ازمة الفكر والممارسة الصهيونية: الماركسية والصهيونية بين <<اليسار الصهيوني>>واليسار المناهض للصهيونية -الحلقة الرابعة والاخيرة
2013-08-18
جدلية النضال من أجل الديمقراطية الحقيقية والمساواة في الحقوق القومية والمدنية!
يشكل العرب الفلسطينيون المواطنون في اسرائيل أقلية قومية. ان مليون وثلاثمائة ألف مواطن عربي في اسرائيل يشكلون نسبة عشرين بالمائة من سكانها، هم ذلك الجزء من الشعب الفلسطيني الذي صمد في وطنه برغم نكبة شعبه الفلسطيني في العام 1948. جزء من الشعب الفلسطيني دون انتقاص، ولكننا نصر في الوقت نفسه على أن نكون جزءا غير منقوص الحقوق من مواطني إسرائيل. وفي كلتا الحالتين فإننا نطرح تحديا أمام الايديولوجية الصهيونية وأمام "اليسار الصهيوني" بشكل خاص. ان إصرارنا على حقنا في المواطنة غير المنقوصة، ليس نابعا من اننا ظهرنا فجأة في اسرائيل، وانما نابع من أن اسرائيل ظهرت في وطننا الذي لا وطن لنا سواه. إن مواطنتنا على خلاف الآخرين، متجذّرة بهذا المعنى، نابعة عن ارتباطنا بوطننا، وليس عن هجرتنا اليه.
ان احدى الوسائل المركزية التي لجأت اليها المؤسسة الاسرائيلية بقيادة حركة العمل، لاستدراك الفشل في تفريغ البلاد نهائيا من الشعب الفلسطيني، تمثلت في محاولتها محو الهوية القومية للمواطنين العرب في اسرائيل، ومحو انتمائهم الى شعبهم الفلسطيني، وافتعال هوية قومية جديدة للتعامل معهم كـ"عرب اسرائيل". لقد خاض اليسار الشيوعي المناهض للصهيونية معركة قاسية منذ إقامة اسرائيل لإسقاط هذه الهوية الهجينة، وقاد معركة الاقلية القومية العربية في سبيل انتزاع الاعتراف بها أقلية قومية فلسطينية مواطنة في اسرائيل.
ان الاوضاع المركبة، تتطلب إجابات مركبة. وقد حدد اليسار الشيوعي المناهض للصهيونية استراتيجيته في القضية القومية تاريخيا، على ركيزتين تناقضان وتتحديان الاستراتيجية التي دفعت بها حكومات اليسار الصهيوني بقيادة حركة العمل بشأن موقع المواطنين العرب في اسرائبل. الركيزة الاولى- أن المواطنين العرب في اسرائيل، هم جزء من الشعب الفلسطيني وجزء من النضال من أجل تحقيق حقوقه القومية المشروعة وتحرره، وجزء من النضال المناهض للامبريالية والصهيونية والرجعية العربية، ومن أجل التخلص من التبعية لمشاريع هيمنتها في المنطقة.
والركيزة الثانية، أن هذه الاقلية القومية العربية الفلسطينية في اسرائيل، هي جزء من المجتمع الاسرائيلي، وجزء حاسم من النضال من اجل السلام العادل، ومن أجل احداث التغيير الديمقراطي العميق داخل هذا المجتمع. وان المواطنين العرب لوحدهم ليس بمقدورهم انجاز هذا التغيير. ولكن ليست هناك قوة أخرى في اسرائيل قادرة على احداث التغيير الديمقراطي العميق، من دون مشاركة الجماهير العربية أو في المواجهة معها.
وفي اطار هذا المنظور الاستراتيجي فان دور الاقلية القومية العربية، في اسرائيل، جنبا الى جنب مع القوى الديمقراطية اليهودية، ومع قوى السلام الاكثر التزاما في اسرائيل، هو المساهمة في تحويل المجتمع، والعقلية السائدة ونظام الحكم في اسرائيل تحويلا ثوريا، نحو ديمقراطية حقيقية وسلام عادل ومجتمع تقدمي اشتراكي. ان الاقلية القومية العربية بقيامها بهذا الدور، وانخراطها في هذه النضالات، من موقعها المتميز في اسرائيل انما تقدم اكبر خدمة لقضية شعبها الفلسطيني وتوجه ضربة موجعة للفكر والممارسة الصهيونية.
لقد مرت أيام كانت المؤسسة الرسمية الاسرائيلية بقيادة اليسار الصهيوني تنشط فيها لمحاربة المركب الفلسطيني في هوية المواطنين العرب في اسرائيل، مستندة الى الارهاب الفكري والسياسي الذي مارسته اكثر أجهزة الدولة ظلامية، للحيلولة دون تجرؤ الناس على استنهاض الوعي بانتمائهم الى الشعب الفلسطيني من جهة، ومن أجل ضمان مأسسة مقولة "الهوية "العربية الاسرائيلية" الهجينة، بديلا عن الهوية القومية الفلسطينية من الجهة الاخرى.
لقد هزمت هذه السياسة وسقطت المراهنة عليها والتفت الجماهير الواسعة حول وثيقة 6 حزيران 1980 التي قادها القائد والمؤرخ البارز إميل توما، وفي صلبها: "نحن أهل هذا الوطن ولا وطن لنا غير هذا الوطن... حتى لو جوبهنا بالموت نفسه فلن ننسى أصلنا العريق.. نحن جزء حي وفاعل ونشيط من الشعب العربي الفلسطيني.." (الكتاب الاسود الثاني- "المؤتمر المحظور"). ومنذ أواخر السبعينيات من القرن العشرين باتت مخاوف المؤسسة الاسرائيلية الحاكمة وقلقها، لا تنصبّ على المركب الفلسطيني فقط في هوية المواطنين العرب، بل أخذ المركب المدني "المواطني" في هويتهم كمواطنين في دولة اسرائيل يقلقها أكثر من أي مركب آخر.
ان المركب المدني في هوية العرب الفلسطينيين المواطنين في اسرائيل، ينعكس في اصرارهم على النضال من أجل تحقيق المساواة التامة في الحقوق المدنية كمواطنين، والمساواة في الحقوق القومية كأقلية عربية فلسطينية داخل دولة اسرائيل. وينعكس أيضا، في اصرارهم على الالقاء بوزنهم السياسي المتميز من أجل التأثير على صورة المجتمع الاسرائيلي وسياساته ووجهة تطوره. ويبدو انه كلما زاد وعي المواطنين العرب في اسرائيل لوزن مواطنتهم، وكلما زاد اصرارهم على توظيف ثقلها لطرح بديل للإجماع القومي الصهيوني، الى جانب القوى الديمقراطية اليهودية، والفئات المعنية منها بإحداث التغيير الجذري في اسرائيل، فان الوجه الاقصائي البشع "للمخاوف الديمغرافية" يتكشف بشكل سافر. ان أحزابا سياسية قوامها المطالبة بالترانسفير القسري للمواطنين العرب والتخلص من مواطنتهم، باتت جزءا شرعيا من الخطاب السياسي الرسمي السائد في اسرائيل والقابع في سدة الحكم.
لقد خاضت الاقلية القومية العربية في إسرائيل نضالا مريرا على مدى عقود من الزمن بقيادة الحزب الشيوعي الاسرائيلي، من أجل البقاء في وطنها والدفاع عن أراضيها وحقوقها، بعد ان نفضت عنها نفسية النكبة وطورت بديلا لها نفسية النضال والتصدي.
على مدار أكثر من ستة عقود طالبت المؤسسة الاسرائيلية المواطنين العرب بإعلان ولائهم لدولة اسرائيل. وبشكل أساسي فان المواطنين العرب لم يخرجوا للنضال ضد وجود دولة اسرائيل. لكنهم ناضلوا دون هوادة في تلاحم مع اليسار المناهض للصهيونية وكل القوى الديمقراطية الحقيقية، من أجل اختراق ثوابت الاجماع القوي الصهيوني، من أجل إحقاق الحقوق القومية المشروعة للشعب الفلسطيني، من أجل إنهاء الاحتلال وتفكيك جميع المستوطنات، من أجل إقامة دولة فلسطينية في حدود الرابع من حزيران 1967 عاصمتها القدس غير منقوصة السيادة. من أجل حق العودة للاجئين الفلسطينيين على أساس قرارات الامم المتحدة. ومن أجل المساواة في الحقوق القومية والمدنية للمواطنين العرب في اسرائيل.
*أزمة "اليسار الصهيوني" اليوم من أزمة الصهيونية وخوائها!*
ليس هناك شك في ان الصهيونية اليوم هي الايديولوجية والسياسة المسيطرة في اسرائيل، وهي القاسم المشترك للاحزاب الصهيونية المشاركة في الحكم وفي المعارضة. ولكن لا يوجد شك أيضا بأن الصهيونية تعيش أزمة خانقة وتتخبط في تناقضاتها اكثر من اي وقت مضى. ومصدر هذه الازمة نابع عن عدم قدرة الصهيونية وحكام اسرائيل على توفير أية حلول ومخارج من أزمتها السياسية والاجتماعية، ومن حل القضية الفلسطينية وقضية التناقض المستفحل بين يهودية اسرائيل وديمقراطيتها في معادلة "الدولة اليهودية الديمقرطية".
إن إفلاس المقولات المؤسسة للصهيونية، وتحولها الى مفاهيم خارج السياق التاريخي والسياسي تشكل أرضا خصبة لتخبط الصهيونية وتهافتها. فمفاهيم مثل الشتات، والعمل العبري، والكيبوتس، والعمل في الارض، والتكافل القومي والاجتماعي، وفرن الصهر، والهجرة اليهودية الواسعة الى اسرائيل (علياه)، باتت جميعها خارج السياق ولم تعد ذات صلة، في وقت تتخبط فيه اسرائيل الرأسمالية، وسياساتها الليبرالية الجديدة المتطرفة، وتحمسها للقيام بدور فاعل في اطار اقتصاد العولمة الرأسمالية، وسيطرتها الكولونيالية الجديدة على المناطق الفلسطينية المحتلة، المعدة لتكون الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس المحتلة، اسرائيل التي أرادت التخلص من الارتباط بالعمال الفلسطينيين وحاصرت غزة وأغلقت أبواب الضفة الغربية، فغرقت في بحر من العمال الاجانب من مهاجري العمل، ولاجئي العمل عبر الحدود من السودان وأريتريا وغيرها من بلدان العالم الثالث، فلجأت الى إحاطة نفسها بجدران الفصل العنصري وجدران العزل الالكترونية، ومطاردة العمال الاجانب وطردهم من اراضيها. وأعادت انتاج العنصرية بأشكال جديدة وعناوين جديدة وضحايا جديدة بما فيها المهاجرين اليهود الاثيوبيين.
لم يبق من الايديولوجية الصهيونية وقد تهافتت المفاهيم التي كانت تدعيها كمفاهيم مؤسسة، غير عدوانيتها وولائها للامبريالية واندماجها في سياسات الليبرالية الجديدة وانفلاتها العنصري.
وأمام فشل اليسار الصهيوني بتجاوز هذه الازمة من خلال فك الارتباط مع بعده الصهيوني، فقد حاول الهروب الى الامام، واللجوء الى مقولات جديدة وادوات تحليل جديدة، مثل تيار ما بعد الصهيونية، والتركيز على الاعتراف ب"يهودية الدولة"، ومقولة "الخطر الديمغرافي"، وانتصار مدرسة الديغرافيا على مدرسة الجغرافيا (ارض اسرائيل الكبرى)، والترويج الى ان الصراع الفلسطيني الاسرائيلي غير قابل للحل، وان المطلوب هو التخلي عن حل الصراع والاكتفاء بإدارته، إن تطور هذه المفاهيم جميعها يعزز صهيونية "اليسار الصهيوني" ويميع يساريته وهو موضوع يتطلب دراسة منفصلة.
وعندما تلجأ المؤسسة الصهيونية أمام الشعب في اسرائيل وأمام العالم الى مغالطات الخلط الملغوم بين اليهودي والصهيوني، والى المماثلة بين اسرائيل بصفتها دولة ومؤسسة سياسية في الماضي والحاضر والمستقبل، وبين الصهيونية، فإنها تهدف الى قطع الطريق على تطور أي وعي في الجمهور اليهودي في اسرائيل وفي العالم، يدعو للتحرر من الصهيونية كأيديولوجية طبقية وعنصرية في خدمة البرجوازية اليهودية الكبيرة، وكأداة تابعة للامبريالية في المنطقة، وتقطع الطريق على مجرد التفكير بطرح بديل فكري وسياسي واجتماعي يقود الى تطبيع اسرائيل بدلا من الانشغال الدائم في ابتزاز الآخرين للتطبيع معها. إن الوعي الزائف الذي تنتجه وتفرضه المؤسسة الصهيونية، بالتضليل والابتزاز وتوظيف اللاسامية والكارثة و"الارهاب" والخطر الوجودي والعدو المشترك الذي يعاد انتاجه في كل مرة من جديد، هو الذي يمكن الايديولوجية الصهيونية من إحكام هيمنتها بشكل جارف على قطاعات كبرى من الجمهور اليهودي في اسرائيل والعالم. (انتهى)
(قدمت هذه الدراسة في مؤتمر ماركس السادس الذي نظمه معهد إميل توما للدراسات الفلسطينية والاسرائيلية (6.7.2013) ونشرت في مجلة "قضايا إسرائيلية الصادرة عن المركز الفلسطيني للدراسات الفلسطينية والاسرائيلية، في رام الله، العدد 49 \ 2013.)