:مصدر المقال
https://ajalia.com/article/16581

القدس في ظل الممارسات الإسرائيلية وموقف الإدارة الأميركية-تيسير خالد

2018-07-26

كان لمدينة القدس مكانة سياسية وتاريخية وروحية عظيمة في فلسطين ولم يكن لها وضع قانوني خاص حتى قرار التقسيم لعام 1947. قدم قرار التقسيم 181 لعام 1947 لأول مرة مفهوم«corpus separatum »، أو نظام خاص لمدينة القدس والقرى والبلدات المحيطة بها . وقد اعترف القرار بأهمية القدس بالنسبة لأتباع الديانات التوحيدية الثلاثة ، وأعيد تأكيد ذلك بموجب القرار 185 المتعلق بحماية مدينة القدس وسكانها ، وبتقرير وسيط الأمم المتحدة لفلسطين ، الكونت فولك برنادوت ، الذي قدم توصيات لتنفيذ ذلك القرار، وتعيين ﻣﻔﺿﻴﺔ بلدية ، وإﻧﺸﺎء لجنة ﺗﻓﻴ لتنفيذ تلك اﻟﻘارات. وقد تم تبني توصياته ، بعد اغتياله بوقت قصير ، في القرار 303 في 8 كانون الأول /ديسمبر 1949.
لم يتم تنفيذ تلك القرارات . فمع انسحاب قوات الانتداب البريطانية من فلسطين احتلت القوات اليهودية القدس الغربية ، بما في ذلك ثمانية أحياء عربية ، أما الجيش الأردني فقد حافظ على القدس الشرقية بما في ذلك البلدة القديمة وأصبح الجزء الشرقي من المدينة جزءا من الضفة الغربية في إطار المملكة الأردنية الهاشمية. وبقي الأمر كذلك حتى العام 1989 عندما أعلن الأردن فك الارتباط مع الضفة الغربية.
احتلال وضم
وفي أعقاب حرب 1967 ، قامت القوات الإسرائيلية باحتلال المدينة بأكملها ، مع باقي الضفة الغربية ، وشرعت إسرائيل في تنفيذ عدد من الخطوات لتغيير الوضع القانوني والميداني للمدينة. وكانت الخطوة الأولى أن أعلنت أنها سوف تطبق القانون والإدارة الإسرائيلية الكاملة على القدس الشرقية في قانون البلدية الإسرائيلي . كما اتخذت إسرائيل عددا من الخطوات الإدارية لتنفيذ سياستها أولا بتوسيع الحدود البلدية لمدينة القدس بطريقة عشوائية ، لتشمل أكبر مساحة ممكنة من الأرض واستبعاد أكبر قدر ممكن من السكان الفلسطينيين وثانياً بإصدار بطاقات هوية زرقاء لسكان بلدية القدس الموسعة ، وهي تختلف عن البطاقات البرتقالية التي كان يصدرها الحكم العسكري في باقي مناطق الضفة الغربية.
سارع المجتمع الدولي إلى إدانة ورفض الإجراءات الإسرائيلية في القدس ، غير أنه لم يتم التركيز على تلك الإجراءات حتى أقر الكنيست الإسرائيلي عام 1980 «القانون الأساسي» الذي أعلن عن القدس الموحدة عاصمة لإسرائيل وضم القدس الشرقية رسميًا إلى دولة إسرائيل. وردا على ذلك تحركت الجمعية العامة للأمم المتحدة وكذلك مجلس الأمن، الذي أعاد التأكيد على القانون الدولي الذي يرفض ضم اراضي الغير بالقوة ، مؤكداً بعدد من القرارات أن القدس الشرقية جزء لا يتجزأ من الضفة الغربية وبقية الأراضي الفلسطينية المحتلة، وعلى انطباق اتفاقية جنيف الرابعة على القدس كجزء من الأراضي الفلسطينية المحتلة، ورفض جميع الإجراءات الإسرائيلية أحادية الجانب بشأن القدس. غير أن الولايات المتحدة ، رغم موافقتها الرسمية على هذا الموقف ، استخدمت حق النقض (الفيتو) ضد عدد من القرارات التي كانت ستؤدي إلى اتخاذ إجراءات ملموسة ضد إسرائيل لخرقها القانون الدولي.
وأكثر أهمية من الخطوات القانونية، شرعت إسرائيل في تهويد المدينة بهدف خلق أغلبية يهودية فيها، من خلال سلسلة من الإجراءات والتدابير كمصادرة الأراضي الفلسطينية وتجميد جميع أعمال البناء للفلسطينيين، تحت ذرائع مختلفة وتطبيق بعض التدابير الإدارية الرامية إلى تغيير الوضع على الأرض بشكل جذري ، ومنح الأفراد في القدس الشرقية بطاقات هوية زرقاء وليست جنسية إسرائيلية وتم اتخاذ عدد كبير من الإجراءات الإدارية للحد من عدد الفلسطينيين المقيمين في القدس الشرقية.
وقد تجاهلت إسرائيل تمامًا القانون الدولي لسبب جوهري وهو عدم وجود جهاز تنفيذي في الأمم المتحدة يلزم إسرائيل باحترام القانون الدولي، واعتقادا من حكوماتها المتعاقبة بأن المجتمع الدولي سيضطر عاجلاً أم آجلاً إلى قبول الأمر الواقع والمراهنة في الوقت نفسه بأن الفلسطينيين أنفسهم في المدينة سوف يقبلون بالواقع الجديد ويستسلمون لترتيباته.
وتجري السيطرة على الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية من خلال الانتشار الواسع للمستوطنات والبؤر الاستيطانية ومواقع سيطرة جيش الاحتلال من خلال نحو 450 موقع سيطرة، 158 مستوطنة ، منها 29 مستوطنة في القدس المحتلة ونحو 250 بؤرة استيطانية وعشرات المواقع العسكرية، التي توفر الأمن للمستوطنات والمستوطنين .
كما استخدمت إسرائيل قوانين التنظيم والبناء للحد من النمو العمراني والسيطرة على النمو السكاني عن طريق التنظيم والتخطيط وإغلاق مناطق حول البلدة القديمة بإعلانها مناطق خضراء يمنع البناء عليها للحد من التوسع والبناء العربي ، ما جعل 40٪ من مساحة القدس الشرقية مناطق خضراء يمنع البناء الفلسطيني عليها ، ولكنها تعتبر مناطق احتياط استراتيجي لبناء المستوطنات ما دفع السكان إلى البناء دون ترخيص أو الهجرة باتجاه المناطق المحاذية لبلدية القدس
وجاء جدار الضم والتوسع ليعمق السيطرة الإسرائيلية على القدس. وقد بدأت سلطات الاحتلال العمل في بناء جدار الفصل العنصري حول القدس في تموز/يوليو 2003 في مقطعين من شمال وجنوب القدس، ابتداءً من جنوب بيتونيا غرباً وحتى مخيم قلنديا شرقاً، وأما المقطع الجنوبي فهو من مدخل مدينة بيت لحم غرباً وحتى بلدة بيت ساحور شرقا ثم قامت إسرائيل بتحديد مسار الجدار في باقي المواقع المحيطة في القدس، حيث بدأت في الطرف الشرقي من بلدة بيت ساحور جنوبا حتى الطرف الشرقي لبلدة العيزرية شمالا، ومن الطرف الجنوبي لقرية عناتا وحتى مخيم قلنديا شمالا.
ويعزل الجدار ما مساحته 152,918 دونماً من أراضي محافظة القدس، ويضم إلى داخل حدود القدس 24 مستوطنة إسرائيلية. إحدى الأهداف من تشييده تتمثل في توسيع حدود بلدية القدس المحتلة، للسيطرة على أكثر من 10 % من مساحة الضفة.
وفي القدس، يجري توسيع مساحة البلدية لتشمل دائرة قطرها حوالي 30 كم في إطار مخطط القدس الكبرى ،وتمتد من حدود مدينة رام الله شمالا حتى حدود بيت لحم جنوبا. ويهدف مخطط القدس الكبرى لجعل حدود منطقة القدس الحضرية ( metropolitan Jerusalem) أكثر من 600 كم مربع ، أي حوالي 10% من مساحة الضفة الغربية ، وهو ما يشكل حاجزا بين جنوب الضفة وشمالها، حيث تمتد القدس إلى مشارف منطقة أريحا.
الوضع الراهن في القدس
حتى نهاية عام 2016 ، بلغ عدد السكان في القدس 885 ألفاً منهم 62% يهود و38% عرب . عدد العرب في شرق القدس هو 327,700 مقابل 214,600 مستوطن حتى نهاية عام 2016 ،أمّا في غرب القدس فعدد المستوطنين هو 335,500 مقابل 4,700 من العرب .
ويعيش 79 % من المقدسيين وفق المقاييس الإسرائيلية تحت خط الفقر. وتزداد المعاناة بفعل سياسة هدم البيوت. فقد هدمت سلطات الاحتلال ما يزيد على 5000 بيت ومنشأة في شرق القدس منذ احتلالها عام 1967 ، بينما سحبت الهوية المقدسية من أكثر من 14,500 مقدسي ، ويصل عدد من تأثروا بسحب الهويات إلى حوالي 100 ألف مواطن مقدسي.
الآن وفي ضوء هذه القراءة للأوضاع في القدس ، كيف نقرأ قرار الرئيس الأميركي الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل وقرار نقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس .
القرار معاكس لسياسات ومواقف 12 رئيساً أميركياً سابقاً ( من هاري ترومان حتى باراك أوباما) خلال 17 فترة رئاسية. وهو مخالف لعشرات القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة بدءا من قرار التقسيم عام 1947، وصولا للقرار 2334 ومخالف لجميع التزامات الولايات المتحدة تجاه عملية السلام ومخالف للقانون الدولي والتزامات الولايات المتحدة بوصفها دولة كبرى ومسؤولياتها تجاه الأمن والسلم الدوليين. ويشكل سابقة خطيرة في العلاقات الدولية بفرض منطق القوة وشريعة الغاب بدل القانون الدولي والشرعية الدولية.
ويشجع القرار المخططات الإسرائيلية في القدس. فالفلسطينيون في القدس لا يتمتعون بحقوق المواطنة، ولكن بحق «الإقامة الدائمة» وهو حق مشروط يمكن انتزاعه في أي لحظة ، ويخضع بشكل دوري للتدقيق والمراقبة من قبل جهات متعددة، من بينها وزارة الداخلية والبلدية والأجهزة الأمنية. كما يشجع السياسات الإسرائيلية في القدس القائمة على التطهير العرقي للفلسطينيين الصامت أحياناً والذي يجري تنفيذه بالتهجير القسري العلني أحيانا أخرى( قيود على الإقامة والبناء وتسجيل المواليد ولم شمل العائلات ، وتردي الخدمات ، أسرلة التعليم ، سيطرة على العقارات) وإحلال المستوطنين مكان المواطنين الفلسطينيين.
وعلى الرغم من كل سياسات التطهير العرقي لا يزال عدد المواطنين الفلسطينيين في حدود المدينة حوالي 320 ألف فلسطيني يشكلون حوالي 37% من إجمالي سكان القدس (غربا وشرقا)، وتوجد خطط لإخراج نحو 100 ألف فلسطيني من حدود البلدية ( مخيم شعفاط ، التجمع الفلسطيني في كفر عقب وسمير أميس ، ولا حقا ربما إخراج أحياء كثيفة السكان مثل جبل المكبر) مقابل إدخال 150 ألف مستوطن ، بهدف تحويل الفلسطينيين في القدس إلى أقلية لا تزيد عن 15% من السكان ومحدودة التأثير.
وتحول خطة القدس الكبرى التجمعات الفلسطينية إلى جيوب منعزلة ، كما هو حال الأحياء الفلسطينية داخل مدينة القدس، وفي محيطها( العيزرية وأبوديس ) وقد يشمل ذلك مدينة بيت لحم وجوارها إذا امتد مخطط القدس الكبرى ليشمل تجمع مستوطنات غوش عتصيون وهو تجمع مرتبط عملياً بشبكة من الطرق السريعة والخدمات بمراكز القدس الغربية. وتبقى الطريقة الوحيدة المتبقية لربط التجمعات الفلسطينية بعضها ببعض هي شبكات الأنفاق التي سبق أن أشار لها أرييل شارون في تعليقه على شرط الرئيس جورج بوش الابن حين تحدث الأخير عن دولة فلسطينية متصلة. ويترتب على خطة القدس الكبرى الفصل التام بين محافظات جنوب الضفة (بيت لحم والخليل) ومحافظات الوسط والشمال ، مما يتناقض مع إمكانية وفرص قيام دولة فلسطينية متصلة وقابلة للحياة.
وانتزاع القدس من الفلسطينيين وفصلها عن باقي الضفة الغربية والشعب الفلسطيني يعني انتزاع المركز الروحي والثقافي والسياسي لحياة الفلسطينيين على مر العصور، وبالتالي محاولة حرمان الفلسطينيين من أبرز العناصر التي تجعلهم شعبا ذا طموحات وطنية ، وتحولهم إلى مجموعات متناثرة من السكان ، لكل مجموعة همومها الحياتية الخاصة المستقلة عن هموم المجموعات الأخرى.
في السياق تأتي قضية «الخان الأحمر» ، وتهجير التجمعات البدوية باعتبارها جزءا من مخطط القدس الكبرى الرامي للسيطرة على كل السفوح الشرقية لجبال القدس( قرار مصادرة 12400 دونم الصادر عام 1997)، حيث تشكل المنطقة E1 الحلقة المتبقية لاستكمال السوار الاستيطاني المحكم حول القدس، وهذه عملية تهجير قسري وتطهير عرقي ما كان لها أن تطرح على جدول أعمال حكومة اسرائيل بهذا هذا الوضوح لو لم تكن مطمئنة إلى أن الإدارة الأميركية سوف توفر لها الحماية من المساءلة الدولية، خاصة وأنها تعلم أن عملا من هذا النوع يندرج في إطار جرائم الحرب.
وبصرف النظر عن مواصلة الإدارة الأميركية توفير الحماية لسياسات حكام تل أبيب في القدس ومحيطها كما في بقية محافظات الضفة الغربية ، فقد قرر الجانب الفلسطيني من أجل حماية حقوق الفلسطينيين في القدس باعتبارها عاصمة دولة وشعب فلسطين العمل في مسارين : الأول التوجه لمحكمة العدل الدولية وطلب رأيها الاستشاري في سياسة الإدارة الأميركية واعترافها بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال الإسرائيلي ونقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس بالتالي، والثاني التوجه للمحكمة الجنائية الدولية والطلب من المدعية العامة إحالة ملف جرائم الحرب الإسرائيلية في القدس ، بما فيها التهجير القسري والتطهير العرقي الصامت والمعلن، إلى الشعبة القضائية في المحكمة والبدء بفتح تحقيق قضائي دون إبطاء أو تأخير في هذه الجرائم الموصوفة وفقا لنظام روما للمحكمة الجنائية الدولية ذاتها.
· كلمة ألقيت في مؤتمر للمغتربين نظمته «مؤسسة الأراضي المقدسة المسيحية المسكونية» بعنوان «اعرف تراثك» عقد في جامعة بيرزيت في 14 تموز / يوليو2018.