عقد على الانقسام.. فهل من مخرج؟؟!! -وسام زغبر
2017-06-17
ضمن حالات قليلة ارتبط فيها اسم مطرب باسم شاعر ارتباطًا شرطيًا، هناك حالات نادرة لم تقِل فيها شهرة الأخير. لم يسطُ انتشار الأغنية على تلقي القصيدة. مارسيل خليفة ومحمود درويش مثالًا، الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم مثالًا ثانيًا وإن كان أكثر دلالة وجماهيرية. ولا أتذكر أمثلة مشابهة.
هكذا فكرت أثناء متابعة احتفاء ليس كبيرًا على "فيسبوك" بمرور الذكرى الـ22 للشيخ إمام منذ أيام قليلة، بينما الجميع مشغول بتركز الدولة في محاولات تمرير أمر التنازل عن السيادة المصرية على جزيرتي تيران وصنافير إلى المملكة السعودية.
تذكرت كيف كانت له ولادة ثانية مدوية أثناء 18 يومًا نادرة تاريخيًا تشكّل مساحة شديدة البياض في عمر ثورة يناير. وقتها صنع التلقي الأول للحدث الكبير بعض المفاهيم شديدة الرومانسية. والرومانسية سمة ثورية، لكنها تغيّب عن العين بعض ضرورات العقلانية على مستويات عديدة.
المشهد السياسي الشاب في 2011 لم يفرز كثيرًا من الشعر والغناء الخاص به. استثناءات قليلة لملمت الثوار حولها وآلت إلى ما آلت إليه الثورة. استعاد سكان التحرير بعضاً من قصائد أمل دنقل ورسموها غرافيتي حول وجوه الشهداء: "لا تصالح، وأغنية الكعكة الحجرية". اهتز أفق الميدان بأغاني الشيخ إمام. فرحنا وفرحت أرواحنا، ولم يلتفت أكثرنا إلى دلالة ما يحدث فنيًا. لم يكن أحد مهمومًا بطبيعة الحال. بعد انحسار الثورة سنتوقف أمام تراجع ملحوظ لتلقي أنواع جديدة من الغناء كانت قد راجت مع النصف الثاني من العقد الأول للألفية، ضمن حالة لمعان نجم جيل جديد من الفنانين بتنوع الوسائط، أدب وتشكيل وموسيقى. تبعات الثورة ضربت طلوع ثقافات وفنون جديدة إلى السطح. ثقافات صنعها شباب مُجدد في كل المجالات. كان ما عُرف بجيل الكتابة الجديدة يوسّع لنفسه مكانًا كبيرًا في الساحة، غير متأفف من قارئ البيست سيللر، بل يحاول السعي إليه بإدراك أننا لا نكتب لأنفسنا. لن نكتب بشروط البيع والشراء، لكننا نضع هذا القارئ في اعتبارنا. بالتوازي، اجتاحت الفرق المستقلة ونجوم "الآندر غراوند" القاعات التي يذهب إليها ذات القارئ المتابع لكُتّاب الألفية، بينما بعض التشكيليين الجُدد يشتغلون على "الفيديو آرت". على أي حال، هذا حديث آخر.
هذه سطور تود الاحتفاء بالشيخ إمام عيسى. سطور تسعى للانفلات من الحزن العام.
*
"واه يا عبد الودود.. يا رابض ع الحدود.. ومحافظ ع النظام
كيفك يا واد صحيح.. عسى الله تكون مليح
وراجب للامام.. ما عاد إلا المعاد
أمك بتدعي ليك.. وبتسلم عليك.. وتجول بعد السلام:
خليك جَدَع لابوك.. ليجولوا منين جابوك
ويمسخوا الكلام".
*
"بعد عام من اعتقال أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام، في 1968، انتهز الزعيم الفلسطيني نايف حواتمة، رئيس الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، لقاء بينه وبين الرئيس عبد الناصر، وقال إن لديه طلباً يتمنى أن يكرمه الرئيس فيحققه له. وابتسم عبد الناصر قائلا: أمرك يا نايف.
فتشجع نايف حواتمة وقال إنه وجود ثلاثة معتقلين بالسجون المصرية، هم: الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم وكاتب هذا السطور، وأنه يتمنى أن يستجيب الرئيس لوساطته فيفرج عنهم.
وتجهم وجه الرئيس عبد الناصر، وقال بجفاء: ما تتعبش نفسك.. التلاتة دول مش هايطلعوا م المعتقل طول ما أنا عايش.. "وذلك ما كان".
الحكاية على لسان صلاح عيسى في كتابه "شخصيات لها العجب"، وأتصورها تلخص ردًا على ما يتردد بأن عبد الناصر "مكانش يعرف واللي حواليه هم اللي وحشين"، المقولة الدائمة لمحبي كل رئيس متغافلين عن سيئاته، مع ما تحيل إليه من سمات المثقف المصري في هذه الفترة، بحيث قابل قسوة ناصر على معارضيه بحفاوة لم يفسرها أحد تفسيرًا معقولا حتى هذه اللحظة.
اللافت، أن سيرة الشيخ إمام جاءت عابرة في حكاية صلاح عيسى، ضمن صورة قلمية كبيرة كتبها الأخير لأحمد فؤاد نجم. لا أعرف لماذا يأتي عابرًا أغلب الوقت رغم أنه اقتسم مع نجم أشهر تاريخ لأغنية رفض عربية، خصوصًا في بلاد تتلقى الأغنية أسهل كثيرًا مما تتلقى القصيدة.
*
"لو علمتم الغيب لاخترتم الواقع"، عبارة تليق بما حدث لإمام عيسى بعدما استغنى الشيخ زكريا أحمد عن خدماته.
كان قد تعرف إليه عن طريق الشيخ درويش الحريري، وراح زكريا يستعين بصديقه الصغير في حفظ الألحان، حتى فوجئ ببعض من أغاني أم كلثوم يتسرب للناس في الشوارع قبل أن تغنيها، فقرر الملحن الكبير الاستغناء عنه. هذا الانفصال عن اسم مهم في عالم يرنو إمام للكبر داخله، لم يأت مضرًا، بل كانت الولادة الحقيقية. سيتعلم العزف على العود، ويذهب في تأليف بعض الأغاني وتلحينها والتخلي عن الزي الأزهري، قبل أن يلتقي برفيق المشوار أحمد فؤاد نجم عن طريق ابن عم الشاعر الذي سيصير شبيهًا برصاصة، رغم بداية الشهرة عبر أغنية لا علاقة لها بالسياسة: "أنا أتوب عن حبك؟".
*
يغني الشيخ إمام لعدد من شعراء العامية المصرية، غير أن الصحافة والتاريخ سيظلان، لفترة طويلة، غافلين عن أن تلك الأغاني كانت كلماتها لآخرين غير أحمد فؤاد نجم: "يا مصر قومي وشدي الحيل ـ نجيب شهاب الدين"، "اتجمعوا العشاق في سجن القلعة ـ زين العابدين فؤاد"، "البحر بيضحك ليه ـ نجيب سرور". بتلك الاستثناءات البسيطة، سنجد أن أغلب الأغلب في أغاني إمام كتبها أحمد فؤاد نجم، الذي لم يشأ القدر أن يرى انسحاب ثورة يناير، وشاء فقط أن يفرح بشيء كبير من أحداثها قبل أن يرحل. كانت زياراته القصيرة للتحرير تجعل الحيطان تهتف: "الجدع جدع، والجبان جبان".
*
"الحمد لله خبطنا.. تحت بطاطنا.. يا محلا رجعه ظباطنا.. من خط النار
يا أهل مصر المحمية.. بالحرامية. الفول كتير والطعمية.. والبر عمار
والعيشة معدن واهي ماشية. آخر أشيا.. ما دام جنابه والحاشية.. بكروش وكتار
ح تقول لى سينا وما سينا شي.. ما تدوشناشي.. ما ستميت أوتوبيس ماشى.. شاحنين أنفار
إيه يعني لما يموت مليون.. أو كل الكون.. العمر أصلًا مش مضمون.. والناس أعمار
الحمد لله وأهي ظاطت.. والبيه حاطط.. في كل حتة.. مدير ظابط.. وإن شالله.. حمار".
يا أهل مصر المحمية.. بالحرامية. الفول كتير والطعمية.. والبر عمار
والعيشة معدن واهي ماشية. آخر أشيا.. ما دام جنابه والحاشية.. بكروش وكتار
ح تقول لى سينا وما سينا شي.. ما تدوشناشي.. ما ستميت أوتوبيس ماشى.. شاحنين أنفار
إيه يعني لما يموت مليون.. أو كل الكون.. العمر أصلًا مش مضمون.. والناس أعمار
الحمد لله وأهي ظاطت.. والبيه حاطط.. في كل حتة.. مدير ظابط.. وإن شالله.. حمار".
غنّاها في أعقاب نكسة يونيو 1967، وكانت سببًا في سجنهما السياسي الأول، نجم وإمام.
*
في منتصف التسعينيات، رغب الشيخ إمام عيسى، وكان قد تجاوز السبعين، في العزلة، حتى توفي هادئًا في حجرة متواضعة بحي الغورية، في يونيو/ حزيران 1995، بينما ظل صوته يُنعش جلسات البهجة بين المثقفين والساسة. يثير لدى الكبار منهم نوستالجيا مدرجات الجامعة في السبعينيات، قبل أن يتحول إلى نوستالجيا جديدة لشباب كبروا سريعًا، بعدما كان يحفزهم في وقوفهم عند بؤر الثورة حول الميدان.