مراسل «لوموند» يكتب عن عاصمة السراب الفلسطيني
2018-08-25
يقدم الصحافي بانجمين بارت، صورة مفصلة، ودقيقة، ومثيرة، وصادمة للأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، من خلال عمل ميداني، ومقابلات، وأرقام. تضمنها كتابه «حلم رام الله: رحلة في قلب السراب الفلسطيني» الصادر بترجمته العربية عن «جرّوس برس ناشرون» (2013).
يتحدث بارت الذي عمل مراسلا لصحيفة «لوموند» الفرنسية في رام الله ما بين عامي 2002 و2011، عن طبقات استحدثت، وخطط لسلام اقتصادي، لإطالة أمد الاحتلال، وتحسين صورته، وعن مناضلين ومثقفين تخلوا عن المبادئ. من أجل أوهام عامة، ومكاسب خاصة.
يدرك المؤلف استحالة بناء اقتصاد في ظل احتلال، وكذلك سلطة، ومؤسسات، ولكن هذا قد لا يكون وجهة نظر دول وطبقات وفئات تستفيد من الوضع الجديد، ومن أموال المانحين السياسية التي تتدفق تحت عنوان عام، لدعم مسيرة السلام، وتسريع حل الدولتين، ولكن ما يحدث في الواقع، هو قضم المزيد من أراضي الفلسطينيين، وتقويض أي أمل في حل الدولتين، وهو ما يدركه المانحون، من خلال التقارير العلنية أو المسربة، ولكنهم يستمرون في لعبة لا تنتهي، في وضع فانتازي، يكتب بارت: «هذا البلد المستحيل والمأساوي والعبثي الرائع الذي يشبه بأجوائه روايات فرانز كافكا، ولويس كارول، اسمه فلسطين، أو بالأحرى الضفة الغربية»، ويضيف: «رام الله أقل مجونا من تل أبيب وأقل بهرجة من بيروت، لكنها أكثر إثارة للدهشة من الاثنتين، وهي الآن الفقاعة الجديدة في الشرق الأدنى».
«عاصمة السراب الفلسطيني» كما يسميها المؤلف، التي تتعرض لاقتحامات الاحتلال الليلية، ومحاصرة بالمستوطنات والحواجز، لا تكف عن محاولة الظهور بمظهر الحياة الطبيعية: «منذ عام 2007، تفتتح حانة جديدة أو مطعم عصري كل ثلاثة أو أربعة أشهر»، ومن هذه المطاعم من يحاكي الأناقة الباريسية، أو السحر اللاتيني. إنها الزبد التي تحاول إخفاء ما يدور في المدينة، التي يوجد فيها عدة مخيمات للاجئين، والتي يزيد فيها الفقراء فقرا، في حين تتكون فيها طبقات سريعة الثراء، بقرارات فوقية، ترى بوجود مثل هذه الطبقات ضرورة لسلام من نوع خاص، والمقصود في الواقع سلام الاحتلال، وجعله احتلالا مقبولا ورخيصا، بل مربحا، فكل تدفق لأموال مانحة، هناك طرق كثيرة، ليذهب جزء منها إلى خزانة آخر احتلال، الذي يحظى بالتدليل.
ينقل المؤلف عن دبلوماسي فرنسي قوله إن وكالات التنمية الدولية لا تتكلم: «سوى عن تقوية المجتمع المدني، لكنها غالبا ما تفعل عكس ذلك؛ فهي تقوض قدرته على اتخاذ المبادرة وتحوّل المناضلين إلى مقاولين من الباطن، أي إلى زبائن»، يشدد هذا الدبلوماسي: «المساعدة الدولية في الأراضي المحتلة هي آلة ضخمة لنزع الصفة السياسية عن حركة التحرير الوطنية الفلسطينية».
لقد أصبحت رام الله دون أن تدري أو تعترف، مركزا ماليا وسياسيا، مكانا معزولا للشخصيات الفاعلة، وعاصمة لدولة مفقودة. ينقل المؤلف عن ناصر أبو رحمة: «منطقة رمادية، غير محتلة مباشرة، وليست حرة فعليا، وهي محاصرة ولكنها تعج بالحياة». أما يزيد عناني فيقول: «تتحول المساحة العامة إلى مساحة تجارية. وتنتشر أشكال التنظيم المدني الليبرالي الجديد في كل مكان. انبثق عن هذا التحول وهم التعايش بين كل من الحرية والازدهار والاحتلال. إنه لـ(هبل) كامل. لن تكسب رام الله شيئا، إذا أرادت أن تقلد دبي أو عمان».
يظهر التناقض ما يرصده المؤلف بذكاء، في حفل خطبة ابنة القائد الفلسطيني الأسير مروان البرغوثي في فندق «موفنبيك»، الذي حضره كبار السياسيين، متسائلا إذا كان هؤلاء لاحظوا مستوطنة بساغوت اليهودية التي تطل على المكان من جبل الطويل: «هل وصلت أصوات موسيقى الحفلة وأصوات أبواق السيارات المتنافرة إلى آذان سكانها؟ لديهم منظر لا يحجب على (موفنبيك) من نوافذ صالوناتهم. بساغوت هي حارس وسور في الوقت نفسه، وإحدى حلقات النظام الذي يمسك بفلسطين بين فكي كماشة».
دبلوماسي فرنسي يتردد على المقاطعة، مقر رئيس السلطة محمود عباس، كثير السفر خارج الوطن، يخبر المؤلف بأن عباس يشبه قائمقاما أكثر منه رئيسا، وأن السلطة الحقيقية في الضفة الغربية هي إدارة الاحتلال في مستوطنة بيت إيل، على مسافة قريبة من المقاطعة.
ويرى المؤلف أن أي حديث عن تغيير، يصطدم بطبقة المديرين العامين الذين تم توظيفهم بفضل علاقاتهم داخل حركة فتح: «حتى لو جلبنا إلى فلسطين الوزراء الـ25 الأكثر كفاءة في العالم، وحتى لو تم استيراد مائة مدير محترف، لن يكونوا قادرين على بناء مؤسسات. رؤية الدولة لا توجد إلا على الورق. لا يمكن أن تتحقق».
ينقل المؤلف عن خبير أجنبي: «بناء الدولة في فلسطين تجربة وهمية أو افتراضية. مهما كان الجهد الذي تبذله، يهدده الواقع بمناقضته في كل لحظة».
وهذا نقد مباشر لمسعى رئيس الوزراء السابق الدكتور سلام فياض، الذي قدم نفسه خلال السنوات الماضية بصفته صاحب مشروع «بناء الدولة»، بل حدد لإعلان مثل هذه الدعوة عدة تواريخ. القانوني كميل منصور يقول بوضوح: «كل هذا خدعة؛ فياض ليس مغفلا. ما يحاول فعله هو إبقاء النظام على قيد الحياة، وكسب الوقت حتى الانفجار المقبل».
وحقيقة مشروع فياض، كما يعتقد المؤلف: «محاولة لتحديث البيروقراطية الفلسطينية، لم تنجز».
يرى المؤلف أن ممولي فلسطين، انحازوا إلى فتح، مثلا من أصل 1.2 مليار دولار دفعت في عام 2006، مر 700 مليون منها بمكتب الرئيس محمود عباس.
المساعدات الدولية أيضا، كما يقرر المؤلف، هي صفقات تجارية، أغلبها مربح جدا، يستفيد منها الكثيرون كالمتعهدين، ووكالات التنمية الخاصة، وشخصيات سياسية وأكاديمية ومؤسسات محلية.
ويستقدم المتعهدون، الخبراء الأجانب، لأسباب تتعلق بالربح، في حين أنهم لا يقدمون عملا حقيقيا يمكن أن يخدم المؤسسات الفلسطينية، أحد الذين عملوا في برنامج لدعم القضاء الفلسطيني يعطي مثلا: «أذكر خبيرا أتى ليضع تقريرا عن أخلاق القضاة. كلف المانحين إقامته لمدة شهرين أكثر من مائة ألف يورو. لماذا؟ لتقرير من 17 صفحة لا فائدة منه إطلاقا».
هناك طبقة محلية تكونت بعد استفادتها مباشرة أو بطريقة غير مباشرة مما يسميه المؤلف «صناعة الإعانة»، وتتكون من «مديري منظمات غير حكومية، ومشرفين على مشروع تنمية، مستشارين سياسيين في منظمة دولية أو أساتذة في جامعة بيرزيت، يتقاضون معاش مستشار في القطاع الخاص».
لم تثر هذه الطبقة، التي تتركز في حي الطيرة، غرب رام الله، من خلال الأملاك العقارية، أو الانتماء لحركة فتح، أو من شركات عائلية: «بل في المعاشات بالدولار (بين 3000 و10000 في الشهر) وتراخيص التنقل داخل إسرائيل وتذاكر سفر لحضور مؤتمرات في الخارج. تلتقي بهم في مطاعم المدينة الأنيقة، في حفلات القنصليات وفي قاعة الشخصيات الهامة لجسر اللنبي، نقطة المرور بين الضفة الغريبة ومطار عمان، حيث تعفيهم مكانتهم الاجتماعية من الانتظار إلى ما لانهاية، الذي هو نصيب مواطنيهم الأقل حظا منهم». هذا الطبقة هي التي تعطي رام الله: «وتيرتها السريالية وهويتها المفصومة، تتنازع بين الحرية والازدهار والاحتلال والاستعمار».
هذه الطبقة تحظى بدعم المانحين: «الذين كانوا مقتنعين بأن ظهور طبقة وسطى عليا، حريصة على رغادة عيشها، يساهم في استقرار السلطة الفلسطينية، وبالتالي حل النزاع»، ولكن في واقع الأمر، لا يوجد قناعة بحل النزاع، وهو ما يقال خلف الكواليس، وإنما إيجاد أرضية لاحتمال احتلال طال أكثر من اللازم.
النخب المثقفة كانت جاهزة لبيع خبراتها، مثلا: «تحمست البرجوازية المثقفة التي تدور في نطاق جامعة بيرزيت، سارع كثير من أفرادها إلى تأسيس منظمات غير حكومية للدفاع عن حقوق الإنسان، لدراسة الديمقراطية أو لتعزيز دور المرأة، كلها مواضيع كانت جزءا لا يتجزأ من برامج الأحزاب والنقابات، التي أُعيدت صياغتها استجابة لشواغل المانحين. بذلك، دخلت هذه النخبة المثقفة في مسار تغريب يتيح لها سهولة أكبر للحركة الدولية وزيادة للموارد لا يستهان بها».
محاولة الحفاظ على الوضع القائم، وإدارة الصراع وليس حله، أدت إلى فتح خزائن البنوك، التي كانت سابقا تنتهج سياسة متحفظة، لإطلاق برامج إقراض، جعلت نسبة كبيرة من الـ160 ألف موظف في السلطة، يكدون لسد ما اقترضوه. ينقل المؤلف عن الاقتصادي سام بحور: «مجتمعا غارق في الدين لا يتمرد على السلطات القائمة. عندما تستدين لتشتري منزلا أو سيارة، لا تنزل لتحتج في الشارع».
يقول المؤلف: «لقد تَحَوّل قراصنة الجو، خاطفو الطائرات في سبعينات القرن العشرين وقاذفو الحجارة في الثمانينات، الذين كان يعبدهم الثوار في العالم بأسره. يشيد بهم خبراء صندوق النقد الدولي. هل سيعيد هذا التغير للفلسطينيين حريتهم؟ لا أحد يدري. أمّا اليوم، فهو يساهم أولا في ازدهار أعمال حفنة من ذوي الامتيازات».
يضيف: «بعد انطلاق مسيرة السلام، سنة 1993، تم إدماج تقريبا كل شباب الانتفاضة الأولى في دوائر الأمن التابعة للنظام الجديد. وحصر الحماس القومي باتجاه بناء نواة جيش. في نهاية السنوات تَحَوّل بعض مقاتلي الانتفاضة الثانية إلى حراس في المتاجر أو الفنادق ذات الخمسة نجوم. وتحول الهوس الثوري إلى الدفاع عن القطاع الخاص».
من الصعب تلخيص كتاب هذا الصحافي الحاصل على جائزة ألبير لندن عام 2008. الذي نقلته إلى العربية سنا خوري بأسلوب سلس، ولكنها ارتكبت كارثة حقيقية في ترجمة أسماء الأعلام والأماكن، وأحيانا يرد الاسم في الصفحة نفسها بصيغتين مختلفتين. هل هو كتاب ينذر بالعاصفة قبل هبوبها؟ كما يقول الناشر، أم أن موعد فلسطين مع الرياح التي تطهر الأرض، ما زال مؤجلا، أو مستحيلا؟.