:مصدر المقال
https://ajalia.com/article/11284

كتاب الناصرة في الوجدان .. تسجيلا هاما للذاكرة الجماعية نبيل عودة

2016-12-11

"الناصرة في الوجدان الثقافي"- عنوان مثير ويلفتالانتباه. وهو عنوان الكتاب الذي اعده الأستاذ كريم شداد مسجلا به سنوات نشاطه كمديرالمعهد العالي للفنون وبيت الكاتب في مدينة الناصرة من عام 1994 الى عام 2007.
الناصرة لها تاريخ ثقافي حافل، شهد مراحل صعود وهبوط مختلفة ، واستطيع اناقول اني رافقت مراحل النشاط الثقافي في الناصرة بتواصل منذ بداية الستينات، ككاتباولا وكصحفي ثانيا وكناشط سياسي واجتماعي ثالثا. تابعت الإصدارات الثقافيةالمتنوعة، الندوات، المحاكم الشعبية، المسرح والموسيقى وفن الرسم ، في تلك السنواتشهدت الناصرة نشاطا كبيرا في مجال المسرح وكان المسرحي ، المخرج والممثل صبحيداموني مع فرقته المسرحية يشد انظار مئات المواطنين من الناصرة خاصة والوسط العربيعموما لحضور مسرحياته المميزة واختياره النصوص المسرحية بدءا من المسرح الاغريقيالى المسرح الأوروبي الحديث والمسرح العربي ، واحدث في الناصرة جوا نشطا ، عشراتالشباب انضموا لفرقته المسرحية، مئات المشاهدين حضروا عروض مسرحياته. للأسف هذاالنشاط الهام والتنويري تلقى ضربة شبه قاتلة من قوى تدعي التقدم والثورية.
الىجانب هذا النشاط الخلاق خضنا تجربة التثقيف العام الأدبي والفكري والسياسي الواسعللطلاب والشباب، عقدنا دورات تعليمية للفلسفة والاقتصاد السياسي، استمعنا الى ابحاثتاريخية عن واقعنا وقضيتنا القومية وواقع الشعوب العربية والثورات في العالم منالجزائر الى كوبا. كان ذلك النشاط ردا على سياسات التجهيل التي مورست في فترة نمووعينا من سلطات الحكم العسكري، ووصل الأمر الى فصل كل معلم وطني مستقيم يشك بأنه لايتقيد ببرامج التعليم التي اقرت من جهاز المخابرات الاسرائيلي وكانت السيطرة مطلقةعلى جهاز التعليم وسائر الوظائف الرسمية.. ويبدو ان هذا الجهاز ما زال يفرض نفسهعلى التعليم العربي.
للأسف لا ارى اليوم أي نشاط مبرمج للتثقيف كما كان آنذاكونحن بجيل الشباب المبكر. طبعا لا يمكن ان نتجاهل اننا كأقلية عربية باقية فيوطنها، عبرنا على تجربة صعبة جدا ، بدءا من مواجهة سياسة التجهيل والحصار الثقافيفي مرحلة الحكم العسكري، ومصادرة الأرض العربية والتجويع لمن لا يخضع للسلطةالعنصرية وصولا الى ايامنا الراهنة حيث احدثنا ثورة ثقافية مضادة تحديا للعنصريةوانظمة القمع البوليسية آنذاك، وطورنا تراثا ثقافيا كبيرا وواسعا.. فاجأ العالمالعربي بمضامينه وقوة صوته.. فهل هناك اكتفاء ثقافي؟
طبعا الثقافة لا تعرفالنهاية.. والثقافة هي القيمة الكبرى في حياة المجتمعات البشرية، وتشكل المادةالصلبة في مبنى الوعي الانساني بكل اتساعه. ومن هنا أهمية دور المعهد العالي للفنونوبيت الكاتب الى جانب المؤسسات الثقافية الأخرى.
كريم شداد جعل من كتابة ارشيفللصور عبر نشاط فني وثقافي مميز، عشرات الشباب والصبايا طوروا مواهبهم الفنيةوالثقافية في المعهد العالي للفنون وبيت الكاتب. وكنت احبذ لو اعطى الأستاذ كريمشداد توضيحات أوسع من مجرد صور عن مضامين تلك النشاطات لأن اهمية الكتاب وخاصة هذاالنوع من التسجيلات انه يحفظ الذاكرة الجماعية لمجتمعنا، والثقافة والفنون تشكلبندا جوهريا في الذاكرة الجماعية لمجتمعنا.
لا اقلل من اهمية حفظ صور عنالنشاطات الثقافية والفنية، وما تعكسه من احداث ونشاطات كان لها قيمة كبيرة وهامةفي التأثير على اجيال شابة وعلى مسيرة حياتها الفنية او الثقافية، الكتاب تسجيللمعلم ثقافي ونهج تنويري لمجتمع متعطش للثقافة والمعرفة. ملاحظتي ان الأستاذ كريمشداد اعطانا سجلا هاما عن مرحلة تميزت بالعمل التثقيفي الخلاق رغم اني افتقدت فيالكتاب ، كما أسلفت.. شروحا توضيحية اوسع للكثير من الصور.
الكتاب يوضح بالصورمسيرة تاريخية هامة ميزت الحياة الاجتماعية والثقافية .. لكني سأتحدث عن اهمية مثلهذه التسجيلات للذاكرة الجماعية.
تشكل الذاكرة الجماعية في حياة الشعوب قيمةكبيرة لتطور المعرفة الانسانية ومخزنا لا ينضب لمسار الحياة الانسانية وحفظ التاريخوالفكر بصفتهما ثروة بشرية لا تختلف عن الحفاظ على الأثار التاريخية المادية مثلالأبنية بكل انواعها وتشكيلاتها. لكننا هنا امام ذاكرة فكرية ثقافية فنية فلسفية ،ذاكرة تستنطق المكان سيسيولوجيا والسيسيولوجيا هي علم يدرس المجتمعات البشرية والقوانين التي تحكم تطور المجتمعات وتغيرها، وتفسر اسباب التغيراتالاجتماعية ودوافعها وتأثرها على تطور السلوك الانساني أيضا. كذلك تحدد القوىالفعالة التي تحرك حياة الناس واصل الدولة و القانون و السياسة. البعض يفضل تعبيرعلم الاجتماع بدل سيسيولوجيا..
التاريخ البشري حفظ لنا ثروات هائلة من الذاكرةالجماعية للشعوب.. مثل المسرح الاغريقي الذي نقل لنا ، حتى عبر الأسطورة الذاكرةالجماعية لليونان القديمة، الأساطير الأشورية والكلدانية والبابلية نقلت لنا الرقيالحضاري لبلاد ما بين النهرين ، الأساطير الفارسية كانت لوحة لحضارة الفرس.. وهذانجده في ثقافات شعوب عديدة اخرى في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. اساطيرهم كانتتعبيرا عن الذاكرة الجماعية لحضاراتهم .
ترجع اصول علم الاجتماع لعصور قديمةمثلا في اليونان القديمة حاول الفلاسفة الاغريق تفسير اسباب التغيرات الاجتماعية، والقوى التي تحرك حياة الناس واصل الدولة و القانون و السياسة. ونجد في كتابات ابنخلدون و توما الاكوينى ومكيافيللى واسبينوزا وجان جاك روسو وهيجل وماركس عناصر مهمةفي دراسة المجتمعات البشرية من اقتصاد وفلسفة وفكر وثقافة وفنون .
هنا نلاحظظاهرة هامة جدا ، ان كل هذه الدراسات اعتمدت على ما سبقها من سجلات الذاكرةالجماعية. مثلا التراث العربي، الذي تطور من العصر الجاهلي وصولا الى العصورالأحدث، يعتبر منصة صلبة في انطلاق ثقافتنا وتنوعها وثرائها. بدون هذا التراث ماكنا نطور ثقافة حديثة، وما كنا نحتل مكانا طليعيا في الثقافة العربية خاصة وبينالثقافات العالمية المتعددة.. وبرزت ثقافتنا خاصة بالجانر الشعري.
للأسف فيعصرنا الراهن هناك غياب مقلق عن تسجيل الذاكرة الجماعية، لكن الشيء الجيد نسبيا انالاعلام اصبح سجلا لا يمكن الاستهتار به لحفظ الذاكرة الجماعية، ولكني اقول ان هذالا يكفي، لأن هدف الاعلام يبقى ترويجيا اكثر مما هو سجل للتاريخ، الى جانب انالاعلام يهتم أكثر بالظاهرة المرئية وليس بالمضامين .
قرأت في السنوات الأخيرةمحاولات جيدة لتسجيل الذاكرة الجماعية ، الأولى لرئيس تحرير الأخبار الكاتب محمودابو رجب ، بكتاب من جزئين حمل عنوان "ايام ع البال" رأيت به نوع من الأدب التسجيلي،أي تحويل احداث حقيقية الى حدث بروح تجمع بين اساليب متعددة .. قصصية، ريبورتاجيةوتاريخية وشخصية. هذا النوع من الأدب هدفه الحفاظ على الذاكرة الجماعية، نقلالتجربة بطريقة ثقافية ما.
التجربة الثانية لهذا اللون الأدبي كانت بكتاب "نصراوي نصراوي" لرمزي ابو نوارة رغم ان رمزي لم يسبق له ان خاض الكتابة في أي مناشكالها، وهو اليوم ليس بجيل الشباب ولكنه اكتنز تجربة حياتية عبر معايشته لأهلمدينته الناصرة وقام بنقل هذه التجربة للقراء عبر "نص راوي نصراوي".
طبعا هناكتسجيلات اراها هامة ، تتعلق بمذكرات كتبها نشطاء سياسيين ، عن احزابهم ، لكنها قدتحمل الكثير من المبالغة، ومع ذلك هي نشاط محمود لكن يجب تناول هذه المذكرات بحذرلسبب اساسي ان المنظم حزبيا مقيد فكريا بنهج يجعله يرى الأسود ابيض كما قررحزبه!!
تجربتي الخاصة في هذا النوع من الأدب لم اصدرها بكتاب بعد وقد نشرت اكثرمن 45 حلقة تشكل كتابا يتجاوز ال 400 صفعة تحت عنوان يوميات نصراوي، تناولت فيهاليس مذكرات شخصية فقط ، بل الذاكرة الجماعية التي كنت شاهدا عليها ومشاركا فيهافيما بعد.. طبعا الى جانب احداث لها طابع شخصي، لكنها تشكل بنفس الوقت معلماثقافيا او سياسيا يطرح واقعا عشته بوعيي وانطباعاتي واحاسيسي وترك في نفسي اثراثقافيا فكريا شكل جزءا من عالمي الثقافي والفكري اليوم.
المؤسف ان الذاكرةالجماعية في وطننا العربي عامة وفي وطننا الفلسطيني تحديدا لا تحظى بمؤسسات تؤرشفهاوتحفظها كما هو الحال في الدول المتقدمة.
اهتممت بتسجيلاتي بالبعد الثقافي للوعيواللاوعي للفرد، وتناولت المجال الثقافي بصفته ظاهرة هامة، تساعد على تفسير وتأويلالتفسيرات الثقافية للظواهر الاجتماعية والسياسية. طبعا لا يمكن تجاهل الجانبالشخصي (البرسيونالي) بتداخل الذوات وخضوعها الى آفاق مختلفة للواقع الحياتي الذييحيط بنا.
النقص هنا هو غياب باحثين علميين في مجال المجتمعات البشرية من تناولالذاكرة وتحليلها واسقاطاتها على تطور واقعنا او نكوصه. أي ان الذاكرة الجماعية هيمادة للنهضة بالمجتمع وليس للتسجيل الأدبي فقط وهذا هو الغائب الكبير عن ثقافتناوفكرنا.
البعض يطلق تسمية «الذاكرة المحصّنة» على الذاكرة الجماعية، لكنهاذاكرها لا بد ان تخضع لمجمل التجربة الانسانية في المجتمع المحدد، وقد تكون الظواهرالسلبية المقلقة في مجتمعنا هي انعكاس لغياب الدراسات السيسيولوجيا من مجتمعنا..وبالتالي تطوير اساليب تربوية مناسبة.
تُقيّم الذاكرة الجماعية، المراحلالتاريخية الخاصة بكل مجتمع من المجتمعات البشرية ، الهدف هنا بالغ الأهمية لأنالذاكرة تشكل مقياسا هاما لمعرفة واعية للمراحل السابقة وتطوير اساليب لضبطالتطورات المستقبلية..
من هنا رؤيتي لأهمية كتاب الأستاذ كريم شداد، وليتالمسؤولين في شتى المجالات يسيرون على نفس النهج بحفظ ذاكرتهم وتجاربهم بكتب تثريمكتبتنا وذاكرتنا وتزيدنا تنويرا ووعيا.. وتحفظ للمستقبل سجلنا الحضاري.