الجامعة العربية: خيانة على المكشوف -د.الياس عاقلة
2017-11-26
أطلت علينا جامعة الدول العربية من جديد يوم الأحد 19 تشرين الثاني، بعد سنين طويلة من السكوت والنوم العميقين رغم كل الإعتداءات وحملات حروب المنظمات الإرهابية في المنطقة ، والإعتداءات الصهيونية ضد الفلسطينيين وقضم أراضيهم وبناء المستعمرات عليها ، وحصار وتجويع فلسطينيي غزة ، والخلافات السعودية القطرية، وإعتداءات السعودية على اليمن ، التي كلها مطالب شرعية وضرورية لتدخل الجامعة العربية لمعالجة كل هذه القضايا . لكن السبب الحالي والوحيد لبث الحياة المفاجأ للجامعة العربية بشكل هذه الإطلالة الطارئة هو الطلب السعودي الناتج عن خوف السعودية من الصاروخ الباليستي اليمني ، وما قد يتبعه من صواريخ ، الذي أُطلق على العاصمة السعودية ، الرياض ، كرد فعلٍ طبيعيٍ لليمن دفاعاً عن النفس ضد الإعتداءات والقصف السعودي الغاشم المستمر على اليمن طوال الثلاث سنوات الماضية.
وبطلبٍ من السعودية تناسى وزراء الخارجية العرب الحاضرين كل الأزمات الحساسة المتفشية في العالم العربي وبحثوا موضوعاً واحداً أسموه التدخل الإيراني في الشؤون العربية الداخلية . وكعادة اجتماعات الجامعة العربية لم ينتج عن اجتماع هؤلاء الوزراء حلٌ فعالٌ لأي مشكلة ، بل صدر بيان تضمن إدانة صريحة لإيران ولحزب الله بما أسموه التدخل والتهديد الإيراني للأمن القومي العربي طالبين إيران أن تراجع سياساتها التدخلية في المنطقة ، ومهددين باللجوء الى مجلس الأمن الدولي.
منذ تأسيسها لم تصدر الجامعة العربية أي بيان أو قرار يعلو الى مستوى القضايا والطموحات العربية لحل أي مشكلة في الوطن العربي . بل على العكس كانت هذه البيانات والقرارات دائماً عشوائية وفارغة من أي مضمون وغير صالحة في أي قضية عربية ، بل معرقلة أي احتمال لحل القضايا العربية ابتداءاً منذ النكبة الفلسطينية الى يومنا الحاضر.
وبدل أن توحد الجامعة العربية الدول العربية وتطرح حلولاً للنزاعات العربية جاءت قراراتها لتزيد تشرذمها ولتدعم عدوان دول عربية ضد أخرى ولتعاقب بعضها بتعليق عضويتها في الجامعة . فبدلا من الاحتفال باتحاد اليمن الشمالي مع الجنوبي عام 1990 قامت الجامعة العربية بتعليق عضوية الجمهورية اليمنية . كما تم تعليق عضوية الجماهيرية الليبية عام 2011 بحجة مطالبة السلطة بأن تقوم بتحقيق أمن الشعب الليبي والإلتزام بقرارات الجامعة . وفي نفس هذا العام تم تعليق عضوية سوريا التي كانت احدى الدول العربية المؤسسة للجامعة عام 1945. وغيرها من التعليقات المشابهة .
وكان لقرارات الجامعة تأثير سلبي كبير على مصير العالم العربي لأنها تحولت من إطارٍ جامعٍ للعرب الى أداة شرعنة الحروب على بعض الدول العربية والمساهمة في تدميرها وفي تمزيقها . فقد ساهمت قراراتها بعزل وبإشعال حرب السبع سنوات في سوريا التي واجهت أعتى موجات الإرهاب ومنعتها من الانتشار الى بقية الدول العربية. كما كان لهذه القرارات تأثير كبير في تدمير الجماهيرية الليبية وتحويلها الى دولة فاشلة تفشت فيها المنظمات الإرهابية . وكذلك باركت هذه الجامعة عدوان ما سُمي بالتحالف السعودي لمهاجمة ولتدمير اليمن وقتل وتجويع الاطفال والنساء هناك.
متمثلةً بما فعلت الصهيونية في فلسطين شنت السعودية عدوانا شاملا على اليمن منذ آذار 2015 وقتلت آلاف الأطفال والنساء وشردت الملايين ، كما تفرض حصارا شاملا على اليمن اعتبرته الأمم المتحدة سببا لحدوث كارثة غذائية ومرضية في هذا البلد.
كان الأجدى لهؤلاء الوزراء العرب أن تجدى جباههم بالخجل أمام المنظمات الإنسانية غير العربية التي تبذل جهوداً كبيرة لرفع الحصار عن الشعب اليمني وتساهم بشكل كبير في التخفيف عن معاناتهم بروحٍ إنسانيةٍ عاليةٍ يفتقر إليها هؤلاء الوزراء العرب الذين حتى لم يذكروا معاناة الشعب اليمني في اجتماعهم ولم يقدموا أي حلٍ أو وساطة أو اقتراحاً لإنهاء الحرب ضد اليمن ولمساعدة شعبها.
الحقيقة التي تغيب عن أذهان هؤلاء الوزراء أن كل هذه الخلافات والحروب في العالم العربي عبارة عن سلاسل متتابعة في مشروع إسرائيل الكبرى الصهيوني من النيل الى الفرات الذي يتطلب تفتيت العالم العربي سياسياً ، وتفريغه من السكان إما عن طريق إبادتهم أو تهجيرهم الى بلاد أخرى . فقد قامت إسرائيل والإدارة الأميركية وللأسف بالإشتراك مع تركيا والسعودية وقطر والبحرين ،كما أظهرت الأدلة القاطعة، بخلق وتسليح وتمويل المنظمات الإرهابية ، داعش وأخواتها ، في مشروع دولة الخلافة الإرهابي ، لتنفيذ هذه الأهداف.
كما لم تجتمع الجامعة العربية للمدافعة عن القضية الفلسطينية العربية ولفك الحصار عن غزة ، كذلك لم تجتمع لبناء قوة عسكرية لمواجهة ولدحر وللقضاء على داعش الإرهابية التي دمرت سوريا والعراق وهددت لبنان ، وذبحت اخوتنا العرب هناك واغتصبت نساءهم وبناتهم وأطفالهم وباعتهم بالرخص علناً في أسواق النخاسة ، ولم يجتمع هؤلاء الوزراء عندما كانت المدن اليمنية تُقصف وتُدمر وسكانها يُقتلون ويُجوَّعون ويموتون من الأوباء المرضية.
لكن عندما فشل مشروع الخلافة الإسلامية الإرهابي واستطاعت القوات السورية بالاشتراك مع قوات العراق وحزب الله مدعومين من إيران وروسيا بالقضاء على الإرهابيين في المنطقة وحماية بقية الدول العربية من انتشار هؤلاء الإرهابيين فيها سارع هؤلاء الوزراء المبرطلين باتهام إيران بتهديد الأمن القومي العربي ، وباتهام حزب الله بالإرهاب ، بدل أن يقدموا لهم الشكر على التضحيات الغالية التي قدموها في محاربة الإرهابيين وعلى حماية الأمن القومي العربي من امتداد هذا الإرهاب الى البلاد العربية الأخرى ، في حين لم تحرك أية دولة عربية أخرى ساكناً لمحاربة الإرهابيين بل قدموا لهم أسلحة وأموالا وتسهيلات للتدريب في بلادهم.
أُنشأت الجامعة العربية من أجل توحيد وتقوية الدول العربية سياسياً واقتصادياً وعسكرياً ضد تدخلات القوى الإستعمارية ولتحرير فلسطين ولحماية المنطقة من المشروع الصهيوني . لكنها للأسف تحولت بدلاً من ذلك الى أداة شرذمةٍ وقمعٍ وتدميرٍ وعرقلة أي مشروعٍ اقتصادي لدول المنطقة بعد أن سيطر على قراراتها آل سعود المتصهينين بأموال النفط . وبدل أن تساهم السعودية ببناء وبتقوية الصناعات والاقتصاد العربي وبحماية المنطقة من المشاريع الاستعمارية قامت بصرف المليارات من أموال نفطها على تقوية اقتصاد الولايات الأميركية والبريطانية والفرنسية (الأعداء التقليديين للأمة العربية) عن طريق شراء أطنان من الأسلحة من هذه الدول إما لمهاجمة دول عربية أخرى أو لخزنها في الصحراء الى أن تصدى وتزول فعاليتها .
يعتبر كثير من السياسيين العرب والأحزاب السياسية ، خاصة هؤلاء التابعين لمحور المقاومة، قرار الجامعة العربية اتهام إيران بالتدخل وبإنتهاك الأمن القومي العربي واتهام حزب الله بالسيطرة التامة على الحكومة اللبنانية وباختطاف قراراتها ، قراراً عدوانيا ضد الأمة العربية جمعاء ، مجسداً بوضوح هيمنة العائلة السعودية على قرارات وسياسات الجامعة العربية المنصاعة لإملاءات الصهيونية العالمية التي تعتبر إيران وحزب الله عرقلةً حقيقيةً لتحقيق المشروع الصهيوني في قلب الوطن العربي.
إن حزب الله مكونٌ أساسيٌ وجوهري من الشعب اللبناني . وهو القوة العربية الوحيدة التي أنزلت الهزائم بالجيش الصهيوني صاحب اسطورة "الجيش الذي لا يُقهر". فقد استطاع حزب الله تحرير لبنان من الاستعمار الإسرائيلي عندما طرد الجيش الصهيوني يجرجر أذياله فشلاً عام 2000 ، كما أنه أفشل الإعتداءات الإسرائيلية على لبنان خاصة عام 2006 بعد أن دمر العديد من دباباته في ساحة المعركة ووصلت صواريخه المدن الإسرائيلية الرئيسية . وهو الآن يشكل رادعاً قوياً لأي إعتداءٍ صهيوني جديد على لبنان . كما كان حزب الله القوة العربية الوحيدة التي شاركت القوات السورية في معاركها ضد الإرهابيين بينما قبعت جيوش الدول العربية الأخرى ساكنة في مضاجعها في حين قامت قيادات هذه الدول بتدريب وبتسليح الإرهابيين . لقد حمى حزب الله لبنان أولاً وسوريا ثانيا وبقية البلاد العربية ثالثاً من المنظمات الإرهابية حين تخلى عن سياسة النأي بالنفس الإنهزامية وانتفض لمساعدة ولنجدة أخوته العرب ولحماية الأمن القومي العربي . وبدل تقديم الشكر له قامت الجامعة العربية بتقديم نكران للجميل وبوصفه بمنظمة إرهابية تبعاً للإدارة الأميركية.
إن انتصارات حزب الله وردعه لإسرائيل ، وانتصارات الجيشين السوري والعراقي وإنقاذ هذين البلدين ، وبالتالي إنقاذ العالم العربي ، من شر المنظمات الإرهابية لم يكن ليتم إلا بمساندة الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي زودت حزب الله وسوريا والعراق بالأسلحة المتطورة وبالإستخبارات والمهارات العسكرية الضرورية لهزيمة الإرهابيين . ولا بد هنا أن نذكر أيضاً الدور الروسي الرئيسي في إنقاذ المنطقة من الإرهاب . ورغم ذلك ينتفض الأمين العام لجامعة الدول العربية ، السيد أحمد أبو الغيط، مصرحاً أن إيران تهدد الأمن العربي بتدخلاتها في الشؤون العربية وأن "الصواريخ التي يستهدف بها اليمنيون السعودية إيرانية الصنع ... إن إيران تريد ، ومن خلال تزويد الحوثيين بصواريخها، توجيه رسالة مفادها أن العواصم العربية في مرمى نيرانها" حسب إدعاءاته.
تسعى السعودية الى إثارة أجواء أزمات في مقدمةٍ لحروبٍ في منطقة الشرق الأوسط بالإشتراك مع بعض الدول الخليجية وجيوش مرتزقة ضد إيران بدعم من الإدارة الأميركية في خدمةٍ للمشروع الصهيوني ولسيطرته على مداخل ومخارج البحر الأحمر الإستراتيجية ، وفي سعي السعودية للحصول على غطاء واقٍ وتبريرٍ لمجازرها في اليمن . ففي اتفاقية مع مصر حصلت السعودية على ملكية جزر "تيران" و"صنافير" المسيطرة على المدخل الشمالي للبحر الأحمر من خليج العقبة ، وفي عدوانها على اليمن تأمل السعودية على السيطرة على جزيرة "بيريم" في مضيق "باب المندب" المسيطرة على مخرج البحر الأحمر الجنوبي الى خليج عدن ثم الى المحيط الهندي . هذا عدى عن السيطرة على الثروات النفطية والمعدنية اليمنية .
الهدف الحقيقي والخفي من وراء كل هذه الألاعيب السعودية هو تصفية القضية الفلسطينية ، قضية العرب المحورية ، والقضاء على محور المقاومة وتطبيع ما يلقب بمحور الاعتدال العربي مع إسرائيل في ما سُمي بـ "اتفاقية القرن" الأميركية وهي المسلسل الجديد (الحالي وقصير الأمد) في المشروع الصهيوني . وتهدف هذه الاتفاقية أولاً الى عقد اتفاق سلام بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل بالاشتراك مع الأردن ومصر، وثانيا الى تطبيع دول الخليج، والأردن ومصر بشكل رئيسي مع إسرائيل كخطوة أولى لتشكيل تحالف عسكري لمواجهة الخطر الإيراني .
وتأتي الخطوة الأولي بامتداد السيطرة المصرية على قطاع غزة ، وفرض وصاية أردنية على أجزاء من الضفة الغربية ، بينما تحافظ إسرائيل على كل مستعمراتها الحالية مع إعطاء المواطنة الإسرائيلية للفلسطينيين تحت سيطرتها . وقد تم الضغط على رئيس السلطة الفلسطينية ، محمود عباس ، للقبول عندما تم استدعاءه الى السعودية مهددين بقطع المساعدات المالية له ، كما لوح الرئيس الأميركي ترامب بالتهديد بإغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في وشنطن إذا لم يعد الفلسطينيون الى المفاوضات مع إسرائيل .
واهمٌ من يعتقد أن الفلسطينيين ، الذين حاربوا المشروع الصهيوني طوال مئة عام ، سيتقبلون هذه الاتفاقية ، أو أن تتقبل الشعوب العربية الإسلامية فكرة أن تحل الجمهورية الإسلامية الإيرانية محل إسرائيل اليهودية العدوانية ، خاصة بعد أن ساهمت إيران في إنقاذ المنطقة من إرهابية داعش وأخواتها التي ساهمت إسرائيل في خلقها وساندتها عسكريا . صحيح أنه كانت ولا تزال هناك بعض الخلافات العربية الإيرانية على مر السنين ولكنها خلافات شكلية اختلقها بعض الزعماء العرب بتشجيعٍ من الإدارات الأميركية المتصهينة ومن السهل إزالتها بالمعاهدات السياسية . أما خلاف الأمة العربية ككل ، وكذلك خلاف إيران ، مع إسرائيل ومشروعها الصهيوني الإستعماري في المنطقة فهو صراعٌ وجودي إستراتيجي بحت يهدد أمن جميع دول منطقة الشرق الأوسط بدون إستثناء .
لم تعد الولايات الأميركية وإسرائيل بالإشتراك مع بعض الزعماء العرب اللاعبين الرئيسيين في منطقة الشرق الأوسط . ولم يعد من السهل الآن أن يستمر مشروع إسرائيل الكبرى كما خططوا له في الماضي . فقد كبر الآن محور المقاومة العربي (فصائل المقاومة الفلسطينية ، سوريا، العراق، حزب الله، اليمن ، وبعض الدول العربية في الشمال الإفريقي) في مواجهة المشروع الصهيوني ، وازداد خبرةً سياسياً وعسكرياً وحصل على دعمٍ من قوىً عالمية (إيران، روسيا والصين الى حدٍ ما) تعادل أو ربما أقوى من الصهيونية العالمية التي تتحكم بالإدارات الأميركية وبحلف الناتو.
ولا بد أن نشكر هنا ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ، الذي قلب النظام السعودي المتصهين رأساً على عقب ، معلناً بدون غموضٍ خيانة المملكة السعودية للقضية الفلسطينية ، القضية الأساسية لجميع العرب ، مما سيؤدي حتماً الى يقظة بعض