعت ثقافة حزبي دائما على حق والخطأ على الآخرين.
4- الانتماء أو الالتحاق بالأحزاب وخاصة خلال العقود الثلاثة الأخيرة ارتبط بالإغراءات والمصالح المادية وخاصة عندما يكون الحزب الحاكم في السلطة مشاركا أو مستأثرا بمفرده بمقاليد الحكم .
5- الإخفاقات المتتالية في معظم مشاريع التنمية وانعدام المحاسبة وانتشار الفساد والبطالة والفقر واستعار الاقتتال والاحتراب الداخلي الدموي المدمر في الأنظمة الوطنية التي قادتها الأحزاب المحسوبة على اليسار.
6- استئثار واحتكار أشخاص بعينهم لقمة الهرم السياسي والسلطوي لعقود طويلة دون تغيير،أوجد مبررا لعزوف الشباب وأحبط طموحاتهم وأغلق أمامهم نوافذ الأمل للتغيير وحتى لمجرد التفكير أو الحلم بحقهم في الوصول إلى أعلى قمة الهرم الحزبي والسلطوي، وخاصة أن نفس الشخوص هي من تقود الحزب/ الحركة/ والدولة في آن معا.لقد سُدت أمامهم كل الفرص للوصول بحرية إلى المواقع المتقدمة فلم يعد لديهم خيارات كثيرة فأما مغادرة صفوف الحزب وبالتالي العزوف عن المشاركة أو التحول إلى الأحزاب الدينية كما اشرنا في البند "2" أو الابتعاد كليا عن المشاركة كما هو حاصل مع الغالبية الساحقة حاليا.
7- وقد ساهم في عزوف الشباب نشوء فكرة الحزب القائد المعصوم عن الأخطاء أو القائد التاريخي الملهم الذي "لا يشق له غبار" وتبرير كل أفعاله وأخطائه وسلوكياته مهما كانت.
8- ومما زاد من المأساة وقرف وعزوف الشباب عن المشاركة في الحياة الحزبية بروز ظاهرة توريث الحزب والدولة لدى العديد من الدول العربية والأحزاب معا.[حزب البعث في كل من العراق وسوريا والحزب التقدمي الاشتراكي في لبنان والكتائب والمستقبل (أحزاب طائفية ومذهبية بحتة ) والحزب الوطني في مصر والقذافي ]
9- تأسيس أحزاب طائفية ومذهبية وعرقية ودينية في أكثر من دولة عربية (لبنان والعراق والجزائر وسوريا وفلسطين ومصر)دفعت بالغالبية العظمى من الشباب بالابتعاد عن المشاركة في هذه الأحزاب لكونها تؤسس للتفرقة وتشق الصفوف وتثير النعرات بكل أشكالها ،وكانت الأحزاب اليسارية من أكثر
المتأثرين سلبيا والخاسرين من تأسيس هذه الأحزاب .
10- حينما تولت كوادر الأحزاب(حركة القوميين العرب والبعث والشيوعيين) في العقود التي تلت نكبة فلسطين الاتصال بالشباب وتنظيمهم وخاصة الطلبة، كانت تطرح عليهم برامج تحرير فلسطين ومواجهة الاستعمار والإقطاع وضرورة قيام الوحدة العربية واستعادة الشعب لثرواته وحقوقه والقضاء على الرجعية وإقامة الاشتراكية والحرب الشعبية الطويلة الأمد تيمنا بالحرب الفيتنامية والجزائرية واليمنية الجنوبية ..الخ وكانت هذه العناوين تلقى تجاوبا واستعدادا للانتماء والتضحية من قبل الشباب. والسؤال الآن ما هي البرامج والتوجهات والأفكار والعناوين النضالية التي بوسع كوادر الأحزاب الحالية طرحها على الشباب لتجنيدهم للانتماء أو الالتحاق بالعمل الحزبي؟؟ ماذا ستقول لهم!!الاعتراف بإسرائيل عبر حل الدولتين بما في ذلك التنازل عن أكثر من 80%من أرض فلسطين التاريخية، وما هي البرامج والمبادئ التي تميز هذا الحزب أو ذاك. فالتجارب العملية والميدانية وخاصة في العقود الأربعة الأخيرة أكدت عدم وجود فروقات فكرية وممارسات متميزة بين الأحزاب.فالنشاطات والفعاليات وكذلك الكسل والبيروقراطية تكاد تكون السمة الغالبة والمتجانسة على الرغم من الاختلاف الفكري والنظري والإيديولوجي والذي تراجع بشكل ملموس على جميع الأحوال، ولم يعد يتصدر اهتمامات الأحزاب ولا برامجها واطروحاتها!!!فعملية تنظيم الشباب بالأحزاب في الوقت الحالي باتت صعبة جدا وغير عملية، لأنها تتعارض مع ما يفكر به الشباب ويصبو إليه.
11- كانت المخيمات والقرى الفلسطينية في فلسطين ومناطق اللجوء والشتات تشكل مقاصد لمعظم قيادات الأحزاب القومية واليسارية والوطنية على وجه التحديد، وقد شكلوا نماذج يقتدى بها للشباب في حينه، لكونهم قريبين منهم حيث كانوا يعقدون اجتماعاتهم بها بل ويسكنون بداخلها أو بجوارها .وقد تغير الوضع في الوقت الحاضر بشكل كبير حيث لم تعد القيادات الحزبية تملك النفس النضالي والهمة( بحكم كبر السن وعوامل أخرى) للمكوث في المخيمات لأكثر من ساعات محدودة ولغرض حضور مهرجان أو تقديم العزاء بشهيد أو مناسبة انتخابية معينة تغادر بعدها المخيم أو القرية،وخاصة أن أغلبيتهم الساحقة تحضر بسيارات فارهة حديثة من الدفع الرباعي ومن نوع مرسيدس وأودي و BMW مع سائقين وحراس وقد خلقت هذه السلوكيات نفورا من قبل شباب المخيمات والقرى والتجمعات لكل قيادات الأحزاب، كما أوجدت فجوة آخذة بالاتساع التدريجي. وقد بدأت تلمس حالات من التذمر وعدم الرضا على هذه السلوكيات والتصرفات غير النضالية وغير الثورية التي يتبعها ويسلكها قادة الأحزاب.
12- كما ساهمت الانشقاقات والانقسامات المتتالية وغير المبررة للأحزاب في العقود الأربعة الأخيرة لعزوف الشباب عن الانتماء أو الالتحاق بها والكثير منهم غادر بسببها، كما أدى فشل كل محاولات الاندماج والتوحيد والتحالفات وحتى على مستوى التنسيق الانتخابي لقرف ونفور وابتعاد الشباب عن الأحزاب.
13- لقد كان لسيادة وسريان مبدأ رئيس للأبد وأمين عام للأبد وعضو مكتب سياسي للأبد وعضو لجنة تنفيذية للأبد إلى نفور الكثير من الشباب تجاه الأحزاب والحركات.وخاصة حينما يقارنوها بين الأنظمة الوطنية والديكتاتورية فلا يجدوا فروقات كبيرة في أسلوب وسلوكيات إدارة العمل الوطني والحكم .فبالنسبة إلى مجموعات لا بأس به من الشباب غير الراغبين وغير المحبذين بالالتحاق بالحركات والأحزاب الدينية لا تمثل أو تشكل الأحزاب الحالية الطموح الذي يتطلعون إليه أو ينشدونه.فهم يقولون بأن الأحزاب الدينية(الأخوان المسلمين وحزب التحرير ومن في صفهم) تنتخب قياداتها ومرشديها على مبدأ البيعة والولاء حتى الوفاة أو حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا ،لذا فمن المفترض أن تميز الأحزاب اليسارية والوطنية نفسها عما هو قائم بحيث تشكل النموذج الجاذب والمستقطب للكفاءات.وهناك مقولة يتم تداولها على نطاق واسع في أوساط الشباب وتُذكر في الندوات واللقاءات والورش المختلفة مفادها"بان الأحزاب اليسارية والوطنية والقومية باتت تعتبر قوى طاردة للكوادر الشبابية التي لديها كفاءات وخبرات نضالية" .
14- يحمل معظم قادة الأحزاب والعديد من الأمناء العامين والأغلبية الساحقة من أعضاء اللجنتين التنفيذية لمنظمة التحرير والمركزية لحركة فتح وبعض أعضاء المكاتب السياسية للأحزاب والفصائل بطاقات شخصيات مهمة VIP تخولهم عدم الانتظار على الحواجز العسكرية للاحتلال والمرور السهل في التنقلات وخاصة إثناء السفر من وإلى فلسطين عبر الجسور وأحيانا عبر مطار اللد أو عمل التنسيق الأمني المسبق من خلال دائرة الشؤون المدنية التي تتولى إبلاغ سلطات الاحتلال في بيت إيل بسفر هذا الشخص أو ذاك،مما ضاعف الفجوات وعدم الثقة بين الأحزاب والشباب الذي يعاني الأمرين والتفتيش البدني والاليكتروني المذل خلال تنقله بين المدن أو عبر الجسور حيث ينتظر ساعات طويلة للوصول إلى وجهته فالشباب يراقبون ويتابعون الامتيازات التي تتمتع بها قيادات الأحزاب من المرور الآمن والسهل الخالي من ساعات الانتظار الطويلة والمعاناة والتفتيش المذل والمهين،ومقارنته بما يواجهونه هم في تحركاتهم فتزداد الفجوة وعدم الثقة بالأحزاب مما يؤدي إلى عزوفهم عن الانتماء إليها أو الالتحاق بها بسبب السلوكيات والتصرفات غير النضالية المشار إليها.
15- هناك فارق عُمري كبير بين قيادات الأحزاب وبين الشباب يحول دون إيجاد قواسم وتجانس ومفاهيم
مشتركة.فأعمار القيادات الحالية للأحزاب بالمتوسط تصل إلى 65 عاما ونسبة لا بأس بها منهم لم تعد مناسبة ولا مؤهلة ولا تصلح للاستمرار في مواقعها القيادية بالأحزاب والنضال بنفس الهمة والنشاط والحيوية المطلوبة مما ولدَ حالة من الكسل والخمول لديها وتكلس فكرها،حيث لم تعد قادرة على تقديم أي جديد في ساحات الكفاح كما لم تعد تتميز بممارساتها النضالية اليومية.ومن الجهة الأخرى فأن عمر الشباب دون ال25 عاما وعليه فليس من السهولة بمكان ردم أو سد الفجوة أو الهوة الآخذة بالاتساع بين الشباب وقيادات الأحزاب.ولهذا السبب لم تعد تُنظم لقاءات واجتماعات دورية منتظمة بين الشباب وقيادات هذه الأحزاب فلديهم ما يكفي من الغرور والاستعلاء وأحيانا النزق في التعامل مع الشباب بما في ذلك الاستماع والانتباه والعناية لما يقولونه.وللأسف الشديد فإن هذه القيادات ما زالت تعتبر نفسها هي الأجدر في قيادة المرحلة الحالية على الرغم من عدم إلمامها ومعرفتها بقواعد التعامل مع الوسائل والأدوات والآليات الحديثة التي يتفوق فيها الشباب بشكل ملموس.ولا اعلم حقيقة متى ستقتنع قيادات الأحزاب الحالية أنها لم تعد قادرة على قيادة النضال بطريقة فعالة ومجدية؟.
16- الشباب على قناعة تامة بان القيادات الحزبية والفصائلية لم تستفد أو تستثمر جيدا التضحيات الكبيرة والهائلة التي يقدمونها في ساحات المواجهات شبه اليومية مع الاحتلال ،بل أن هذه القيادات لم تعمل بما يتوجب عليها فعله لتطوير نضالاتهم ودعهما وتوفير كل مقومات الصمود والاستمرار لها . فهي دائما متسرعة في جنيَ نتائج النضالات والتضحيات التي يقدمها الشباب وعموم الشعب(التسرع في جنيَ ثمار الانتفاضة الأولى من خلال اتفاقية أوسلو وعدم رغبتها أو نيتها في تطوير هبة أكتوبر المجيدة) .
17- موقف القيادات الحزبية شبه المحايد من هدم بيوت الشهداء ودعم أسر الشهداء بما يليق بحجم التضحيات الكبيرة التي تقدمها قوافل الشهداء من الشباب.فنسبة التعويضات التي تحصل عليها الأسر التي تهدم بيوتها تكاد لا تذكر والمخصصات الشهرية التي تدفع لأسر الشهداء وذويهم قليلة جدا ولا تسمح لأسرته بالعيش الكريم حتى ضمن حدود الحد الأدنى.
18- وهناك نقطة هامة أخرى عن سبب عزوف الشباب عن الانتماء للأحزاب متمثلا في الانقسامات والانشقاقات غير المبررة وغير الموضوعية وغير المفهومة وبمعظمها ذاتي وشخصي مما يجعل الشباب في حيرة من أمرهم إزاء هذه الانقسامات المتكررة.لذا فمن الصعب إيجاد حزب أو جبهة أو حركة لم تنقسم
أو تنشق مرتين أو ثلاثة وأحيانا أربعة
19- هناك قيادات حزبية كانت تشغل مواقع حزبية متقدمة جدا (نائب أمين عام وأعضاء مكاتب سياسية ولجان مركزية ومجالس ثورية) وحينما غادرت صفوف الحزب سواء نتيجة الانشقاق أو المغادرة الطوعية أو الفصل أو تجريده من مواقعه بسبب الفساد،احتفظوا و/أو أبقوا لديهم أموالا طائلة وبعضهم ما زال عضوا في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير حتى تاريخه وجميعها باتت معروفة ومتداولة بين الشباب وعلى شبكات التوصل الاجتماعي .وقد أوجد كل ذلك نفورا من الانتماء للأحزاب وخاصة حينما يشاهدوا التقطير والشح والتقصير في التعامل مع احتياجاتهم ومتطلباتهم ومستلزماتهم النضالية وبين ما هو متوفر ومتاح مع هذه الشخصيات والرموز الفاسدة.بل أن بعضهم يذهب ليحتمي ببعض الأنظمة العربية ويحصل على أموال لزيادة الفساد والإفساد والنفاق في الساحة السياسية الفلسطينية وبعضهم يشكل منظمات غير حكومية أو مؤسسات غير ربحية بتمويل عربي وأجنبي ،كل ذلك بغرض تمزيق إضافي للساحة السياسية وتعقيد الشباب أمام الخارطة السريالية التي ترسم مع سبق الإصرار والترصد لإضعاف الوحدة الوطنية الفلسطينية وإخراج الشباب من ساحة الصراع.
20 – الشباب الفلسطيني (العربي) محاط ومطوق ببيئة محبطة وقيود اجتماعية واقتصادية ثقيلة وأجهزة أمنية قمعية تسفك الدماء وتهدر كرامات وإنسانية الشباب بلا رحمة أو هوادة،في حال مارسوا حقهم في النقد بصوت عالٍ.ولا يقتصر القمع على الأجهزة الأمنية فحسب بل يتعرض الشباب لقمع فكري من قبل قيادات الأحزاب نفسها.فلم يعد شعار"دع ألف زهرة تتفتح" معمولا به أو ساري المفعول في هذه الأحزاب بل باتت تعتبر أصوات متمردة يتم إسقاطها في الانتخابات الحزبية بشكل شبه علني وبدون مبررات على قاعدة الخشية من تكرار الانشقاقات.
21 - وأخيرا وليس آخرا،فرغم وجود الفساد لدى قيادات كثيرة في الأحزاب والفصائل والحركات سواء السياسية منها أو الدينية وهي متداولة على نطاق واسع ،فإن الشباب حتى تاريخه لم يسمع أو يشاهد أو يرَ إحالة احد الفاسدين إلى المحاكم سواء الحزبية منها أو المدنية، بل أنه في حالات معينة يتم تصفية وقتل بعض الكوادر دون أن تقدم المبررات والشروحات للشعب كما حصل أخيرا في قطاع غزة.وقد خلق ذلك شعورا قويا لدى الشباب بعدم الفائدة من الانتماء للأحزاب القائمة حاليا،لأنهم يخشون على حياتهم فيما لو حصلت أية أخطاء غير مقصودة.فعدم إجراء المحاكم وتبيان حقيقة الأوضاع للرأي العام ينفر الشباب ويبعدهم عن الالتحاق بالأحزاب.وبالمناسبة فانه من النادر جدا أن يعلن حزب ما انه قام بمحاكمة عضو فيه بسبب فساده أو حيثيات فصله.فالتزام الحزب الصمت يؤدي إلى انتشار الشائعات حول الأسباب الحقيقية للفصل وبالتالي إلى تشويه صورته وخاصة في حال تكرارها مما يبعد الشباب عن مجرد التفكير بالانتماء إليه وحتى من الاقتراب من ميدان العمل السياسي المنظم.
المجموعة الثالثة، تخص التحولات الهائلة التي حدثت في وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام المباشر.
لقد كان للتحولات الهائلة التي حدثت في العقود الثلاثة الأخيرة على وسائل الإعلام وسرعة بث الأخبار السياسية والأحداث عبر القنوات الفضائية ووسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإليكترونية آثارا ملموسة على الشباب بشكل خاص.فبات الشباب على معرفة ودراية بكل ما يجري حوله وأصبح العالم كله كقرية صغيره في متناوله.لذا فلم يعد بمقدور قيادات الأحزاب أن تخفي عن كوادرها بعض الأخبار والتطورات أو تنقلها إليهم بطريقة غير صحيحة.فالشباب وبحكم إجادتهم وقدرتهم على التعامل مع الأدوات الحديثة للوصول إلى"العالم الافتراضي"باتوا يحصلون على المعلومة من مصادر مختلفة أسرع بكثير مما تحصل عليه قيادات الأحزاب نفسها.لقد وجد الشباب ضالتهم في هذه الوسائل المتنوعة رغم المخاطر العديدة التي تصاحب استخدامها.ومن الجهة الأخرى فأن محطات البث المباشرة المنتشرة والتي يتم التقاط بثها عبر الأقمار الاصطناعية وخاصة برامج المسابقات مثل سوبر ستار وارب أيدل ومسابقة ال 100 مفتاح والأخ الأكبر التي تقدمها كلها محطات ال م بي سي(MBC) والمستقبل اللبنانية وعشرات المحطات الفضائية الأخرى والمنقولة بالأساس عن برامج أجنبية،أميركية تحديدا، تهدف جميعها إلى حرف وإلهاء الشباب عن القضايا الوطنية وتخلق أجيالا من الشباب القابل للانحراف والمأخوذ بالهالة الإعلامية الكبيرة التي تتيحها هذه المحطات للشباب بغرض إبعادهم عن العمل المنتج والمجدي وعن القضايا الوطنية التي تتطلب وتحتاج إلى بذل جهود مضنية لتحقيق الأهداف سواء الخاصة بالشباب أنفسهم أو لخدمة الوطن، فهذه البرامج تأخذهم نحو العمل السهل غير المكلف حيث تفتح أمامهم طريق الشهرة والثراء السريع من خلال ما يطلق عليه اكتشاف المواهب الغنائية أو الفنية!!.فمحطات البث المباشر تضخ معلومات وأخبار وتحاليل ومقابلات غرضها الأساسي إبعاد الشباب عن المشاركة في العمل النضالي وتغيير أو حرف أولوياتهم والتأثير على اختياراتهم وإلهائهم عن القيام بدورهم الطليعي المفروض لخدمة الوطن والملفت للنظر من كل هذه المحطات سالفة الذكر أنها لا تقوم أو تعرض أية برامج منتظمة ودورية تحض على مناهضة الاحتلال ومواجهة أساليبه التعسفية وترفع من وتيرة التصدي لمخططاته الاستيطانية وتهويده القدس ومصادرته الأراضي. ولم تكتف هذه المحطات بما سبق ذكره ، بل أنها تتجاهل عن عمد القيام بتقديم برامج نهضوية معنية بالثقافة الوطنية والقومية العربية ومعاداة الاستعمار الغربي وتحالفه مع الكيان الإسرائيلي والتسويق لفكرة التطبيع وعدم مقاطعة المنتجات الإسرائيلية وبالتالي صرفه عن المشاركة في كل الفعاليات والأنشطة الوطنية.فإلهاء الشباب بشبكات التواصل الاجتماعي على مدار الساعة والتي تزخر بمعلومات غير دقيقة وبعضها مزور أو محرف، لجعله يقضي أطول وقت أو فترة زمنية ممكنة أمام الشبكات أو المحطات الفضائية لإبعاده عن المشاركة في النشاطات والفعاليات الحزبية والسياسية وبالتالي عن القضايا الوطنية.فالمعلومات والأخبار التي يتم ضخها يوميا عبر الانترنت وشبكات التواصل الاجتماعي وأدوات البحث الجوجل كفيلة بتحويل وتغيير أولويات الشباب واهتماماتهم.لذا فلم تعد تعاميم ونشرات وتقارير ومؤتمرات الأحزاب ووسائل الإعلام الحزبية والوطنية المرئية والمسموعة والمقروءة مصدرا ذو أهمية بالنسبة للشباب.ورغم خطورة ما أشرنا إليه ، إلا أن قيادات الأحزاب لم تحاول مرة واحدة الوقوف أمام هذه المخاطر وتقيَم النتائج المترتبة على استمرارها.فإبقاء الشباب الفلسطيني(العربي)أسير لشبكات التوصل الاجتماعية التي يتحكم ويضخ كل المعلومات التي تتدفق عبرها سيدفع ثمنه النضال الوطني الفلسطيني والعربي غاليا في حال استمرار سلبية الأحزاب وحياديتها إزاء ما يتم من غسل منتظم لعقول الشباب والتخطيط الطويل المدى الذي تنتهجه المؤسسات الغربية لإخراج الشباب من معادلة الصراع خدمة لدولة الاحتلال من جهة وإدخال الثقافة والسلوكيات الغربية في الحياة اليومية للشباب وجعل نمط الحياة الغربية مثلهم الأعلى ومبتغاهم ومقاصدهم من الجهة الأخرى.فحينما يتبين أن نحو 24% من الشباب الفلسطيني يرغبون بالهجرة إلى الخارج وبالأخص الولايات المتحدة الأميركية،فإن هذا كفيل بمعرفة التأثيرات السلبية والضارة لبرامج محطات البث المباشر وشبكات التواصل الاجتماعي على عقول الشباب وسلوكياتهم. تلك هي أبرز العناصر والعوامل والظروف الموضوعية والذاتية التي تدفع الشباب للعزوف عن الانتماء للأحزاب الفلسطينية (العربية).
الخلاصة:
اتضح أن عزوف الشباب عن الانخراط في العمل الحزبي والتنظيمي يعود لمجموعة عوامل منها ما هو موضوعي يرتبط بالبيئة الاجتماعية والتنشئة والتربية وبالظروف الاقتصادية والثقافية وأسلوب إدارة الحكم المنقول إلينا عبر التاريخ الطويل بدءا من الدولة الأموية التي أسست للنظام الوراثي في اختيار الحاكم بغض النظر عن خبراته ومؤهلاته وإمكانياته وقدراته وبالتالي ألغت حق وحرية الشعب حيث يمثل الشباب عموده الفقري في اختيار الأنسب والأفضل والأجدر بتبوأ المواقع القيادية سواء في الدولة وتاليا في الأحزاب.وقد انتقلت عدوى وأمراض الاستئثار والتمسك بالسلطة إلى الأحزاب التي تم احتكار مواقعها القيادية الأولى من قبل أفراد وأشخاص بعينهم لعقود عدة وتمكن كل من بلغ سدة وموقع القيادة من البقاء فيها سواء بالقوة أو عبر انتخابات شكلية ويبقى في الحكم حتى يتم الانقلاب عليه أو يتوفاه الله أو يقضي الله أمرا كان مفعولا وفي حالة الأحزاب حتى يحدث انشقاق ويشكل تنظيم جديد تعاد فيه نفس الممارسات والتمسك بالسلطة .وفي كلا الأحوال لا يتم احترام رأي ووجهات نظر الشباب وحقهم في انتخاب من يرونه صالحا لإدارة شؤون الدولة / الحزب.مما دفعهم للعزوف عن المشاركة في العمل الحزبي والتنظيمي وحتى العمل السياسي العام والمجتمعي. وقد ضاعف من قلة اهتمام وعزوف الشباب عن الانتساب للأحزاب التطور الهائل في عام الاتصالات وشبكات التواصل الاجتماعي والانترنت أو ما اصطلح على تسميته "بالعالم الافتراضي" حيث بات كل شيء متاح ومتوفر للشباب ولم يعودوا بحاجة للالتحاق بهذا الحزب أو ذاك للحصول على المعلومة أو الخبر . فالظروف الموضوعية والبيئة الاجتماعية وتكوينة وهيكلية وآليات الانتخابات الحزبية كلها شكلت وما زالت عوامل طاردة عن مشاركة للشباب في العمل الحزبي.فليس من السهولة بمكان، أمام الوقائع المشار إليها في متن الورقة أن تشكل الأحزاب عنصر جذب للشباب للمشاركة بالعمل السياسي المنظم وحتى المجتمعي بدون إحداث تغيير جوهري .
مجلة شئون فلسطينية