:مصدر المقال
https://ajalia.com/article/12245

مئوية الثورة التي لم.. ولن تنسى..- رشيد قويدر

2017-04-19

أعني هنا «ثورة أكتوبر الإشتراكية» في عام 1917، وسبقتها في ذات العام «ثورة فبراير البورجوازية»..
لم أدرِ لماذا كلما شاهدت لقطة الجندي السوفييتي في أتون معركة برلين، وهو يزرع العلم الأحمر فوق الرايخستاع.. تنزل دموعي بمشاعر مختلطة متداخلة بالإعتزاز بهذه الروح الإنسانية، فأقبل هذا العَلَمْ، واليوم عندما أشاهد العَلَمَ الروسي أردد: أبيض، أزرق، أحمر، بكثير من مشاعر الإعتزاز والفخر الإنساني حين تصر روسيا، أي: «الروح الروسية الوقادة» على إكتشاف وبعث حِس الدهشة المخبوء في أعماقنا، من أعماق روحها في التاريخ، كذلك فإن النازية والفاشية ليس بالقمع وحده تعيش، بل بتوازن دقيق بين القمع الشامل والمنظم مع الأجهزة الايديولوجية، مع الميديا والدعاية تحت قيادة الإس.إس، فالإعلام النازي والفاشي هو المركز الفعال، والجمهور بحالة طينية سهلة التشكيل، بحرق العقل الجماعي والفردي كما يجري في شواء الطين، وتحويله إلى نماذج، ولهذا مبحث آخر..
• الروح الروسية الوقادة هي على إمتداد التاريخ الروسي، لما قبل غزوة نابليون، لكننا هنا في مئوية ثورتين لروسيا بعامٍ واحد في عام 2017، نحن نشاهد هذه الروح بقوة في هذه المئوية، الروح الروسية التي تعني مقومات النهوض، وتعني مقومات الصمود والانتصار .. لهذا الشعب، كما تعني مقومات الذهنية والعقلية الجماعية الروسية وأثرها في الفرد الروسي، وصعودها في تاريخ قصير وزمن خاطف، لتعيد إكتشاف الدهشة المخبوءة في الأعماق البشرية.
• إن ثورة أكتوبر الإشتراكية، هي عملية تحول جذري في التاريخ البشري والتاريخ الروسي، كما هي كانت ملكاً للروس.. هي أيضاً ملكاً للبشرية، وثورة فبراير البرجوازية تكاد تكون نسياً منسياً، رغم أن نقاشاً تاريخياً قد جرى في أصقاع الأرض كافة، بعد إنهيار الإتحاد السوفييتي، في تسعينيات القرن الماضي، حول ثورة فبراير، وجرت فبركة لما سُميّ «وصيّة بليخانوف»، دحضها الموثقون الروس بأنها مفبركة, في معاهد الغرب الامريكي المختصة بدراسة روسيا..
وقد كُتب الكثير لِما بعد الإنهيار السوفييتي، ولكن على أيدي ليست روسيّة، اليوم تَنبش روسيا كماً هائلاً من وثائق الأرشيف الضخم للدولة، على يد مهنيين وموثِقين ثُقاة، يأخذون وقتهم في متابعة أرشيف هذا التاريخ ورقةً ورقة، في مهنية رفيعة بعيداً عن الايديولوجيا لفرز وإستخلاص العبرة والدروس، علماً أن النهوض الروسي المتسارع بقوة .. هو بحدِ ذاته إستخلاص لهذه الدروس..
• روسيا بلاد مترامية الأطراف اورو ـــــــ آسيوية، ونسرها برأسين في إتجاهين شرق وغرب، بمساحة سُدس مساحة اليابسة تقريباً، يقطنها حوالي 145 مليون نسمة من مختلف الأديان والثقافات والقوميات، على مدى قرون حاربت منذ ما قبل غزو المغول وبعده، السويد وبولندا ولاتفيا وليتوانيا وبروسيا وفرنسا بحملة نابليون، والألمان قبل هتلر ومعه في حربين عالميتين.
• بعد إنتصار ثورة أكتوبر عانت البلاد من الحرب الأهلية، الفقر والقنانة (الموجيك)، ومعسكرات الإعتقال (الغولاك)، وحروب التدخل الأمريكية واليابانية والفرنسية والبريطانية طمعاً في ثرواتها الغنية، الأمر ذاته الذي عبرت عنه مادلين اوليرابت وزيرة الخارجية الأمريكية بعد إنهيار الدولة السوفييتية: «لا.. ليس من العدالة أن تمتلك روسيا مثل هذه الأراضي الشاسعة»، كذلك ما قالته خليفتها بعدها- بذات الموقع الرسمي- كونداليزا رايس: «لدى روسيا الكثير جداً من الأراضي الشاسعة، ويجب أن تُضم سيبيريا إلى الولايات المتحدة»، وسبقهما إلى ذلك زبغينو بريجنسكي، ونشطت المخططات الأمريكية بعد إحتلال أفغانستان، بأن تصل كمية الهرويين المهرب من هناك إلى روسيا إلى 21% من المنتج للعالم، تكراراً للتجربة البريطانية في حرب الأفيون مع الصين.
• لقد جاءت ثورة فبراير البرجوازية عام 1917، بعد موجات من الإحتجاج الشعبي العارم على مشاركة روسيا في الحرب العالمية الأولى، وحالة الإفقار العام، التي إستغلتها البرجوازية المحلية، وطمعها في جنيّ أكبر المكاسب، وإحتكار تجارة المواد الأولية، في ظروف مدقعة للشعب وخاصةً للعمال والفلاحين، أدت إلى إفلاس المصانع، وإغراق الدولة بالديون، مقرونة بخسائر بشرية فادحة للجيش القيصري على خطوط القتال، بعد أن تولى القيصر نفسه قيادة الجيش، فبدأت موجات الإحتجاج الجماعي للشعب، وانضمت لها وحدات من الجيش، هذا ما دفع البرجوازية وقواها السياسية على إرغام القيصر نيكولاي الثاني على الإستقالة والتخلي عن العرش، وقامت بتشكيل الحكومة المؤقتة بقيادة الأمير جورجي لفوف، واستلم الحكومة بعده كيرنسكي التي تولت مهام السلطتين التنفيذية والتشريعية بدلاً من القيصر، فأعلنت العفو العام عن السجناء السياسيين، وإلغاء أحكام الإعدام، وإطلاق الحريات المدنية، وإستبدال الشرطة بـ «الميليشيات الشعبية»، لكن الحكومة المؤقتة واصلت الحرب على الجبهة الألمانية، ولم تستطع من إنجاز شيء يذكر للتخفيف من معاناة الشعب..
• هذا، في الوقت ذاته الذي شكلت به القوى الديمقراطية: «مجلس بتروغراد» الذي أصبح يشكل إزدواجاً للسلطة وعدم الخضوع للحكومة المؤقتة، وبدأ على يده إنهيار مؤسسة السلطة الإمبراطورية الروسية، لصالح «لجان السوفييت» من العمال والفلاحين والجنود، لمواجهة تجاوز ظروف الحرب ونتائجها، وتفشي الفساد والإحتكار، وإنهيار الإقتصاد، فقام حزب البلاشفة في الإستيلاء على السلطة دون أية مقاومة، بالهجوم على القصر الشتوي في بتروغراد، معلناً إقامة النظام السوفييتي الجديد في روسيا في أكتوبر عام 1917، وأول ما عمله النظام الجديد، هو أن قام بنشر وثائق (سايكس ـــ بيكو) التي عملت على تقسيم المنطقة العربية ..
إن كلفة الحرب الأهلية أودت بحياة أكثر من عشرة ملايين نسمة بين إقتتال الأُخوة، وطرف منهم مؤيد للتدخل الغربي بالشأن الروسي..
في حقبة الإنهيار السوفييتي في التسعينيات من القرن الماضي، إتسعت مخططات الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، على الرغم من أن الرئيس يلتسين تنازل عن كل شيء ممكن، فإن المخططات المعادية لروسيا تواصلت بعد زوال الإتحاد السوفييتي ومعه المنظومة الإشتراكية وحلف وارسو، فقد واصل العداء لروسيا، للإنفراد بقيادة العالم، وإدراكاً منه بأن الروح الروسية قادرة على إعادة التوازن لهذا العالم، على قواعد الأمم المتحدة، والقانون الإنساني العام، وأدى اختلال توازن القوى إلى إحتلال أفغانستان والعراق وأحداث البلقان والحرب على يوغسلافيا، وتدمير ليبيا، والحرب على اليمن، وإفتعال الحروب بالوكلاء من مرتزقة الإرهاب الدولي، كما يجري التدخل في سوريا، وإستخدام الميديا والفبركات الإعلامية، محاولة تهميش دور روسيا والصين ودول بريكس على هذا الصعيد الدولي..
والعمل على ممارسة الحصار والضغوط الإقتصادية والتجارية والعسكرية، لجعل حلف الناتو مهيمناً ليس في أوروبا وحدها، بل في كل بلدان العالم.
إن عموم الحروب التي شنّها (الناتو) والتحالفات التي تقودها واشنطن، على إمتداد العقدين من القرن الحادي والعشرين، لا تخضع لأحكام القانون الدولي ومؤسساته، حيث جرى تهميش الأمم المتحدة، والعديد من الحروب التي خاضها (الحلف) هي بالوكالة في العقد الأخير، وهي حروب متخفية جرت في عهد الرئيس الأمريكي أوباما، ضد كل من يخرج عن طاعة واشنطن، فإنه سيواجه دسائس الحروب والإنعزال ومخططات أجهزة الغرب، ما أدى إلى إنبعاث الفاشية الجديدة، كما يجري في أوكرانيا، وصعود القوى اليمينية المتطرفة والفاشية الجديدة في أوروبا ذاتها..
• «الروح الروسية» عبر عنها جوزيف ستالين في مايو 1945 بعد هزيمة ألمانيا النازية الهتلرية، رافعاً نخب الشعب الروسي (لم يقل السوفييتي) بالقول: «إن حكومتنا إرتكبت الكثير من الأخطاء، وداهمتنا لحظات يأس، لكن الشعب الروسي أبدى ثقة لا متناهية بحكومتنا وبقدراته، لقد وثق الشعب الروسي وصبر وإنتظر وأمل ..»، وبهذه الروح إستعاد ستالين خلال الحرب العالمية الثانية، تسمية الأبطال في التاريخ الروسي، كما إستعاد إطلاق ذلك التاريخ مجدداً .. وباتت هناك أوسمة للبطولة بإسمهم..
• في ترميز معبر جداً عن الروح الروسية، في حصار بتروغراد القاسي واللاإنساني، فقد كانت أوامر هتلر بتسوية هذه المدينة بالأرض، لأنها مدينة حداثية بناها القيصر بطرس الأكبر، وتمتاز بمعمار حداثي على الطراز الأوروبي، نوجزه بعودة أحد المقاتلين من جبهات القتال ضد الجيوش النازية، وبعد دخوله المدينة شاهد شاحنة تحمل جثث شهداء من المدينة، وشاهد بداخلها زوجته، فطلب إنزال جثمانها، وتبين له لاحقاً أنها ما زالت على قيد الحياة ...، وجرى إنقاذها...
إن كل بيت وعائلة في هذه المدينة، يتوارث أطفالها معاناة وتضحيات هذه المدينة البطلة ..
كما أن هذه المدينة الجميلة المثقفة هي مسقط رأس الرئيس الروسي بوتين الذي نهضت في عهده روسيا وعادت قطباً دولياً مرموقاً، نحو عالم جديد متعدد الأقطاب متوازن وديمقراطي..، وهو من جيل الشباب الأخير الذي نشأ وترعرع وتربى على مرويات تاريخ صمود مدينته من أجيال سبقته ..
ويا لها من روح مُحبة للسلام والحياة.. ويا لتاريخ بتروغراد ومعاني الصمود والملاحم البطولية والإنسانية..
• وفي تعبير آخر عن بطولة وإرادة هذه الروح الوقادة للحياة، في معنى البطولة الفعلي ومحبة الحياة والنور في وجه الظلام، أمامنا مثالاً لهذا، ضابط الملاحظة الروسي في معركة تحرير تدمر من الإرهاب الدولي التكفيري ـــ داعش ـــ، كانت مهمته التواصل مع مركزه العسكري عبر الإشارة اللاسلكية لأماكن وخطوط العدو، وبعد وقت تمّ كشف مكانه من قبل الإرهاب الدولي، وحين طوقوا مكانه أشار بكلمة وداعية لرفاقه.. لقصف النقطة التي حوصر فيها،..
و يا له من شهيد بطل.. ويا لها من روح مُحبة للحياة..
يا لها من روح فياضة ترفض الإستسلام .. في عُمق معنى البطولة الإنساني ..