«انتفاضة» من «البانتوستان» -د. احمد عزم
2017-05-03
بات الهدف الأول للطرف الإسرائيلي أن يكسر وحدة الحركة الأسيرة لدرجة الاستعداد لتلبية المطالب لبعض الأسرى ومنعها عن آخرين، أو السعي للبحث عن قيادة بديلة للإضراب. في الأثناء فإنّ التحركات داخل قرى ومدن الضفة الغربية، تفوق وتُضاف لحراكات الضفة في مناسبات، مثل التضامن مع قطاع غزة إبّان عدوان 2014، ومسيرة 48 ألفا حينها، وتضاف لهبة 2015 2016 الشبابية، والآن فإن استمرار زخم الصعود في التفاعل الشعبي، ينذر بتغيير قواعد اللعبة، وتحديداً الخروج من "فخ" البانتوستان الإسرائيلي.
نتج مصطلح البانتوستان من التجربة الجنوب إفريقية، ليرمز لتخصيص مناطق لأهل البلاد الأصليين، ذات كثافة سكانية، ويُقترَح عليهم أنماط من الحكم الذاتي والإداري. وفي التجربة الفلسطينية، سيق الفلسطينيون إلى فخ تحويل مراكز المدن إلى بانتوستان، يختلف نسبياً عن جنوب إفريقيا ولكن يتشابه في الجوهر. فالمطلوب أن يبقى الفلسطينيون في المناطق المأهولة، فيما يتمدد المستعمرون في المناطق الزراعية وغير المسكونة. وربما يختلف البانتوستان الفلسطيني، بأنه يسمح فيه بنشوء طبقة مترفة اقتصادياً سواء أكانت هذه مرتبطة بالاحتلال وبضائعه وتجارته، أو ممن يعملون مع منظمات وجهات مانحة خارجية، أو من الرأسمالية الوطنية، ومن لديهم موارد دخل أخرى، شريطة أن لا يفكروا في تحويل الاقتصاد لمقاومة.
وسمح في هذا السياق بنشوء، أو بقاء، جيوب من مظاهر الحياة المترفة نسبيا، من مقاهٍ ومطاعم وأماكن لهو وسكن تشابه ما في العواصم المستقلة، لتخدم بعض الفئات. وصارت هناك مشكلة هي أنّ الاحتلال يخنق الفلسطينيين، ولكن من أطراف المدن (على بعد مئات الأمتار من أي نقطة داخل المدن)، فكل مدينة بلا استثناء محاطة بالحواجز والبوابات، وكذلك القرى، تغلق وتفتح بحسب ما يراه ويريده الاحتلال، وتتم مراقبة كل شيء يجري في الداخل، لضرب أي محاولة تمرد أو رفض للاستعمار، وتتم حالات اعتقال وقتل مستمرة.
لقد أصبحت هناك معضلة وجدل دائمان في الساحة الفلسطينية؛ إذا أردت أن ترفض الاحتلال وتقاومه وتحتج عليه مدنياً وشعبياً، على غرار الانتفاضة الأولى، التي ابتدعها الفلسطينيون، وأدخلوا اسمها (مفردة انتفاضة) للقاموس العالمي، عليك أن تذهب خارج المدن، لمناطق يصعب الوصول إليها، ويسهل على الإسرائيليين قمعك بالرصاص والقتل والاعتقال. فيما في داخل المناطق الفلسطينية، يرتبك الفلسطينيون، بين إدارة شؤون البانتوستان، وحفظ أمنه، ومحاولة تحويله لدولة من جهة والغرق في خلافات تَحدث في الدول المستقلة، بين السياسيين، وبسبب مطالب نقابية وحياتية، من جهة أخرى، فضلا عن استمرار المد والجزر في مسألة الانفصال التجاري والاقتصادي عن الاستعمار.
مع إضراب الأسرى الأخير، لا يكاد اجتماع يتعلق بالتضامن، إلا برزت فيه أصوات أنّ النشاطات داخل المدن غير مجدية، ولا بد من الذهاب لما يسمى نقاط التماس مع الاحتلال لأنه دون مواجهة مباشرة لن يتأثر الإسرائيليون.
في الواقع أنّ فلسفة البانتوستان هي تقسيم الشارع إلى أفراد منشغلين بأنفسهم، لا يجمعهم إطار موحد، وهذا ما يحاول الإسرائيليون فعله حتى على مستوى المعتقلات، بحيث يبحث كل شخص عن خلاص مادي فردي، مع التنازل عن حقوقه الوطنية، وجزء كبير من حقوقه الإنسانية والمعنوية وحتى المادية، مقابل السماح له بجزء آخر. ومن هنا فإن مئات إن لم يكن آلاف التظاهرات والمسيرات والنشاطات التي شهدتها الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، هذا الأسبوع، هي إعادة لروح العمل الجمعي والوطني، وخطوة للأمام في التفكير بكيفية مواجهة "فخ" البانتوستان والانتفاض عليه، بشتى الطرق.
لقد كان أول ما حاول الإسرائيليون ترويجه أن هذا إضراب أفراد وليس الأسرى وفشل هذا بإضراب ما لا يقل عن 1200 أسير. ثم قيل إنّ الشعب الفلسطيني غير مكترث، ولكن الشعب أثبت، ومن المتوقع أن يثبت في الأيام المقبلة، خصوصاً يوم الأربعاء الذي أعلن يوماً للحشد الجماهيري، كذب هذه الادعاءات أو هذه الأوهام الإسرائيلية، بل إن التحرك يتجه ليمتد عربياً.
بقدر ما لدى الأسرى من مطالب محددة، غير مسيسة تماماً، بقدر ما يأتي إضرابهم ليعلن موقفا واضحاً لرفض سياسة التركيع الإسرائيلية، وإعادة بعث الحركة الوطنية الفلسطينية.
ومن الممكن أن تصبح دروس الأيام الفائتة فلسطينياً جزءا من معالم مرحلة مقبلة مختلفة.