تهميش الوعي بالوجود الفلسطيني وماوقعه
2017-02-23
هذا المقال منقولٌ من مسودة الطبعة الثالثة لكتابي " الجليل.. الأرض والإنسان " وهو بحثٌ ميداني، سبق وأن نشر في الضفة الغربية قبل أكثر من ربع قرن. المسودة محدثةٌ وموسعةٌ ومعززةٌ بأبحاثٍ عربيةٍ وإسرائيليةٍ وغربية، وتغطي 265 بلدةٍ وقرية، أغلبها مدمرٌ وأهلها مهجرون، من حيفا للحدود السورية اللبنانية.
هم المؤلف تعريف الأجيال الجديدة التي تتربى في المهاجر بالفردوس الذي خسره آبائهم. بدون معرفةٍ لا يمكن دوام التمسك. لعلهم يسترجعون شيئاً من هذا الوطن، إن لم يكن كله!
فؤاد عبد النور،
حيفا – رام الله - برلين.
تهميش الوعي بالوجود الفلسطيني ومواقعه.
( نوغا كادمان )
إن بذل المرء جهداً ولو بسيطاً في محاولة التعرف على التيارات المتحركة بشكلٍ هادئٍ و قويٍّ في المجتمع الإسرائيلي, تيارات أخذت تعي, ولو بشكل متأخرٍ, أن ظلماً كبيراً قد وقع على الشعب الفلسطيني, المشكل في غالبيته من فلاحين ومزارعين بسطاء, جهلةٍ, متدينين, سلّموا عنان أمرهم لقيادةٍ متعاونةٍ بشكلٍ سريٍّ أو علنيٍّ مع الانتداب البريطاني المتآمر عليهم, ومن ثم مع القيادة الصهيونية وما لازمها من تآمر مع السلطة الأردنية, واعتمدوا على وعودٍ تضامنيةٍ عربيةٍ غير جادةٍ, أو على المشاعر والحمية الدينية, المتغنية بماضٍ لم يُستطع إعادة تمثيله, أو إعادة استنهاضه, مما أوصلنا إلى طريقٍ مسدودٍ, وإلى كارثةٍ غير مسبوقة إلا بكارثة فقدان الأندلس.
في خلال بحثي الحالي عن مواد قديمةٍ أو جديدةٍ لتجديد كتابي هذا, بطبعته الثالثة هذه, دخلت على الكثير من المواقع الفلسطينية, والعربية. والإسرائيلية, والأجنبية, وقرأت كتباً ليست بأقل عددٍ منها, ووجدت نفسي سعيداً متمتعاً بما أكتشف وأجد, شاكراً من كل قلبي هذه الوسيلة الرائعة للمعرفة, البحث في الشبكة العنكبوتية. وأشعر بأني المستفيد الأول والأخير منها.
النتيجة التي وصلت إليها للآن أن هناك قناعةً متزايدةً من الجانب الآخر, الإسرائيلي والدولي, أنه لن يكون هناك سلامٌ في هذا الوطن السليب سوى الاعتراف بما تم من جرمٍ, والتكفير عنه بطريقة معقولةٍ ومقنعةٍ, ترضي على الأقل كرامتنا, إن لم تكن جيوبنا. يجب أن يكون مثال الأرمن أفضل وأقوى مثالٍ لنا.
أشعر أن هناك يداً مرفوعةً باحتجاجٍ صارخٍ على السياسة الصهيونية المتطرفة في إسرائيل, التي ستؤدي في النهاية إلى دمار الطرفين, هم ونحن. وهناك أيادٍ فلسطينيةٍ خجلة في الداخل تحاول أن تقبض على تلك اليد, وتشجعها. هل بإمكاننا نحن أن نقبض عليها كذلك؟ !
------------
عندما أخذت أسجل ملاحظاتي عن اليهود التقدميين, المعادين للصهيونية, أو الذين يدعون إلى التفاهم مع الشعب الفلسطيني أولاً وآخراً, كانت تنتابني الشكوك بأن أغلب القراء لن يرحبوا بوجود هذه الأخبار والمواضيع الكثيرة عن اليساريين اليهود, المتعاطفين معنا, في مجمل أخبار القرى الفلسطينية المدمرة, والتطهير العرقي المنظّم لفلاحينا. فأنا غير بعيد عن الجو العام السائد بكراهية اليهودي الصهيوني أينما تواجد, واعتبارهم مسؤولين بمُجملهم عن مأساة الشعب الفلسطيني.
كنت أدرك في نفس الوقت أننا نتجاهل الأخطاء التي ارتكبها قادتنا, وقادة الشعوب العربية, المتعاونين مع الاستعمار الغربي وغير المتعاونين, وأننا قد أوصلنا الأمور إلى الصدام العنيف الحتمي, تدريجيا, ووقعنا ضحية من كان يسعى لتنمية التطرف القومي والديني في ما بين صفوفنا, وأبرز دليل على ذلك, ما يردد عن لسان بن غوريون " اعتمدوا على المفتي !"
ولكني عندما أخذت في دراسة مذكرات أنيس صايغ تشجعت, وأخذت أستزيد من هذه المواضيع, أينما وجدتها, ونقلها إن وجدتُ أن لها علاقة بسردي هذا. أنقل هنا, حرفياً ما كتبه عن هذا الموضوع, في الصفحات 284 و 285:
" سواء كان النشر في سلاسل المركز, أو في الموسوعة, أو في أي من المجلات التي اضطلعت بمسؤوليتها, كنت حازما في التفريق بين الصهيونية واليهودية. لم أسمح إطلاقاً بالخلط بين المفهومين والاصطلاحين. ولاقيت معارضةً وانتقاداً واسعين. لم يكن معظم الكتاب يُفرّقون بين الاثنين, بحجة أن كل يهوديٍّ صهيونيٌّ أيضاً. ولم أكن أوافق على هذا الافتراض الخاطئ. فهو مغالطةٌ في علم السياسة والاجتماع, ومدلولات الألفاظ, وفي المفاهيم العقائدية. إضافة إلى ذلك فإن هذا الخلط يؤذي من الناحية العملية, لأنه يفقدنا مواقع سياسية مع جهات كثيرة أجنبية ويهودية. وجليٌّ أن بين اليهود من هم غير صهيونيين. فبينهم من هم معادون للصهيونية. وبينهم من يقفون معنا ويتبنّون طروحاتنا. طبعاً أـنا لا اقصد أولئك " الإسرائيليين " الذين يتظاهرون أحياناً ضد توسعٍ في بناء مستعمرةٍ مثلاً, أو الذين يستنكرون حادثاً إرهابياً تقوم به القوات الإسرائيلية. ولا أبالغ في النسبة العددية لليهود غير الصهيونيين بين يهود العالم. إنما أنا حريصٌ على أن يكون صراعنا مع العدو صراعاً حضارياً وخلقياً, نجابه فيه غازياً اغتصب الأرض, وشرّد الشعب, لا تصادماً مع أتباع ديانة تختلف عن ديننا نحن, مسلمين كنا أو مسيحيين. وكان مصدري في هذه التفرقة التي فرضتها على مئات الكتاب والمساهمين في مشاريعي الثقافية المنطق والعقل السليم أولاً, ونصوص الميثاق الفلسطيني الذي أعلن صراحةً أن حركتنا الوطنية والقومية تستهدف الصهيوني المحتل, وليس أتباع الدين اليهودي بشكلٍ عام. ومن وحي هذا المفهوم فتحت منشورات المركز, ومجلاتي صفحاتها لأقلامٍ يهودية معاديةٍ للصهيونية, وأسهبت في كلامها عن اليهود المعادين للصهيونية, والتعريف بهم من أمثال ألمر بيرغر, وإسرائيل شاحاك, وأوري أور, وإبراهيم سرفاتي, وألفرد ليلنتال, وبيرنشتاين, ودافد لامبي, وصادق سعد, وغوران روزنبرغ, ومكسيم رودنسون, وموشي مناحيم, وأخيراً موشي ماخوفر. لا ننسى أن المركز كان أول من أقبل على الكتابة عن ظاهرة ماتسبين وأفنيري, عرضاً وتحليلاً, دون الانخداع ببريق هذه الظاهرة, ولكن من خلال التعريف بها, وتبيان تمايزها عن الحركات الأخرى في المجتمع الإسرائيلي.
" والواقع أن المركز ومجلته أقاما في سبعينات القرن الماضي علاقات قوية مع أعدادٍ كبيرةٍ من الكتاب والمفكرين والسياسيين الأجانب, ممن أبدوا اهتماماً ونشاطاً في الحقل الفلسطيني الثقافي والإعلامي. وبينهم بالإضافة إلى ما ذكرتهم أعلاه: أرنولد توينبي, وأنطوني ناتنج, وآنيا فرانكوس, وإريك رولو, وأليزابيث كولارد, وإدموند بلادو, وإثيل مانن, وإقبال أحمد, وبيتر هيلر, وبيتر مانسفيلد, وبيتر فان ديرفولك, وتوم ليتل, وجورج فوشه, وجاك بيرك, وجون ديفيز, ودورين إنغرامز, ودينس جونسون دافز, وريتشارد ستيفنس, وستيفن بكمان, وشيرلي غوردن, وطارق علي, وظفار قرشي, وغوران بالم, وغرانيا بيركت, وغودفري جانسن, وفارس جلوب, وكارل فان هورن, ومايكل جانسن, والبروفسور مالسون, ومايكل آدامز, ومايكل هدسون, ومانويلا سايكس, ونفِل باربر, وولتن وين ".
----------
من أولئك الكتاب اليهود الباحثة " نوغا كادمان ".
لفت نظري مقالةً للشيخ الكاتب الدرزي نمر نمر تحمّس فيه لباحثةٍ إسرائيليةٍ يهوديةٍ – نوغا كادمان – وكتابها الصادر بالعبرية, والسنة القادمة ستصدر له ترجمة بالانكليزية, بلغ من حماسه للكتاب هذا أن عرض ترجمته للعربية – مجاناً , ولوجهه تعالى, ووجه الفلسطينيين – إن استعد ناشرٌ عربي لنشره ! لم اسمع أن فارساً منهم قد قبل هذا التحدي !
قررت أن أخصص للكتاب هذا, ولنوغا كادمان، ولغيرها من البحاثة, فصلاً مستقلاً ليس فقط لبحث ما تم من تهميش الوعي لقرانا المدمرة في إسرائيل, من قبل الشعب الإسرائيلي, ولكل ما له علاقةً بهذا الأمر, وبمواقف الشعبين, والنضال المشترك بينهما عندما يوجد, ومواقف الجانب الأخر وتجاربه عندما سكن في بيوت المهجرين, واحتل أرضهم, وأكل ثمار تعبهم, وساهم بهذا الشكل أو ذاك بتأييد عدم رجوعهم لئلا يحرموه من التمتع بما حصل عليه, وحرمهم منه!
وصفت " نوغا " شعورها عندما كانت تزور قرية " لفتا " في ضواحي القدس الغربية, في رحلات مدرسية. لاحظت أنها قريةٌ مهجورةٌ, تبدو أفضل من حالة " خربة ". شربت من نبعها, واستراحت في ظل شجرها, ولم تشرح لها أيٌ من المعلمات شيئاً عن القرية, أو تاريخها. كانت تظن أن لفتا كانت دائماً هكذا, منذ زمنٍ قديمٍ, مهجورةٌ, وغامضةٌ؛ جميلةٌ, ولكن ميتةٌ, قابضةٌ للنفس.
عندما كبرت وعملت في جمعية "بتسيلم " , وانشغلت في تسجيل الانتهاكات المرتكبة ضد السكان الفلسطينيين في المناطق, وأخذت تتعرف على الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي, أدركت أن الفلسطينيين يعانون من قيودٍ كثيرةٍ لاحقةٍ لفقدانهم وطنهم, وأن الكثيرين منهم قد لجأوا إلى لبنان وسورية, وبقية الدول العربية, وتشتتوا في أوروبا ودول العالم الأخرى.
أدركت أن لفتا, كمثالٍ, ليست منطقةً أثريةً جميلةً, للتنزه على أرضها, أو في حقولها, ولكنها كانت مسكن أناسٍ, عائلات, أولادٍ, وأطفال.
الكتاب الذي جمعته من أبحاثٍ ميدانيةٍ لفحص الرواية الإسرائيلية عن القرى المهجّر أهاليها, والمدمرة, يفحص كذلك آثار هذه القرى الباقية, ويفحص الحيّز الذي تحتله هذه القرى, وأولئك المهجّرين في الوعي العام الإسرائيلي, بعد أن أُزيحوا عن مرأى البصر. اضطرت إلى التجوال في مختلف المناطق, مستعينةً بالخرائط, مستفهمةً عن أسماء القرى الأصلية, التي استبدلت أغلبها, بأسماء عبريةٍ, مقيمةً في أماكن ريفيةٍ غير معتادة على المعيشة فيها, لولا بحثها هذا.
يعتمد كتابها على مصادر مختلفةٍ, وثائق رسميةٍ, وخرائط عربيةٍ لفلسطين, وعبريةٍ حديثة. قامت بما يزيد عن 230 زيارةٍ لقريةٍ, أو آثار قريةٍ, فيما بين أشهر تشرين الثاني 2006 و أيار 2007. اعتمدت على إحصائيات, وعلى كتاب د. وليد الخالدي الذي قدر هذه القرى بِ 418 قريةٍ في كتابه " هذا كل ما تبقى ", وهو كتابٌ اعتمد على أبحاث ثلاث مؤسسات في الضفة الغربية والولايات المتحدة.
إن الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي كغيره من الصراعات بين القوميات, يجد تعبيره في أكثر الأمور إيلاماً, بأن لا طرف من الطرفين مستعدٌ أن يستمع لوجهة نظر الطرف الآخر, ولروايته لتاريخ الصراع, أو أن يفكر في الخسائر التي سببها الطرف الآخر له, أو تحمل المسؤولية عن دوره في تلك الخسائر.
يشكل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي في أقصى حالاته, في سنتي 47 و48 , والتي أدت إلى خسارة الفلسطينيين لوطنهم, وبناء الدولة العبرية مكانها.
لهذا السبب فإن فحص كيفية تصرف وتعامل الإسرائيليين مع القرى المُهجر أهلها مهمٌ مثل التهجير نفسه, لأنه يمكن اعتباره مؤشراً لعدم استعداد إسرائيل للوصول إلى حلٍ قابلٍ للبقاء في هذا الصراع.
----------------
نبدأ الموضوع بقرار الحكومة الإسرائيلية في آب 48 بتدمير القرى الفلسطينية التي طرد سكانها, أو هُجّروا, حتى تمنع إمكانية رجوعهم إليها.
في تشرين أول 1948 صدر قانون مصادرة أملاك وأراضي الغائبين – والحاضرين, و ألحقوه بقوانين أخرى .
في منتصف 49 تم تدمير ما تبقى, لأسبابٍ اقتصادية, وللرغبة في تغيير معالم الأرض, ولأن القرى المدمرة تشكل عامل تذكيرٍ بقضية اللاجئين, وهي قضيةٌ ترغب إسرائيل في تجاهلها, ولا يتذكرها الغير كذلك.
تدمير المباني أو المحافظة عليها, يلعب دوراً مهماً في محو الذكريات, أو إبقائها. المعالم المدمرة تمحو بتدميرها تاريخ وهوية المكان. فالمباني المدمرة سرعان ما تُنسى لغيابها عن مجال الرؤية. المحافظة عليها, خاصة إن كانت مهمةً وتاريخيةً, يعزز الحاجة المؤكدة لاستمرار تذكّرها.
في الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني خلق كل جانبٍ سرده الأيدلوجي, والذي يشدد على علاقته القديمة بالمكان, ويقلل من ارتباط الجانب الآخر به.
القرى التي تأسست في المئتي سنة أو الثلاثمئة الماضية لا تـُعتبر في إسرائيل " أماكن تاريخية ". رغم هذا فإن القرية التاريخية " كفر برعم " دُمّرت, وأقيمت في محيطها " حديقة برعم الوطنية ", للرغبة في إبراز الكنيس التاريخي لبرعم اليهودية, والذي جُدد بناءه.
تأسس الصندوق القومي اليهودي في السنة 1901 لشراء أراضٍ للاستيطان اليهودي في فلسطين. الصندوق هذا اليوم مسؤولٌ عن زراعة وتشجير الغابات, والسياحة إليها وفيها.
اليوم الصندوق مسؤولٌ عن مئة متنزهٍ وحديقةٍ عامةٍ, وعن الغابات المزروعة حديثاً والمساحات الفارغة المفتوحة فيها. " وإنه يطور المواقع التراثية حتى ينقل رسالةً عن الصهيونية وقيمها بالنيابة عن الشعب الإسرائيلي, ولأجله".
السلطتان, الصندوق القومي اليهودي, وسلطة حماية الطبيعة هما السلطتان المسؤولتان بشكلٍ كليٍّ عن الغابات والحدائق العامة. وقد قام هذا الصندوق حتى السنة 2007 بزراعة 220 مليون شجرة . أغلب هذه الزراعة تم فوق القرى الفلسطينية المدمرة وأراضيها. أما سلطة حماية الطبيعة فهي المسؤولة عن البيئة الطبيعية , والمحميات الطبيعية, و 115 متنزه قومي ( 2010 ) . تُــنــفـّـذ هذه السلطة سياستها بوساطة الدوريات الخضراء , لحماية المواقع, ومنع التعدي, خاصةً من البدو في النقب الذين يُصرون على الرعي في أراضيهم المصادرة, وتستعمل ضدهم القوة المفرطة في كثيرٍ من الأحيان.
يقول " يوئيل باومان " في كتابٍ عن تسويق التراث وعلم الآثار أن توجه " سلطة حماية الطبيعة عقائديٌّ, وهي مكلفةٌ بخلق هويةٍ متخيلةٍ من خلال مواقع أثريةٍ, وحدائق وطنية ."
وبما أن أغلب هذه الحدائق والغابات قد أُنشئ فوق قرىً فلسطينية مدمرةٍ لإزالة آثارها, فإن هذه السلطة تعمل على ألّا يلاحظ السائح أو المسافر أنه يمر فوق قريةٍ فلسطينيةٍ مُدمرة. النشرات التوضيحية التابعة للصندوق القومي تُــطبع بالغات الثلاث: الإنكليزية, العبرية, والعربية. بينما نشرات سلطة حماية الطبيعة تنشر باللغة العبرية فقط.
وقد وجدت نوغا كادمان من دراستها عن 418 قريةٍ دُمرت, وهُجر أهلها أن 25 % فقط من هذه القرى مذكورةٌ في لوحات الإرشاد في المواقع, و46 % في النشرات. أما الصندوق القومي فإنه يتجاهل تاريخ هذه القرى في مطبوعاته, رغم أنها واقعةٌ في مناطق تحت سيطرته, أو كانت قريبةً من مناطق تحت سيطرته. التجاهل هذا يزداد إن كانت المحمية أو المتنزه يقعان بالضبط على القرية, ويحيطان بها.
85% من أسماء هذه القرى غير مذكورٍ على اللوحات الإرشادية المقامة في المكان, ولا على إرشادات الطريق إليها, أو الممرات فيها. 80% من أسماء تلك القرى غير مذكورٍ في خرائط تلك السلطتين.
إن اضطرت المؤسستان إلى ذكر اسم قريةٍ بقي فيها معلمٌ معينٌ نجا من الدمار, إما لكونه تاريخياً, أو مقبرةً, فإنه يجري تجاهل من سكن في تلك القرية, ومن زرع حدائقها, وحافظ على جدرانها الاستــنادية. وعلى سبيل المثال في " غابة بيرية " شمال صفد, والمقامة على أنقاض ست قرى فلسطينيةٍ مدمرةٍ, توجد جولةٌ فيها سُمّيت " طريق المحاربين ", توصل إلى عمارةٍ مهجورةٍ من طابقين, ويوجد جنوبها بناءٌ مقببٌ على أقواس, يجري في داخله نبع " عين الزيتون " , وحول هذا البناء أشجارٌ للفاكهة لم تقلع.
يتجاهل المنشور ذكر القرية, أو اسمها, ولمن كان النبع يتبع, مع أنه من الواضح من الاسم أن النبع هو لقرية عين الزيتون.
" حديقة برعم الوطنية " تشرح التاريخ اليهودي لكفر برعم, وتتجاهل كليةً ذكر كفر برعم الفلسطينية, رغم أن آثارها لا تزال باقية- الكنيسة وبعض البيوت, كلها لا تزال واضحةً من ضمن الحديقة الوطنية.
منشورات " حديقة الزيب الوطنية " لا تذكر قرية الزيب الفلسطينية إلا لماماً, ولا تربط الفلسطينيين بسلسلة الشعوب المختلفة التي استوطنتها, وهي قريةٌ تأسست في القرن الثالث عشر, واستمرت في الحياة عبر العصر المملوكي, والعثماني, والبريطاني. والبناءان اللذان لا يزالان قائمين, ما هما إلا بنائين فلسطينيين عربيين.
لا يُذكر سكان كفر برعم السابقين على أنهم عرب, بل أنهم موارنة, وتذكر إحدى تلك النشرات:
" أخلى السكان خلال حرب الاستقلال القرية لأسبابٍ أمنية. وتخدم الكنيسة كمركٍزٍ لأعضاء الطائفة" . تعتبرهم النشرة مواطنين إسرائيليين, وتتجاهل كليةً ذكر قضيتهم في محكمة العدل العليا, وأن المحكمة قررت وجوب رجوعهم للقرية, وأن كل الزيارات والنشاطات لمواقع القرية ما هي إلا لإحيائها, والتذكير بطردهم غير العادل منها. وبالطبع من المعروف أن السكان قرروا البقاء في القرية بشكلٍ دائمٍ الآن, في محيط الكنيسة, ورفضوا كل الأوامر بالإخلاء من الجيش , ومن سلطة حماية الطبيعة.
( هكذا يجب أن تـحل الأمور على ما يظهر في هذه البلاد ! – التعليق مني )
في أغلب الحالات تذكر النشرات أن أهالي تلك القرى قد هجروها. لا تذكر من طردهم منها, ولا تذكر من دمرّها, وماذا حصل لإولائك المهجّرين.
إن بقيت بعض البنايات قائمةً فإنها تُذكر كأن اليهود قد بنوها, ولا يذكر ساكنوها العرب السابقين. ـتحاول السياسة الصهيونية الرسمية باستمرار الإدعاء بأن أرض فلسطين كانت خربةً وخاليةً إلى أن عمّرها الاستيطان الصهيوني. وهي سياسةٌ ثابتةٌ للتهرب من الاعتراف بأية مسؤوليةٍ عن تهجير الفلسطينيين, وإبعاد هذه القضية عن وعي الشعب اليهودي.
مثال لفتا, القرية المجاورة للقدس, وعلى أول الطريق الخارجة إلى يافا, توصف كخربةٍ قديمةٍ, لا علاقة لها بالتاريخ المعاصر, ولا سكان حديثين بنوا بيوت الأشباح هذه فيها, ولا من حافظ على جدرانها الاستنادية, واعتني بحقول الفاكهة فيها, وشرب من عين مائها.
إهمال الشروح العربية عن القرى المُهجّر سكانها تقوّي الرسالة المنقولة للجمهور الزائر من البلاد, وللسائح الأجنبي, أن هذه المواقع لم تعد ملكاً للعرب, وإنها من الممكن أن لا تهم العرب بالمرة. إنها سياسة المنتصر, وهو المسيطر على الصراع في هذه المنطقة. عندما يجري تجاهل الطبقة الأخيرة من الساكنين في موقعٍ معينٍ, يكون ذك لإخفاء الجماعات التي كانت تُعمّره.
------------