:مصدر المقال
https://ajalia.com/article/1177

«الخراريف» الفلسطينية: زيتون عتيق

2013-07-24

تقف فداء عطايا، عشرينية، بين مجموعة من الأولاد في رام الله، تقصّ عليهم حكايات شعبية، يبتهج لها الأطفال. تثار مخيلتهم، يُدهشون هنا، يبهرون هناك، ولا يتوانون عن إطلاق صيحات الدهشة الطفولية كلّما رفعت فداء من نبرتها، عندما تصل إلى مقطع في الحكاية يقتضي ذلك، كما أنّها لا تنسى أن تستخدم مواهبها في الغناء والإيماء مطعّمةً حكايتها بألوان فنّية رائعة.

فداء ليست الحكواتية الوحيدة في فلسطين، بل هي واحدة من أشخاص كثر ما زالوا يزاولون مهنة الحكواتي، منهم الشاب عبد الله السيد الذي يوثّق نشاطاته عبر الفيديو مخافة فقدانها. وهناك أيضاً دنيس أسعد، من قيساريا، وهي تعتبر الأمّ الراعية للحكواتيين الشبان، فجميعهم ينادونها «ماما دنيس».

دنيس تحفظ الحكايات الشعبية الفلسطينية عن ظهر قلب، من «فرط رمان الذهب»، إلى «نص نصيص»، و«منجل». تلتقي سنوياً بالحكواتيين الشبان ضمن ورش عمل ومؤتمرات، ترمي في معظمها إلى وضع آليات لحماية التراث الفلسطيني من الاندثار، أكان ذلك من خلال حفظ الحكايات وروايتها، أو عبر توثيقها في كتاب، أو ربما شريط فيديو.

هذا بعضٌ مما هو موجود في الداخل الفلسطيني، أما خارج الحدود التي وضعتها «سايكس ـ بيكو» بدايةً، والاحتلال الصهيونيّ تالياً، فالتراث الفلسطينيّ حاضر في الشتات أيضاً.

في لبنان، يتنقل الحكواتي حسام عابد مع دُماه من مدرسة إلى أخرى، من مخيّم إلى آخر، ومن جمعية إلى مؤسّسة، يروي على مسامع الأطفال مغامرات «نصّ نصيص» الذي، على ضآلة حجمه، يتغلّب دائماً على الغولة التي تضمر له الشرّ باستمرار، علماً أنّ «نصّ نصيص» يعتمد في هذه المغامرات على ذاته، إذ انّ أترابه وحتّى أهله ينكرون عليه ما ينجزه، نظراً إلى ضآلة حجمه.

وفي لبنان أيضاً، هناك محمود حوراني، الآتي من لندن، والذي احترف فنّ مسرح الظل. عُدّته قطعة قماش ومصابيح، إضافة إلى يديه اللتين يجسّد بهما من خلف القماش شخصيات الحكاية التي يرويها باتقان، من دون أن يغفل التركيز على رسالة الحكاية لدى كل نهاية.

الحكاية الشعبية الفلسطينية تتخذ أسماء ومصطلحات عديدة في فلسطين، بعض الفلسطنيين يطلقون عليها تسمية «الخراريف»، وبعضهم الآخر يتفق مع اللغة العربية فيسمونها «النوادر» أو «الحكايا». وهذه «الخراريف»، موروثة عن أجيال لا يعرف عمقها التاريخيّ، وهي شفوية أيضاً. أما توريثها من جيل إلى آخر، فعرّضها لتغيير بسيط من حذف وإضافة وتعديل جراء اختلاف البيئتين الطبيعية والاجتماعية، وبسبب تعدّد الرواة وخصائصهم.

وللحكاية الشعبية أنواع كثــــيرة، منها الحكاية الخرافية. ويميز كثيرون من الباحثين الحكاية الشعبية من الحكاية الخرافية على اعتبار أنهما نوعان مختــــــلفان. ومن الصعب التمييز بينهما من جهة التسمية، لأن الحـــــــكاية الخرافية هي أيضاً حكاية شعـــــــبية، وإلا لما كان في مقــــــدورنا الجلوس إلى الرواة والاستماع إلى حكاياتهم الخرافية ضمن ما يعتقدون أنها جزء لا يتجزأ من «الخراريف» التي يتداولونها أو كانوا يتداولونها في ما مضى من العمر، أو ما زالوا يحدّثونها لجامعي الحكايات الشعبية.

ولأن اهتمام العرب بالتراث الشعبي جاء متأخراً بعض الشيء، لم نشهد خلال العقود الماضية إضافة شيء كثير على دراسات الحكايات الشعبية، إذ أنّ معظم الدراسات كانت مجرّد تعبير عن صحوة للاهــــــتمام بالــــــــتراث الشعبي، كانت الحكاية الشعبية الفلسطينية ضـــــحية هذا الإهمال تماماً كغيرها من الحكايات الشعبــــــية في لبنان والأردن وحتّى في سوريا. إلا أنّ فلسطين، شهدت كتاباً يعتبر من أهمّ كتب الحكايات الشعبية، وهو يوازي في أهميته «ألف ليلة وليلة»، و«البخلاء»، و«كليلة ودمنة»، ونقصد هنا كتاب شريف كناعنة وإبراهيم مهوي: «قول يا طير»، الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية.

يضمّ كتاب «قول يا طير» خمساً وأربعين حكاية (خرافية) من مئتي حكاية روى معظمها نساء في أنحاء فلسطين كافة (الجليل والضفة الغربية وغزة). وجمعت هذه الحكايات في الكتاب لأنها الأكثر رواجاً بين أبناء الشعب الفلسطيني، ولقيمتها الفنية (جمالياتها وحسن أدائها)، ولما تبرزه من ملامح عن الثقافة الشعبية في فلسطين. وكان الداعي الأساسي إلى وضع هذا الكتاب لا الحفاظ على فن قصصيّ نسائيّ كان واسع الانتشار عندما كان الشعب الفلسطيني يمارس ثقافته على كامل أرضه فحسب، بل عرض صورة علمية وموضوعية للثقافة العربية النابعة من أرض فلسطين ومن تراثها الإنساني الذي تضرب جذوره في عروق التاريخ.

«قول يا طير» الذي وجد رواجاً هائلاً خارج الإطار الجغرافي الفلسطيني، والذي يعتبر واحداً من أهم المراجع الحكائية الشعبية الفلسطينية، اصطدم عام 2007 بمعارضة شديدة من حكومة «حماس»، التي أصدرت قراراً بـ«إعدام» الكتاب عبر إتلاف جميع كل النسخ بحجّة أنّه يحتوي على مفردات تخدش الحياء العام.

هذا القرار جوبه بمقاومة أدبية واســــعة النطــــــــــاق، إذ أنّ الكتاب، حتّى لو نُشر باللهجة العامية، وحتّى لو أنّــــــه احتوى ألفاظاً خادشةً الحــــــياء، فـــــــإن القـــــــرار بإتلافه كان باطلاً، فماذا لو وقع نظر وزراء حكومة «حماس» على كتاب «ألف ليلة وليلة» المليء بالقصص والمشاهد الجنسية؟

دنيس أسعد ومعها فداء عطايا وعبد الله السيد، يملأون فضاء فلسطين بحكايات «فرط رمان الذهب» و«منجل» و«الديك الهادر»، وربما نرى ضمن الأجيال التي ستعود إلى فلسطين، محمود حوراني مع رقعة القماش خاصته، وحسام عابد ودماه، و«نص نصيص» الذي يتغلّب على الغولة «إسرائيل».

عن السفير اللبنانية