:مصدر المقال
https://ajalia.com/article/13950

الخيانة البريطانية: تصريح بلفور مقابل اتفاقية حسين-مكماهون

الخيانة البريطانية: تصريح بلفور مقابل اتفاقية حسين-مكماهون

بقلم الدكتور الياس عاقلة

2 تشرين ثاني 2017

نظرة فاحصة على تاريخ بريطانيا يظهر لنا أنه تاريخ آثم فظيع ، مليء بالهجمات الإرهابية الوحشية، بالإبادات الجماعية، بالتطهير العرقي، بالجرائم الحربية، بالإغتصاب الجماعي للنساء وللأطفال، بخروقات الحقوق الإنسانية، بالدمار الكامل للمدن، بالعنصرية المتعالية الوقحة، بالخيانات العظمى، وبسرقة الأراضي والموارد الطبيعية لجميع شعوب العالم وعلى جميع القارات بدون مغالاة . لا يجب أن ننسى أن البريطانيون كانوا يتباهون أن الشمس لا تغيب عن مستعمراتهم.

احدى هذه الآثام البريطانية جاءت في جريمة الإقامة غير الشرعية للكيان الإسرائيلي الإرهابي في فلسطين عن طريق انتهاك حقوق السكان الأصليين الفلسطينيين، والإبادات الجماعية لكامل بعض القطاعات السكانية ، والتدمير الكامل لما لا يقل عن 400 بلدة فلسطينية، وسرقة الأراضي وبناء المستعمرات، وإطلاق حروبٍ مدمرة مستمرة في جميع البلاد العربية في منطقة الشرق الأوسط الى هذه اللحظة.

بدأ تنفيذ هذه الجريمة في 2 تشرين الثاني 1917 عندما أرسل وزير خارجية بريطانيا آرثر جيمس بلفور رسالة الى ليونيل والتر روثشايلدس رئيس المؤسسة الصهيونية البريطانية يصرح فيها أن الحكومة البريطانية "تنظر بعين العطف الى إقامة مقام قومي في فلسطين للشعب اليهودي".

بسبب مناهضة بعض الوزراء البريطانيين وبعض الحاخامات اليهودية في أوروبا ضد البرنامج الصهيوني تم تنقيح تصريح بلفور (وهذا هو الاسم الحقيقي له وليس وعداً) أربعة مرات قبل التوصل الى النص النهائي. وقد بدأ كتابة النص بإملاء من حاييم وايزمان (يهودي صهيوني روسي الأصل وزعيم المحفل الصهيوني العالمي وقتها) على فريق كتابة النص الذي تكوَّن كل من ناثانيال روثشايلدس وليوبولد آميري (يهوديان صهيونيان) وألفرد ميلنر، سيسيل رود وريتشارد هالدين (متعاطفين مع الصهيونية). وقد قُصد تخفيف لهجة التصريح باستعمال مصطلحات ضبابية مثل "إقامة مقام قومي" بدل "دولة"، و" في فلسطين"بدل "فلسطين"، أي جزء من فلسطين بدل كل فلسطين. وكان دور بلفور الوحيد هو وضع اسمه على التصريح.

احتوت رسالة بلفور على أربع تصريحات رئيسية: الأولى والثانية تتناولان عطف الحكومة البريطانية على إقامة مقام قومي للشعب اليهودي مع التجاهل عن أن اليهودية ديانة وليست قومية. أما التصريحان الآخران فيعتبران تصريحات احترازية احدهما يتناول عدم مساس "الحقوق المدنية والدينية للمجتمعات غير اليهودية [الأغيار] في فلسطين"بدون ذكر الحقوق السياسية وحقوق تقرير المصير للأغلبية 90% من الفلسطينيين المسيحيين والمسلمين المتعايشين سلمياً، والتصريح الأخير يتناول عدم مساس "الحقوق السياسية والوطنية لليهود في مختلف البلاد الأخرى"

الحكومة البريطانية، فريق أول الذي لا يملك بتاتاً أي حق في فلسطين، وعدت بإعطاء فلسطين، ملك الفلسطينيين، طرف ثان، للمحفل الصهيوني، طرف ثالث، الذي لا يملك بتاتاً أي علاقة أو أي تاريخ في فلسطين والذي شوه وأساء نشر الديانة اليهودية الأصلية من أجل زج قطعان اليهود، مواطنين من مختلف بلاد العالم، في فلسطين من أجل بناء المشروع الصهيوني الإستعماري من النيل الى الفرات. ولتحقيق هذا الهدف الإستعماري لم يتردد الصهاينة حتى في ارتكاب هجمات إرهابية ضد قوى بريطانيا، الحكومة التي تبنتهم، مثل تفجير فندق الملك داود في القدس، من أجل تحقيق مشروعهم الإستعماري. نتيجة إنشاء هذا الكيان الصهيوني الإرهابي في فلسطين تعاني منطقة الشرق الأوسط العربية من حروب مدمرة استمرارية شغلت أيضاً العالم الغربي بتكلفةٍ كبيرة من أموالهم وسلاحهم وحتى أرواح جنودهم من أجل إسرائيل الإرهابية.

في هذا الأسبوع نسمع خطابات سياسية كثيرة ونقرأ مقالات كثيرة تندد بغدر وبغير شرعية وبحقد وبعدم أخلاقية وبجريمة تصريح بلفور المشؤوم، ولكننا لم نسمع أحداً يتكلم عن الغدر البريطاني لمعاهدة/اتفاقية الشريف حسين/مكماهون ذي العلاقة الحميمة للموضوع. خلافاً عن تصريح بلفور الذي كان عبارة عن رسالة بعثها سياسي بريطاني الى مواطن بريطاني ، الإثنان غرباء عن فلسطين ولم يعيشا فيها مطلقاً، جاءت اتفاقية حسين/مكماهون (1915-1916) اتفاقية سياسية رسمية بين ممثلين سياسيين رسميين والتي لها أسبقية على تصريح بلفور الذي جاء عام 1917.

اتفاقية حسين/مكماهون جاءت عبر مراسلات عشر رسائل، باللغتين العربية والإنجليزية، بين حاكم مكة الشريف حسين بن علي والمُقدَم والمندوب البريطاني الأعلى في مصر هنري مكماهون. وقد اشتملت هذه الرسائل العشر على سياسة بريطانيا الخارجية وتعهدها للشريف حسين بقيام دولة عربية موحدة "في الحدود الجغرافية التي طرحها شريف مكة" مقابل أن يقود الشريف حسين ثورة عربية كبرى ضد الإمبراطورية العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى. وقد امتدت هذه الحدود المتفق عليها من سوريا شمالاً الى الجزيرة العربية جنوباً ومن الخليج الفارسي شرقاً الى ساحل البحر الأبيض المتوسط غرباً.

بعد اعتبار رسائل مكماهون اتفاقاً رسمياً أطلق الشريف حسين الثورة العربية الكبرى ضد الامبراطورية العثمانية. وقد لعب ثوماس إدوارد لورنس، الملقب بلورنس العرب، دور الوسيط بين بريطانيا والشريف حسين، حيث كانت بريطانيا تزود الثورة العربية بالأسلحة من خلاله، مما جعل الثوار العرب جيش وكالةٍ بريطاني. وقد نجحت الثورة العربية من تحرير البلاد بعد أن قدم الثوار العرب الكثير من أرواحهم من أجل هذا التحرير.

غادرةً كانت ولا تزال هذه الحكومات البريطانية المتتابعة إذ عقدت الحكومة البريطانية آنذاك في أيار 1916 اتفاقية سرية مع فرنسا عُرفت باتفاقية سايكس-بيكو حيث اتفق الطرفان على تقسيم الشرق الأوسط العربي، بعد انتهاء الحرب، الى أقاليم إنتدابية صغيرة تكون تحت حكم البلدين، حيث تنشر فرنسا انتدابها على سوريا ولبنان وجزء صغير من العراق، بينما تنشر بريطانيا انتدابها على البقية الكبرى من العراق وعلى الأردن وعلى فلسطين.

خلال الحرب العالمية الأولى تغلغلت قوات ألمانيا في الداخل الفرنسي ولم تستطع قوى التحالف من دحرها لأن جيوشها عانت من خسائر فادحة خاصة بعد معركة "السوم" (Battle de la Somme July 1st – November 18, 1916) وعندما دخلت الإمبراطورية العثمانية الحرب بجانب ألمانيا كانت بريطانيا على وشك الإفلاس التام. عرضت عندها دول المركز عقد معاهدة سلام عبر القنصل الأميركي في لندن، لكن رئيس الوزراء البريطاني آنذاك ديفيد لويد جورج، الذي كان على اتصالٍ سريٍ مع الصهيوني حاييم وايزمان، رفض العرض معلنا أن بريطانيا ستواصل الحرب الى النهاية، إذ عرض عليه وايزمان بأن تقوم المحافل الصهيونية الأميركية بإقناع الرئيس الأميركي وقتها، وودرو ويلسون، بالإشتراك في الحرب بجانب بريطانيا بشرط أن تقوم بريطانيا بتسهيل إقامة دولة يهودية في فلسطين.

الرئيس الأميركي ويلسون الذي نجح في الانتخابات لفترة ثانية بدعمٍ من أموال الصهيونية الأميركية وتحت شعار عدم إدخال الولايات المتحدة في الحرب، احتاج الى مبررٍ مقنع لإقحام الأميركيين في الحرب. كانت الولايات المتحدة تُهرِّب أسلحة الى الحلفاء على سفنٍ مدنية متجهة الى السواحل البريطانية عبر منطقة حظرٍ مائيةٍ كانت ألمانيا فرضتها على السواحل البريطانية. تم تسريب متعمد الى السفارة الألمانية في الولايات المتحدة عن خطة تهريب أسلحة ومتفجرات على الباخرة المدنية لوسيتانيا. فقامت السفارة الألمانية بنشر إعلانات في الصحف الأميركية تحذر الركاب من السفر على الباخرة لوسيتانيا. عند وصول الباخرة الى منطقة الحظر المائية قامت غواصة ألمانية بقصفها بتوربيدو سبب انفجار المتفجرات المشحونة مما سبب غرق الباخرة ومقتل حوال 1200 مسافر منهم 128 أميركياً. وكان هذا هو المبرر الذي كان الرئيس ويلسون ينتظره لدخول الحرب بجانب بريطانيا. بعدها قامت بريطانيا بالمقابل بإصدار تصريح بلفور إتماماً لاتفاقها مع المحفل الصهيوني.

عارض الشريف حسين رافضاً كلاً من اتفاقية سايكس-بيكو وتصريح بلفور معتبرهما خيانة بريطانية مخالفة لاتفاقه مع مكماهون. فأكدت له بريطانيا كاذبةً التزامها بإقامة دولة عربية موحدة عبر الضابط ديفيد هوجارث رئيسها في المكتب العربي في مصر وعبر المارشال الحربي إدموند ألنبي (المعروف بالثور الدموي) مؤكدة ذلك مرة أخرى في التصريح الأنجلوفرنسي عام 1918. لكن رغم ذلك في مؤتمر لندن في نيسان 1920 وفي مؤتمر سان ريمو تنكر المجلس الأعلى لقوات التحافل لتضحيات العرب ولطموحاتهم بالاستقلال حين قاموا بتنفيذ اتفاقية سايكس-بيكو واضعين المنطقة تحت الإنتداب الفرنسي والإنتداب البريطاني.

بعدما أعلن الشريف حسين رفضه لتصريح بلفور ولقيام وطن لليهود في فلسطين، كما أكد ذلك الضابط ديفيد هوجارث، كان من الضروري عندها التخلص منه. فقامت بريطانيا بتسليح العائلة السعودية لمحاربته مما أدى حصيلة ذلك الى نفيه الى قبرص حتى عام 1930 عندما انتقل الى الأردن ليعيش في كنف ابنه الملك عبدالله الى ان توفاه الله عام 1931.

أعلنت الحكومة البريطانية الحالية، وكذلك المحافل الصهيونية البريطانية والمؤسسات المسيحية الصهيونية عن نيتهم بإقامة الإحتفالات المئوية لتصريح بلفور معلنين عنه "بالعمل الإلهي" بإنشاء دولة إسرائيل وبإعادة اليهود الى موطنهم التوراتي الإدعائي. وفي الجهة المقابلة قامت المؤسسات الفلسطينية بالإشتراك مع بعض شخصيات السلطة الفلسطينية، بما فيهم الرئيس عباس، بمطالبة حكومة بريطانيا الحالية بتقديم الإعتذار وبالإعتراف بالدولة الفلسطينية. كما قامت المؤسسات الفلسطينية بتقديم عريضة موقعة من قبل 13600 مواطن بريطاني مطالبين الحكومة بإلغاء الاحتفالات المئوية المشينة وحاثين رئيسة الوزراء، تيريزا ماي، بتقديم الاعتذار للفلسطينيين.

لكن الحكومة البريطانية ومعظم سياسيها، بدلاً من ذلك، أعربوا افتخارهم بما أسموه بالدور البريطاني في تأسيس دولة إسرائيل (الإرهابية). إذ قامت الوزارة الخارجية بتصريح ما ترجمته "يُعدُ تصريح بلفور واحداً من أهم الرسائل التاريخية التي لا تنوي حكومة الملكة تقديم الاعتذار عنه. نحن فخورون بدرونا في إنشاء الدولة الإسرائيلية."

أما رئيسة الوزراء "تيريزا ماي" فقد قدمت عدة تصريحات منها ما يأتي:

"بصفتي رئيسة الوزراء، أنا فخورة بالقول أنني أدعم إسرائيل، وأنه من الحق المطلق لنا أن نحتفل بالدور الحيوي الذي قامت به بريطانيا قبل قرنٍ بإنشاء وطنٍ للشعب اليهودي ... نتيجة لهذه الرسالة، من قلم بلفور، وبمجهود أشخاص كثيرين ولدت دولة إستثنائية (إسرائيل الإرهابية) ... نحن نفتخر بالدور الذي قمنا به بإنشاء إسرائيل وبالتأكيد سنحتفل بهذه المئوية بكل افتخار" ثم أردفت إلتزام بريطانيا الفارغ من كل المعاني بحل الدولتين الميت وغير القابل للتطبيق.

أما بوريس جونسون، سكرتير الشؤون الخارجية فقد أكد بشدةٍ على افتخاره الشخصي بقيام بريطانيا بإنشاء إسرائيل "... لتكون مجتمعاً حراً باقتصادٍ مزدهرٍ مبتكرٍ وبقيمٍ أخلاقية تفتخر بريطانيا بالتحلي بها."هي أخلاقٌ إرهابيةٌ وإبادةٌ جماعيةٌ وتطهيرٌ عرقي وتدميرٌ شاملٌ وسرقة أوطان الآخرين.

من الجدير بالذكر هنا أن 80% من أعضاء البرلمان البريطاني عبارة عن دمى صهيونية مسجلين أعضاءاً في مؤسسة أصدقاء إسرائيل، وهي عضوية تُعتبر سلماً للوصول الى مراكز سياسية أعلى. فليس من الغريب إذاً أن يُبدوا إنكاراً غير أخلاقيٍ مرضيٍ لجرائم الإستعمار البريطاني ومسؤولية بريطانيا في استعمار فلسطين وإبادة جماعية لمواطنيها، هذا عدا عن ذكر العديد من جرائم هذا الإستعمار الوقح في العالم كله.

احتفال بريطانيا بمئوية تصريح بلفور وبإقامة الكيان الإسرائيلي الإرهابي هو أيضاً احتفالٌ بالإبادة الجماعية وبالتطهير العرقي وبالمعاناة المستمرة للفلسطينيين بالإضافة الى جميع الحروب التدميرية التي لا تزال تدور رحاها في الشرق الأوسط الى هذه اللحظة من أجل العيون الصهيونية.

لا معنى للمطالبة بتقديم إعتذار لا معنى له ولا يقدم أو يؤخر. ما لا تعيه أغلبية الناس أن تصريح بلفور لإقامة إسرائيل الإرهابية عبارة عن حلقة واحدة فقط في مشروع "اليد الخفية" الإستعماري لمنع إقامة دولة عربية موحدة قوية في منطقة الشرق الأوسط أهم المواقع الإستراتيجية في العالم والغنية بالنفط.