غزة «قنبلة موقوتة».. منذ العام 1985!-هآرتس
2016-09-25
الانتفاضة التي اندلعت قبل 29 سنة في 9 كانون الاول 1987 نسيت تقريباً من شدة الأحداث المزعزعة التي جاءت في أعقابها، وهذا مؤسف. لم يتم استخلاص العبر رغم أنه كان واضحا انها شكلت نقطة تحول في تاريخ الصراع الاسرائيلي - الفلسطيني. «لقد وضعت حدا لعشرين سنة من الخداع الذاتي». والتي اعتبرت ان الهدوء النسبي في «المناطق» قد يستمر الى الأبد، كما تمت الاشارة، بعد عدة أشهر من اندلاعها، من قبل مراقب مجرب هو رئيس الاستخبارات السابق، الجنرال احتياط شلومو غازيت (حسب وثيقة تعود لشهر شباط 1988 وردت في كتابه «على مفترقات حاسمة»). وقد اشارت ايضا الى تحويل سكان «المناطق»، وخصوصا الجيل الشاب الذي ترعرع تحت الاحتلال الاسرائيلي وتحول الى العنصر الفاعل في الصراع الذي كان يدار حتى ذلك الحين من جهات خارجية (الاردن أو م.ت.ف). بدأت الانتفاضة بالمظاهرات في قطاع غزة بعد جنازة اربعة من سكان مخيم جباليا قتلوا في حادثة طرق، حيث اصطدمت السيارة العمومية التي سافر فيها المقتولون بشاحنة اسرائيلية قرب حاجز ايريز. وفي اعقاب الحادث انتشرت الشائعات في غزة وكأن التصادم كان عملية اسرائيلية انتقامية موجهة، في اعقاب قتل مواطن يهودي على يد فلسطيني قبل ذلك ببضعة ايام. كان قطاع غزة ايضا مركز اندلاع الغضب والعنف الجماعي، وهو ما سُمّي الانتفاضة. كانت نقطة تحول، لكن التوقيت لم يكن ضروريا. يمكن أنه كان بالامكان تأخير العنف أو تقليصه لولا اللامبالاة الاسرائيلية تجاه الوضع في «المناطق»، وخصوصا في غزة. وهذا يستحق لقب «فشل» ينضم الى قائمة الفشل الطويلة لحكومة اسرائيل التي بدأت عشية «يوم الغفران» في العام 1973 فصاعدا. 12 سنة بعد تلك الحرب تكرر فيها الفشل الذي نبع من اللامبالاة والتعالي حول ما يحدث وراء الحدود، وهذه المرة وراء الخط الاخضر. وثيقة لافتة توضح الوضع الذي ساد هي تلخيص نقاش في طاقم التفكير حول الشرق الاوسط، الذي أقامه الجنرال احتياط ابراشا تمير، مدير عام مكتب رئيس الحكومة في ايام حكومة الوحدة الوطنية التي وقف على رأسها في ذلك الحين شمعون بيريس. وقد اعطيت الوثيقة لوزير الخارجية، اسحق شامير، وعدد من الوزراء. وسوف اقتبس بعض المقاطع منها، سواء اقتباس كامل أو بتصرف. وما حدث مع الوثيقة والردود عليها هي شهادة لطريقة تعاطي الحكومة مع «المناطق». طاقم التفكير، جلسة 25/6/1985: «قطاع غزة» اقتصاد، ديمغرافيا، وعملية السلام. «ناقش الطاقم مشاركة ابراهام تامير وعمانويل تسيون، العقيد افرايم كام، رؤوبين داف، وغاب ممثل «الموساد». وشارك ايضا العقيد يشعياهو ايرز، رئيس الادارة المدنية، ومستشاره للشؤون العربية، دافيد حاخام، وايضا العقيد شالوم هراري، مستشار منسق المناطق للشؤون العربية». بدأت الوثيقة باعلان دراماتيكي: «قطاع غزة قنبلة مؤقتة من الناحية الديمغرافية والاقتصادية ومن الناحية السياسية والأمنية ايضا». وفي السياق: «أ - الديمغرافيا: منطقة القطاع تبلغ 360 كم مربعا يعيش فيها 520 ألف شخص. الاكتظاظ السكاني هو 1391 شخص لكل كيلومتر مربع، وهذا من أعلى النسب في العالم (وللمقارنة: الاكتظاظ في الضفة الغربية يبلغ 130 شخصا لكل كيلومتر مربع. التكاثر الطبيعي هو 4500 للعام والوفاة 0.6. كل سنة يضاف حوالي 20 ألف طفل جديد. ميزان الهجرة ايجابي، أي أن الحركة هي باتجاه القطاع (توحيد عائلات، عودة عمال من الخليج بسبب الازمة الاقتصادية هناك). في ظل التزايد الحالي سيصل عدد سكان القطاع في سنة 2000، 900 ألف شخص مع ما يعنيه ذلك من مشاكل الاسكان والبنى التحتية والتعليم وغيرها. هذه المشاكل التي تتفاقم سنة بعد اخرى». عدد سكان القطاع اليوم يبلغ اربعة اضعاف، وهم يبلغون اكثر من مليونين. «ب - الاقتصاد: تقلصت القوة الاقتصادية في القطاع، لذلك فان نصف قوة العمل (42 ألفا) تعمل في اسرائيل. ومن بين العاملين في القطاع هناك 16 ألف عامل في المصانع الاسرائيلية (مثلا مصانع الملابس). إن التغيير في سوق العمل الاسرائيلية قد يحدث هنا صعوبات كبيرة (يجب التذكر أن اكثر من 20 ألف ممن يعملون في اسرائيل يعملون في البناء، وهذا قطاع حساس جدا تجاه التحولات الاقتصادية) ولا توجد لدى الادارة المدنية ميزانية لمعالجة البطالة. إن بنية العمل في قطاع غزة نفسه شديدة المحافظة (التشديد على الزراعة والتجارة) وحجم قوة العمل، سواء في اسرائيل أو القطاع، هو 20 في المئة فقط من مجموع السكان. وهذه النسبة تعتبر اقل مما هي في دول العالم الثالث. والمشكلة الاكثر خطورة هي توفير اماكن عمل للمتعلمين الذين يزداد عددهم، خصوصا من بين اللاجئين الذين يهتمون بالتعليم العالي (7 آلاف ممن أنهوا المرحلة الثانوية و6 آلاف من خريجي الجامعات في كل سنة). وبسبب غياب فرص العمل المحلية تتقلص فرص العمل في دول الخليج. اليوم هناك على الاقل 3 آلاف اكاديمي يعملون في المهن، وهذا يخلق الامتعاض وعدم الاستقرار». هنا تنتقل الوثيقة الى استعراض الاعمال الاسرائيلية القليلة لاعادة تأهيل اللاجئين (تقوم اسرائيل بتأهيل 4 آلاف شخص كل سنة، في الوقت الذي يبلغ فيه التكاثر الطبيعي 10 آلاف) تستعرض الوثيقة المبادرات القليلة للإدارة المدنية وفشلها وعادة بسبب غياب الميزانيات. كانت هناك محاولة جدية لاستغلال ما يزيد على حاجة البساتين من اجل اقامة مصنع للعصير المركز، لكنها لم تنجح بسبب معارضة اللوبي الزراعي الاسرائيلي. المصنع الكبير الوحيد هو مكان التغليف في حاجز ايريز الذي يعمل فيه 130 عاملا، وهو ايضا لم يحصل على تسمية منطقة تطوير أ. المياه هي مشكلة خطيرة. «القطاع يستهلك 110 ملايين كوب ولكنه يوفر فقط 65 مليوناً». تتحدث الوثيقة ايضا عن العلاقة بين غزة والضفة الغربية: «علاقة سكان قطاع غزة مع الضفة الغربية تزداد قوة منذ 1974 وأكثر من ذلك منذ 1977 خصوصا بمبادرة من الخارج بسبب الوعي المتزايد في «م.ت.ف» حول ضرورة منع الفصل بين المنطقتين المختلفتين كثيرا. أداة مهمة لفرض التعاون المتزايد كانت «لجنة التوجيه الوطني التي كانت فيها ثلاثة اماكن للقطاع. وهذا ساعد في التقرب وتنسيق المواقف (مثلا في موضوع مقاطعة الادارة المدنية). ومنذ حل لجنة التوجيه فان اللجنة المشتركة (من الاردن و»م.ت.ف») تساعد في فرض التنسيق عن طريق ادخال الاموال الى القطاع، رغم أن ذلك يناقض مبدأ اقامتها. جميع المنظمات التي هي جزء من «م.ت.ف» لديها بنية فوق اقليمية وصحفها (التي تصدر في شرقي القدس) تسعى الى اعطاء مكان واسع لقطاع غزة. في مجالس الامناء لجامعات الضفة واتحادات الطلبة هناك تمثيل كبير لابناء القطاع وايضا في المؤتمرات الوطنية (السياسية والثقافية). «يأتي الأمر في الأساس من فوق، وتساعده التطورات من الاسفل: حقيقة أن كثيرا من العمال الغزيين يسكنون طوال الاسبوع في المدن العربية في المثلث على طول الخط الاخضر، زيادة حالات الزواج وتزايد الغزيين في معاهد الضفة، لا سيما منذ أن اغلقت أمامهم بوابة التعليم في مصر (هؤلاء في الاساس مؤيدو التيار الديني في جامعة النجاح وبير زيت وجامعة الخليل وبيت لحم). لا يجب أن ننسى ايضا العلاقة الاقتصادية الديمغرافية القديمة بين الخليل وغزة، وعلاقة المؤسسة الدينية مع نظيرتها في شرقي القدس والخليل. «ح. استخلاص: على مستوى الجمهور السياسي، التوجه هو ازالة الفوارق والتعاون المتزايد. يبدو أن فكرة «غزة أولا» لها فرصة. وأي نقاش حول عملية السلام يجب أن يتطرق للضفة والقطاع في الوقت ذاته». الى هنا أهم ما جاء في الوثيقة التي كان من المفروض أن تكون بمثابة تحذير من اجل العمل لتحسين الوضع. اعتبر الطاقم أن محاولة نشرها شفويا ستساعد على نقل الرسالة. وفي الوقت نفسه حاول العقيد ايرز وحاخام نشر الوثيقة في الاجهزة الامنية والعسكرية. وقال لي حاخام إنه يجد صعوبة في ايجاد أذن مستمعة. وقال لي إن «الجهاز» منشغل في النقاش حول مبادرة موشيه شاحل من اجل انشاء تحالف مع صدام حسين الغارق في وحل الحرب مع ايران. وايضا مبادرة اخرى لشاحل من اجل السيطرة على شركة الكهرباء في شرقي القدس. عندها خطرت ببالي فكرة التوجه الى صديق طفولتي، يعقوب تسور، الذي كان في حينه وزيراً للهجرة. تشاورت معه واقترح عليّ التحدث مع وزيرين كنت اعرفهما، عيزار وايزمان وموتي غور. الاثنان قرآ الوثيقة لكن ردهما كان مؤدباً. لذلك اقترح تسور أن أتحدث مع سكرتير الحكومة، د. يوسي بيلين، وهو من مقربي بيريس، نظرا لأن تسور نفسه يعتبر من «معسكر رابين»، لذلك علاقته مع بيريس كانت ضعيفة. استقبلني بيلين بعد توجهي اليه ببضعة ايام. كان يعرف عن الوثيقة. وقد اضفت بعض التفسيرات الشفوية.ابتسم بأدب وقال: «انت تعرف بيقين عن قضية العلاقة المعقدة بين بيريس ورابين، وهل تتوقع أنه من اجل غزة سيدخل بيريس في مواجهة مع رابين؟ غزة تحت سيطرة رابين». «لكنه رئيس الحكومة»، قلت. «بربك، يجب أن تكون واقعيا»، قال بيلين وحثني على شرب القهوة التي تم تقديمها لي. اضافة الى الادب الذي ميز المحادثة – مثل المحادثات مع وايزمان وغور – كان هناك خليط من اللامبالاة والتعالي وعدم الاهتمام. وكثرة الوثائق لم تغير ما ساد في العام 1973، تغير الميدان فقط. هل كنت أشعر أن هناك كارثة تقترب؟ بالتأكيد لا. كنت أفهم فقط بشكل يشبه التنبؤ مثلما في كتب جيمس جويس التي قرأتها في تلك الايام. التنبؤ بمعنى الغوص في عمق الاشياء. مصير مئات آلاف البشر، الذين نسيطر عليهم، مهم مثل قشرة الثوم، المهم ان يكون هناك هدوء. واذا حدثت مشاكل فلا بأس، نحن سنواجه الامر. تحول «المعراخ» الى «ليكود ب»، يمكن، بل من الاجدر، الحفاظ على «المناطق» بثمن معقول.