الزفرة الأخيرة - معتصم حمادة
2016-10-15
خطت الحالة الفلسطينية، في الضفة وقطاع غزة خطوة إضافية نحو المزيد من التمزق والإهتراء ما يتطلب من أصحاب المسؤولية الوطنية الدعوة العاجلة إلى وقف هذا التدهور والعودة إلى الحوار الداخلي، بروح الشراكة الوطنية.
فبعد فشل تنظيم الإنتخابات المحلية والبلدية، بسبب حروب الإنقسام بين فتح وحماس، وبعد أن أوصدت الأبواب مرة أخرى أمام إمكانية تحويل هذه الإنتخابات إلى مقدمة لإنتخابات شاملة رئاسية و للمجلسين التشريعي والوطني، جاءت مشاركة محمود عباس في جنازة شمعون بيريس بالضد من إرادة الإجماع الوطني الفلسطيني، بما في ذلك مواقف داخل فتح نفسها، عبرت عن نفسها ببيانات وتصريحات مختلفة.. لتصب الزيت على نار الخلافات الداخلية ولتظّهر مدى هشاشة الأوضاع الداخلية، وعمق الأزمة السياسية بفعل غياب المؤسسات المعبرة عن روح الجماعية الوطنية، لصالح التفرد بالسياسة وبالقرار، حتى دون التشاور بحده الأدنى مع القوى السياسية الفاعلة. ردود فعل السلطة والناطقين بإسم فتح [دون أن يعني ذلك أنهم ناطقون بإسم «كل فتح»] كانت صاخبة، إعتبرت النقد الموجه إلى السلطة على قرار تأجيلها للإنتخابات تهجماً وتطاولاً على الشرعية الفلسطينية، وعلى «رمز الشرعية» الرئيس عباس. وهددت تصريحات طائشة باللجوء إلى الرد «بقبضة حديدية» على أصوات النقد هذه، في محاولة لتحويل مجمل الحالة الفلسطينية إلى «فسطاطين»، فسطاط السلطة، والرئيس ومن معهما، وفسطاط آخر، يضم كل من ينتقد السلطة أو يعارضها، أو ينتقد الرئيس أو يعارضه، وهي محاولة لتعميق حالة الإنقسام، وتوسيع أسسها، تحت شعار من « ليس معنا فهو ضدنا»، «ومن هو ضدنا فهو عدونا»، حتى أن بعض التصريحات ذهبت بعيداً في نزع الشرعية الوطنية عن الفصائل الفلسطينية، كما فعل إبراهيم أبو النجا، أحد مسؤولي فتح في قطاع غزة. وما زاد الأمر سلبية، إرتفاع المزيد من الأصوات التي تتحدث (من داخل المؤسسة ومن أطراف محسوبة على السلطة وعلى فتح) عن رغبة الرئيس في الإستقالة، وعن أسماء مرشحة من داخل فتح (كالبرغوثي والقدوة) لوراثته في رئاسة السلطة. ولعل دخول عباس المستشفى بشكل طارئ، أعطى لهذه التصريحات بعداً إضافيا،ً صارت معه أقرب إلى التصديق، ما فتح، بالتالي، ما يمكن تسميته معركة خلافة عباس، من زاويتين سياسية وقانونية.
* * *
هذه الأجواء التوتيرية على يد إعلام السلطة (بما في ذلك إغلاق الباب أمام بعض الصحفيين المقربين من السلطة، أو المحسوبين عليها (كحسن البطل وهاني المصري وآخرين) لا تخدم المصلحة الوطنية، ولا تؤشر أن القيادة الرسمية، وأن الناطقين بإسم فتح، تشغلهم القضايا الكبرى المدرجة على جدول الأعمال. منها، على سبيل المثال تحضير الملفات لتقديمها إلى محكمة الجنايات الدولية بعد جولتها في المناطق المحتلة وفي الكيان الإسرائيلي لإجراء المشاورات اللازمة. ومنها ما ردده وزير خارجية السلطة رياض المالكي حول التحضير، إلى جانب الرباعية العربية، لتقديم شكاوي إلى مجلس الأمن والجمعية العامة، ضد الإستيطان، وبمشروع قرار إعتبار العام 2017 عاماً لإنهاء الإحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية منذ العام 1967، وتقديم مشروع قرار لرفع موقع دولة فلسطين في الأمم المتحدة إلى عضو عامل. وكما لا تؤشر هذه الأجواء التوتيرية أن أصحابها مهتمون بتوجيه محكمة العدل العليا، وبعدها لجنة الإنتخابات المركزية، وبعدها قرار حكومة الحمدالله، بإجراء مشاورات وحوارات وطنية، خلال أربعة أشهر، تمهيداً لدعوة جديدة لتنظيم الإنتخابات المحلية والبلدية، بعد أن نكون قد نجحنا، عبر هذه الحوارات والمشاورات في إزالة العراقيل والعوائق المعطلة.
إن كانت هذه الأجواء تدل على شيء، فهي تدل على أن مفتعليها باتت صدورهم شديدة الضيق، وباتت أضيق من أن تستمع لأي نقد مهما كان صغير. وضيق الصدر هذا، مرده بتقديرنا إحساس عميق بالفشل السياسي والفشل في إدارة الشأن العام، والفشل في التفاعل مع المجتمع وشرائحه السياسية المختلفة ومنابره متعددة الإتجاهات. لذلك لم تجد سوى التهديد والتلويح بالعنف، بل واللجوء إلى العنف وأدواته الأمنية سبيلاً بديلاً. هذا ما يفسر مثلاً لماذا إعتدت الأجهزة الأمنية على مسيرة شعبية معارضة لمشاركة عباس في جنازة بيريس، ولماذا أعلن جهاز الأمن الوقائي في الضفة النفير، يدعو منتسبيه إلى إستنفار الجهود للتصدي لأصوات المعارضة دون التمييز بين أصناف المعارضة هذه وإتجاهاتها السياسية، حتى أن بعض عناصره لم تتردد في الإعتداء على أعضاء في كتلة الوحدة الطلابية، الذراع الطلابي للجبهة الديمقراطية، وإقتحام أحد مقراتها وتحطيم محتوياته وإعتقال بعض أفرادها بذريعة التحقيق، بإنتهاك فظ للقوانين وللإجراءات القانونية السارية.
* * *
لا يستبعد بعض المراقبين أن يكون أحد أسباب هذا التوتير غير المبرر للأجواء الوطنية، هو الأزمة الداخلية في فتح، والضغوط التي تتعرض لها قيادة الحركة عشية إنعقاد مؤتمرها الوطني السابع. لكن من الخطأ تماماً أن تحمل الحالة الوطنية مسؤولية هذه الأزمة، خاصة أن أياً من فصائل م.ت.ف إعتبر نفسه معنياً بهذه الأزمة، وتدخل بها، إلا من زاوية رغبته أن تخرج منها فتح بطريقة سليمة. وبالتالي لا داعي للخلط بين هذه الأزمة وباقي الأزمات الوطنية. ونعتقد أن السياسة المطلوبة، هي سياسة الحوار الديمقراطي، مع حق كل طرف أن يمارس حريته هذه ضمن مسؤولياته الوطنية، خاصة في تناول القضايا الوطنية ومرجعيتها. وكما ندرك فإن البرنامج الوطني الفلسطيني، هو مقياس المواقف والسياسات والتكتيكات السليمة، وأي خروج عليه، من حق أي طرف أن ينتقده. وعلى هذه الخلفية نعتقد أن على حكومة الحمدالله أن تثبت مصداقيتها إزاء بيان تأجيل الإنتخابات لأشهر أربعة، وإن تتحمل مسؤولياتها في إجراء الحوارات مع القوى السياسية والفعاليات الوطنية. كما نعتقد أن على القيادة الرسمية أن تعيد الإعتبار للجنة التنفيذية في م.ت.ف، وأن تدعوها لتحمل مسؤولياتها إزاء الملفات الكبرى المدرجة على جدول أعمال الحالة الوطنية. فالإجتماعات التي عقدت على مستوى حركة فتح، هي إجتماعات خاصة بالحركة، ولا يمكن إعتبار توجهاتها وقراراتها بشأن الحالة الوطنية ملزمة للمؤسسة، إلا إذا تمت عبر اللجنة التنفيذية والمجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية. ونعتقد أنه آن الأوان لتستعيد هذه المؤسسات دورها في رسم السياسات الوطنية، فهذا هو الطريق لإخراج الحالة الفلسطينية من أجواء التوتير، وهذا هو الطريق لوضع حد لسياسة التفرد، والطريق للعودة إلى رحاب البرنامج الوطني، خاصة بما يتعلق (مرة أخرى) بضرورة إحياء وتفعيل قرارات 5/3/2015، أي وقف التنسيق الأمني مع قوات الإحتلال، ومقاطعة الإقتصاد الإسرائيلي، وتدويل القضية والحقوق الوطنية الفلسطينية.
على أمل أن تكون حفلة التوتير هذه هي الزفرة الأخيرة في هذا الميدان■