دولتان مستقلّتان -هآرتس
2017-09-12
هل أنا راضٍ عن حياتي حتى الآن؟ نعم بيقين. لو حدثت معجزة وعدت الى جيل الـ 14، وكان عليّ أن أعبر كل هذه الطريق من جديد، فهل كان ذلك سيروق لي؟ لا بالتأكيد. كفى.
في الـ 93 سنة من عمري تغير العالم بصورة مطلقة. بعد بضعة أيام من ولادتي حاول ديماغوجي صغير ومضحك باسم ادولف هتلر القيام بثورة في ألمانيا، فتم اعتقاله، وفي السجن كتب كتابا مملا بعنوان «كفاحي»، ولم ينتبه أحد له. الحرب العالمية (التي لم تكن تسمى بعد الأولى) انتهت قبل بضع سنوات من ولادتي، تقريبا كل عائلة في ألمانيا فقدت أحد أبنائها. وقد قالوا لي إن عما من أعمامي البعيدين مات متجمدا في الجبهة النمساوية – الايطالية. وفي يوم ولادتي ساد في ألمانيا تضخم كبير. والدي، الذي كان مصرفيا صغيرا، أصبح ثريا. فقد عرف كيف تعمل النقود. ولكن لم أرث منه هذه المهارة، ولست نادماً على ذلك.
لم نكن متدينين، لكن أشعلنا الشموع وصمنا في يوم الغفران، وأكلنا الفطير في عيد الفصح، ولم نستطع أن نتصرف غير ذلك لأن هذا كان سيبدو خضوعا للاسامية. ولكن حسب رأينا لم يكن لهذا أي معنى. والدي كان صهيونيا عندما تزوج أمي، السكرتيرة الشابة والجميلة. ومن بين الهدايا كانت توجد وثيقة تدلل على أنه تمت زراعة شجرة في «ارض إسرائيل» على اسم الزوجين السعيدين. وفي الوقت ذاته كان الصهاينة أقلية صغيرة، فقد اعتقد معظم اليهود أن الصهاينة مختلون عقليا. وهناك نكتة قالت إن الصهيوني هو يهودي يتبرع بالمال ليهودي آخر من اجل أن يقوم الاخير بإحضار يهودي ثالث الى «أرض اسرائيل».
لماذا تحول والدي صهيونيا؟ هو لم يحلم بالهجرة الى «ارض اسرائيل» بنفسه، لكنه كان متصلبا وكره أن يسير مع القطيع. الصهاينة كانوا أقلية صغيرة. وقد كان من المناسب له أن يكون مع الأقلية. ميل والدي هذا هو الذي أنقذ حياته. عندما صعد النازيون للحكم كنت أبلغ التاسعة، وقد قرر والدي على الفور الهجرة الى البلاد. وبعد ذلك قالت لي أمي إن الدفعة الاخيرة التي تلقاها كانت من شاب ألماني قال لأبي في المحكمة «سيد اوسترمان، نحن لم نعد بحاجة الى يهود مثلك!».
لقد كنت شاهدا على صعود النازيين. وقد كانت قمصانهم البنية ترى في كل مكان، النازيون لم يكونوا وحدهم الذين يلبسون الملابس الرسمية، حيث كل حزب كبير في ألمانيا كانت له منظمة شبه عسكرية خاصة به، وكانت لها ألوانها الخاصة بها وملابسها الرسمية.
لم أذهب الى الروضة، وقد ذهبت الى المدرسة في عمر الخامسة والنصف، وفي عمر التاسعة والنصف ذهبت الى المدرسة الثانوية. حياتي الحقيقية بدأت عندما وقفت ذات صباح على متن سفينة وفي الأفق ظهر خط احمر ضيق، وكان عمري عشر سنوات.
أي سعادة، أي مكان رائع مليء بالاشخاص الذين يتحدثون بلغة غريبة تخرج من الحلق، وكانوا يلوحون بأيديهم اثناء الحديث؟ أي رائحة جميلة كانت تخرج من السوق التي كانت مملوءة بالفواكه الاستوائية؟ أي عربات التي كانت تجرها الخيول؟ أتذكر ذلك لأنني قرأت بعد بضع سنوات السيرة الذاتية لبن غوريون، الذي نزل في المكان ذاته، في ميناء يافا، قبل بضع سنوات من نزولي في المكان: أي مكان مقرف؟ أي لغة حلقية منفرة؟ ما هذه الحركات بالأيدي؟ ما هذه الرائحة الكريهة؟ هكذا ايضا شعر هرتسل نفسه في المرة الوحيدة التي زار فيها البلاد.
لقد أحببت هذه البلاد من النظرة الاولى، وأنا أستمر في حبها رغم أنها تغيرت كثيرا. لا يمكنني تخيل أن أعيش في مكان آخر.
يسألونني دائما اذا كنت صهيونيا؟ وأجيب بأنني لا أعرف ما معنى كلمة صهيوني في هذه الايام. وحسب رأيي الصهيونية ماتت موتا طبيعيا عندما ولدت دولة اسرائيل. الآن يوجد لدينا أمة اسرائيلية. وهذه الأمة متعلقة بيهود العالم، لكنها مع ذلك أمة منفصلة تعيش في فضائها، وتوجد لها مشاكلها الجيوسياسية الخاصة بها. هي متعلقة بيهود العالم مثل استراليا وكندا، على سبيل المثال، المتعلقة بالعالم الانجلوسكسوني. هذا الوضع واضح جدا لي الى درجة أنني أجد صعوبة في فهم النقاشات غير المنتهية حول الصهيونية. وحسب رأيي، لا يوجد لهذه النقاشات أي مضمون حقيقي ومعقول.
ايضا هكذا النقاشات غير المنتهية حول «العرب». فهذه النقاشات ايضا ليس فيها مضمون حقيقي ومعقول. العرب كانوا هنا عندما جئنا. وأنا ما زلت اعتقد أن الصهاينة الاوائل اخطؤوا خطأ كبيرا عندما لم يحاولوا احتواء طموحات وآمال السكان العرب. «السياسة الواقعية» قالت لهم عليكم احتضان حكامهم الاتراك.
إن افضل تشبيه للنزاع كتبه المؤرخ آيزيك دويتشر: شخص يعيش في الطابق الأعلى في مبنى. هذا المبنى احترق ومن اجل انقاذ حياته قام هذا الشخص بالقفز من النافذة، وسقط على عابر سبيل في الشارع، أصيب وتحول الى معاق. وبدأ بين الشخصين نزاع قاتل، من الذي على حق. هذا ليس مثالا كاملا، لكن يوجد فيه ما يكفي لاثارة التفكير.
أنا شخص متفائل بطبيعتي (وهكذا تسمى ايضا سيرتي الذاتية). أنا متفائل رغم أن عقلي التحليلي يقول لي شيئا آخر. لقد رأيت في حياتي امورا كثيرة غير متوقعة، منها الجيد ومنها السيئ. لهذا أعتقد أن هناك امورا يجب أن تحدث. وهذا يتعلق ايضا بنا.
صحيح، عندما انظر الى الاخبار اليومية، يصعب عليّ أن أكون متفائلا. فهناك الكثير من الحروب غير الضرورية في كل ارجاء العالم. والكثير من المعاناة للأبرياء. ومستقبل هذه البلاد يخيفني. هذا النزاع يبدو أنه لا نهاية له ولا حل له. ولكن حسب رأيي، الحل واضح جدا – واضح لدرجة أنه يصعب علي أن أرى أحدا لا يستطيع رؤيته.
يوجد هنا قوميتان، القومية الاسرائيلية والقومية الفلسطينية. النماذج التاريخية تعلمنا أن هاتين القوميتين لا يمكنهما العيش معاً في دولة واحدة، بل يجب عليهما العيش معا في دولتين – «معا» لأن القوميتين مضطرتان الى العيش بتعاون وثيق، وأن تكون الحدود بينهما مفتوحة، وأن يكون جسم فوقي ما يربطهما. ربما نوع من الكونفيدرالية. ومع مرور الزمن ربما نوع ما من توحيد الفضاء كله. كل ذلك يجري في عالم تجبره التطورات التكنولوجية على التوحد أكثر، نوع ما من النظام العالمي.
لن أعيش فترة طويلة من اجل رؤية كل ذلك يحدث، لكنني أراه الآن بعيون روحي.