تمرين تفاوضي التفاوض على مسارين - معتصم حمادة
2013-09-26
تدار لعبة خطيرة في المفاوضات الحالية هي التداخل بين قضايا الحل الدائم وقضايا المرحلة الانتقالية، مما يهدد بنسف الحل الدائم لصالح حلول مرحلية ذات سقف زمني مفتوح.
■ .. والمقصود بالمسارين، مفاوضات الحل الدائم التي يفترض أن تبحث في رحيل قوات الاحتلال والمستوطنين وجلائهم عن الأرض الفلسطينية وقيام دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة بحدود الرابع من حزيران، وعاصمتها القدس الشرقية المحتلة. والمسار الثاني هو مفاوضات قضايا الوضع الانتقالي.
فقد نص اتفاق أوسلو، كما هو معروف، على تقسيم العملية السياسية إلى مرحلتين مدتهما خمس سنوات، تبحث في السنوات الثلاث قضايا الوضع الانتقالي، وفي مطلع العام الثالث يتم الانتقال إلى مفاوضات قضايا الوضع الدائم بحيث تنتهي العملية التفاوضية بقيام الكيان الفلسطيني المستقل.
لكن حقيقة ما جرى أن مماطلات ومراوغة الجانب الإسرائيلي، وغياب الإرادة السياسية لدى الفريق الفلسطيني المفاوض، كلها عوامل أدت إلى إطالة أمد المفاوضات إلى عشرين سنة ولم تزل تراوح مكانها، دون أن تعالج القضايا المطلوبة بل ازداد خلالها الاستيطان وأوغل العدو في إجراءاته القمعية. ورغم الحديث المفرط عن السلام واتفاقات السلام، ومفاوضات السلام، إلا أن حالة الحرب هي التي هيمنت على العلاقات بين الاحتلال وبين الشارع الفلسطيني، بفعل ممارسات الاحتلال وسياسياته.
الأدهى من ذلك أن اتفاقات وبروتوكولات المرحلة الانتقالية بقيت رهينة لدى الجانب الإسرائيلي، تتعرض للانتهاكات اليومية كأشكال عقابية على أداء السلطة كلما لاحظ العدو أن الأداء الفلسطيني يكاد يتجاوز التفسير الإسرائيلي، الأحادي الجانب، لاتفاقات وبروتوكولات المرحلة الانتقالية. وهكذا، على سبيل المثال، «عاقب» الاحتلال الفلسطينيين فدمر لهم مطارهم في الدهنية، وأغلق لهم مرفأهم في غزة، وألغى الوجود الفلسطيني عند المعابر الحدودية للضفة الذي تحول بقرار إسرائيلي إلى وجود إسرائيلي صرف، وأعطيت سلطات الاحتلال لنفسها حق اقتحام مناطق السلطة الواقعة تحت تصنيف (أ) كلما رأت في ذلك «ضرورة» أمنية، علماً أن هذه المنطقة، يفترض، حسب الاتفاقات أن تخضع للسيطرة الفلسطينية. أي بتعبير آخر، انكفأ الجانب الإسرائيلي عن كثير مما تمّ الاتفاق عليه في المرحلة الانتقالية.
***
عندما استؤنفت المفاوضات الحالية وفقاً لمعايير وزير الخارجية الأميركي جون كيري، قدم في سياقها المفاوض الفلسطيني تنازلات خطيرة ما أدى إلى انقسام سياسي في الحالة الفلسطينية بين الفريق المفاوض من جهة، وبين مجموع القوى الوطنية والديمقراطية الفلسطيني من جهة أخرى، لتحسسها مدى خطورة التنازلات التي جرى تقديمها (خاصة الموافقة على تواصل الاستيطان في ظل المفاوضات). وقد حاول المفاوض الفلسطيني أن يبرز «إيجابيات» قراره التفاوضي بالتأكيد على أن هذه المفاوضات مسقوفة بسقف زمني محدد يتراوح بين 6و 9 أشهر، يفترض أن تنتهي عندها إلى الاتفاق على القضايا التفاوضية. علماً أن المفاوض الفلسطيني في موقفه هذا تجاهل مجموعة السلبيات والنواقص التي اعتمدت العملية التفاوضية، كما تجاهل أن العملية التفاوضية مستمرة منذ عشرين عاماً، وكانت تدور أحياناً في ظل ظروف فلسطينية أفضل، دون أن تصل إلى النتائج المرجوة.
وتأكدت صحة مواقف ومخاوف الأطراف الفلسطينية المعارضة للعملية التفاوضية الراهنة بأسسها وآلياتها.
فقد صرح أكثر من مسؤول إسرائيلي، في حكومة نتنياهو معرباً عن تشاؤمه من مسار العملية التفاوضية الحالية داعياً إلى الوقوف بها عند حدود الحلول المؤقتة وتحويل الحل الدائم إلى حلول مرحلية، لا يتم الانتقال إلى المرحلة الجديدة إلا بعد الانتهاء والتأكد من سلامة تطبيق المرحلة السابقة بما يخدم المصالح الإسرائيلية. أي رهن العملية التفاوضية ونجاحها بمدى ما تخدم مصالح إسرائيل، وليس إنطلاقاً من مرجعية سياسية دولية أقرت الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني. وكشفت الصحف الإسرائيلية، في هذا السياق، عن وجود خلافات في الفريق الإسرائيلي المفاوض، بين وزيرة العدل الإسرائيلي تسيبي ليفني، المكلفة بالملف التفاوضي، وبين الرأس المقرر في الفريق الإسرائيلي، المحامي اسحق مولخو، الممسك هو الآخر بالملف التفاوضي، والمستشار السياسي لرئيس الحكومة نتنياهو. بين من يعتقد بإمكانية الوصول إلى حل رزمة واحدة (تقريباً) وبين من لا يعتقد ذلك ويدعو إلى الحلول المرحلية ذات السقف الزمني المفتوح.
وفي الفريق الفلسطيني بدأت أيضاً تتصاعد نغمة التشاؤم، تخوفاً من فشل العملية التفاوضية وانعكاسات ذلك سلباً على واقع السلطة الفلسطينية ومستقبلها، وانعكاس ذلك على أصحاب الخيار الوحيد المتمثل بالمفاوضات المختلة في أسسها وآلياتها لصالح الاحتلال.
دون أن نغفل في الوقت نفسه أطرافاً دولية، كالأميركيين مثلاً، مازالت تروج للمفاوضات، وتتحدث عن تقدمها ونجاحها، دون أن تفقد الأمل في إمكانية وصولها إلى «حلول».
***
اللعبة التي تدار في العملية التفاوضية الحالية هي التفاوض على مسارين: الانتقالي والدائم.
· الانتقالي لاستعادة القضايا التي كان الطرفان قد اتفقا عليها وعطلها الاحتلال، وتراجع عن تطبيقها. أي التفاوض مرة أخرى على قضايا تمّ التفاوض عليها في مرحلة سابقة، ونسف الاحتلال أسسها.
· الدائم لبحث القضايا المدرجة على جدول أعمال هذه المرحلة كالقدس والمستوطنات والحدود والمياه واللاجئين والأمن وغيره. خطورة مثل هذه اللعبة تنبع من أكثر من نقطة.
· الأولى أنها تستعيد المفاوضات على قضايا تمّ التفاوض عليها. وبالتالي يتحمل الاحتلال مسؤولية تعطيلها. وبذلك تعود العملية التفاوضية إلى نقطة الصفر، وكأن ما تمّ الاتفاق عليها لم يعد ساري المفعول، ولم تعد نصوصه ملزمة للجانب الإسرائيلي. أي لا اتفاقات ملزمة إلا بإرادة الجانب الإسرائيلي صاحب اليد العليا في التطبيق.
· الثانية أنها خرجت بالعملية التفاوضية عن مسارها أي قضايا الحل الدائم، وعادت بها إلى المسار الانتقالي، وهذا خروج عن الأهداف التي يفترض أنها وضعت لاستئناف العملية التفاوضية.
هذا يعني أن العدو الإسرائيلي بدأ يكسب وقتاً إضافياً لإنجاز مشاريعه الاستيطانية وتعميق أثرها العملي على نتائج العملية التفاوضية.
وهذا يعني التمهيد لعملية تزوير كبرى، يحضر لها الجانب الأميركي، بحيث يدعي الوصول إلى «حلول». فإذا تعطلت إمكانية الاتفاق عل قضايا الحل الدائم، تقدم نتائج الحلول المؤقتة التي استعيدت في المفاوضات، على أنها نجاحات للعملية التفاوضية ونجاح للدور الأميركي.
خطورة هذا الأمر لا تقف عند هذه النقطة بل تذهب أبعد من ذلك. هي تحضر من الآن، لتمديد العملية التفاوضية ونسف السقف الزمني المقرر لها. التمديد بذريعة البناء على ما تمّ انجازه، ومواصلة التفاوض لإنجاز ما تبقى.
وهكذا تكون قد نسفت المرحلة الدائمة، لصالح تمديد المرحلة الانتقالية، ويكون الجانب الإسرائيلي قد حقق ما يريده، في تحويل المرحلة الدائمة إلى مراحل انتقالية. ■