التهدئة بين قطاع غزة وإسرائيل.. آفاقها وفرص نجاحها
2018-09-08
ين حركة حماس والاحتلال الإسرائيلي، فإنّ للترتيبات الجديدة لعقد تهدئة/ هدنة أهمية خاصة يفرضها السياق الجاري، ولا سيّما مع استمرار مسيرات العودة على الحدود في قطاع غزة، وتعثّر جهود المصالحة، وتصاعد التوتر في العلاقات الداخلية الوطنية، وإقدام الإدارة الأمريكية على خطوات خطيرة في سياق ما يُدعى بـ"صفقة القرن".
ونظراً لتعقيد الوضع الراهن، وكثرة الفاعلين في هذه المسألة، وما يحفّ المنطقة والعالم من غموض استراتيجي، فإنّ الاحتمالات تتضمن جملة سيناريوهات متداخلة تنطوي كلها على مخاطرة عالية، وعلى الرغم مما يبدو من إمكانية لإنجاز تهدئة ما بالنظر إلى الموقف الأمريكي الدافع لذلك، فإنّ الواقع أكثر تعقيداً من أن يتوقف على هذا السيناريو.
لقراءة التقدير كاملًا يرجى الضغط هنا
أولاً: التهدئة والهدنة… المفهوم والتاريخ:
ثمة فارق جوهري بين المفهومين في الفكر السياسي لحركة حماس؛ ففي حين كان مفهوم الهدنة أسبق في خطابها السياسي، إلا أن التهدئة هي التي طُبّقت بالفعل عدة مرات منذ انتفاضة الأقصى، وذلك لاقتصار مفهوم التهدئة على وقف إطلاق النار الذي قد يُصحب بتفاهمات جزئية محدودة، بينما يأتي مفهوم الهدنة تعبيراً عن تسويات أكبر وأشمل.
جاء الحديث عن هدنة، تتضمن وقف العمل المسلح ضدّ الاحتلال مدة من السنوات مقابل الانسحاب الإسرائيلي من الضفة الغربية وغزة، عدة مرات في خطاب حماس السياسي، منذ مطلع تسعينيات القرن العشرين، كان من نسخها المبكرة تصريحات للشيخ أحمد ياسين سنة 1993، ومبادرة لمكتبها السياسي في نيسان/ أبريل 1994، وإذا كانت بعض تلك التصريحات أو المبادرات لا تتضمن لفظ "الهدنة"، فإنّ صياغاتها كلها دارت حول مضامينها، وقد كُرّس هذا المفهوم بتضمين معانيه في وثيقة حماس السياسية الأخيرة.
أما التهدئة فهي تعني وقفاً متبادلاً لإطلاق النار، وقد يشمل هذا الوقف التراجع عن إجراءات عدائية مستجدة كإغلاق المعابر، وقد يُعدّ مقدمة للتمهيد لتفاهمات أوسع. طُبّقت التهدئة عدة مرات، كما في سنة 2002 في أثناء انتفاضة الأقصى، وفي سنة 2005 بطلب من الرئيس عباس، واستعداداً للانتخابات التشريعية.
تكررت التهدئة، بعد ذلك منذ الانقسام الفلسطيني، بعد كل جولة من المواجهة بين الاحتلال والمقاومة في قطاع غزة، وغالباً ما كانت التهدئة في مثل هذه الأحوال، حصيلة وساطات معلنة أو سرية، أو نتيجة تفاهمات ضمنية حينما يتوقف أحد الطرفين عن إطلاق النار فيبادله الطرف الآخر بالمثل.
أطول مدَد التهدئة المتفق عليها، تلك التي جاءت بوساطة مصرية، واشتركت فيها جميع الفصائل الفلسطينية، بعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة سنة 2014، وكان يفترض أن تمهّد لتفاهمات أوسع تفضي إلى رفع الحصار عن قطاع غزة، وهو ما لم يتم.
جرى لاحقاً الدمج بين المفهومين، في عدة مبادرات وتصورات، كان آخرها بعض ما طرح في مبادرة القاهرة الأخيرة، وذلك باقتراح مدة زمنية طويلة لوقف إطلاق النار تمتد لعدة سنوات، وبهذا فالتهدئة تصبح مسقوفة بسقف زمني مسبق، وتأخذ من الهدنة صفة المدة الطويلة، دون أن تأخذ منها بقية سماتها وشروطها الأخرى، وفي أقصى الأحوال فإنّها ترتبط بحل خاص بقطاع غزة، وهو ما يثير السجال والتجاذبات والمخاوف في الساحة الفلسطينية، لا سيّما في ظلّ الانقسام الفلسطيني، والمساعي الأمريكية لتصفية القضية الفلسطينية على مقاس اليمين الإسرائيلي الحاكم.
ثانياً: في السياقات الراهنة:
قُدّمت عدة مبادرات تدمج ما بين الهدنة والتهدئة ولا تشترط المطالبة بتسليم سلاح المقاومة، أو الاعتراف بـ"إسرائيل"؛ من أبرزها مبادرة توني بلير Tony Blair، بالإضافة لمبادرات أخرى يجرى الحديث عنها أخيراً، كالمبادرة القطرية، ومبادرة نيكولاي ملادينوف Nikolay Mladenov، مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى الشرق الأوسط. هذه المبادرات ومع أنّها تُعنى حصراً بقطاع غزة، وتتضمن اعترافاً ضمنياً بحركة حماس، إلا أن حماس تفضّل حلّ أزمة القطاع في إطار المصالحة.
في هذا المسعى وقّعت حماس مع حركة فتح اتفاق الشاطئ في نيسان/ أبريل 2014، وبعد فشل الاتفاق وفرض السلطة إجراءات عقابية على قطاع غزة، استضافت القاهرة تفاهمات جديدة بين الحركتين في تشرين الأول/ أكتوبر 2017، وهي التفاهمات التي تعثّرت بعد ذلك، بعد حادثة استهداف موكب رئيس الوزراء رامي الحمد الله في غزة.
بعد عداء واضح واجهت به القاهرة حركة حماس منذ قدوم الرئيس السيسي، جاء هذا الانفتاح المفاجئ، وإذا كانت حماس معنية بالاستفادة من أي نافذة تفتح في ظلّ الحصار القائم وتردّي الظروف الإقليمية المحيطة بالحركة، فإن حركة فتح أبدت تحفظاً كبيراً تجاه الجهود المصرية.
ما عُرف لاحقاً بـ"صفقة القرن"، أو "خطة ترامب"، والتي اتضح أنها تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية وفق الرؤية الإسرائيلية، دفع للاعتقاد بأنّ الدور المصري سواء في المصالحة أم في تفاهمات التهدئة/ الهدنة غير مستقل تماماً في أهدافه، وبهذا تتعدد الأطراف المعنية بالمسألة.
أخيراً ومن بعد تعثّر المصالحة، وتصاعد الحصار، دفعت حماس، وبالمشاركة مع الفعاليات التنظيمية والشعبية، نحو أشكال جديدة من النضال، تمثلت في مسيرة العودة وما رافقها من أدوات بسيطة كالطائرات والبالونات الحارقة. أزعج ذلك الاحتلال وحدّ من قدرته العملية والدعائية في مواجهة الجماهير في قطاع غزة، لكن ذلك لم يكن ليمنع الحرب التي لا يريدها أحد، فقد تجددت المواجهات المسلحة بين الاحتلال والمقاومة أكثر من مرة في الشهور الأخيرة، وفي هذا السياق بدأت القاهرة مساعيها من جديد لإبرام تهدئة بالاستناد إلى المصالحة أو بدونها في حال تعذّرها.
ثالثاً: دوافع الأطراف المتعددة:
سعت حركة حماس لرفع الحصار عن قطاع غزة أو تخفيفه مع الحفاظ على مكاسبها، في إطار مصالحة وطنية، إلا أنها بدت مضطرة للتعاطي مع المبادرات الجارية بالنظر إلى تعنت قيادة حركة فتح، التي تشترط “التمكين” الكامل لحكومة الرئيس عباس في غزة لإتمام المصالحة، ودون ذلك فإنّها ترفض أي تهدئة تجري بين حماس والاحتلال خارج إطار السلطة.
أما "إسرائيل" فتضع في حسبانها، الأرق الذي تسببه لها مسيرات العودة، واحتمالات المواجهة القائمة على حدود القطاع دون أفق واضح لما بعد هذه المواجهة، والسيولة الإقليمية، وجبهة الشمال، بالإضافة لاعتبارات أخرى تحكم التوجه الإسرائيلي؛ منها المزايدات المستمرة بين صناع السياسة في "إسرائيل"، وجنودها الأسرى لدى حماس، والتوظيف السياسي الأمثل لأي تهدئة بما يخدم خطتها الكلية للصراع.
بالنسبة للإدارة الأمريكية فإنّها تبدي اهتماماً واضحاً بقطاع غزة، كما في تصريحات جيسون غرينبلات Jason Greenblatt مبعوث دونالد ترامب Donald Trump لشؤون المفاوضات الدولية، والتي قال فيها إن رئيسه يدعم جهود السيسي للتوصل إلى تهدئة في غزة، وهاجم في السياق نفسه قيادة السلطة الفلسطينية التي تُعطّل هذه المساعي، ملمّحاً إلى إمكانية استبدالها.
يبدو من الصعب تفسير سلوك النظام المصري، بعيداً عن التوجهات الأمريكية، بالإضافة لمصالحه الخاصة في حال أنجزت تفاهمات التهدئة/ الهدنة، ومنها حسابات أمنه القومي، وضمان مكانته الإقليمية، وتحقيق مصالحه السياسية والاقتصادية والأمنية في قطاع غزة، وقطع الطريق على بعض خصومه الإقليميين كقطر وتركيا، مع تفضيله أن يجرى ذلك تحت مظلّة السلطة التي تمثّل النظام الرسمي العربي.
رابعاً: السيناريوهات المحتملة:
تعقيدات الوضع الراهن، وتعدد الأطراف الفاعلة وتناقض مصالحها، يستدعي عدة سيناريوهات:
1. ربط التهدئة بإنجاز المصالحة، وهو وإن كان شرطاً لحركة فتح، إلا أنّها ما زالت تتشدد في شروطها للمصالحة، وفي حال قُدّمت المصالحة على مباحثات التهدئة، فقد تنجح السلطة في مناورتها بقطع الطريق على حركة حماس في إنجاز اتفاقية تهدئة، دون أن تتحقق المصالحة على الأرض، وهذا السيناريو غير بعيد بحكم امتلاك السلطة لمفاتيح أساسية في الساحة الفلسطينية، وتحررها نسبياً من الضغوط المصرية، ولمراهنتها على دورها الأمني.
2. إنجاز اتفاقية تهدئة محدودة، تتضمن فتح المعابر وتوسيع مساحة الصيد في شواطئ غزة، وغير مسقوفة بسقف زمني، تعود إلى تفاهمات 2014، وقد تَعِد بإمكانية التفاهم على ملفات أخرى لاحقاً متعلقة برفع الحصار، أو الجنود الأسرى، وهذا السيناريو لا يتعارض مع السيناريو السابق، فقد يستند إلى تفاهمات مصالحة جديدة يُتفق عليها في القاهرة، وقد ينفصل عنها في حال تعذّرت المصالحة.
3. اتفاقية تهدئة/ هدنة طويلة، تبدأ بخطوات متدرجة، تَعِد بممر مائي عبر قبرص، أو غير ذلك من المقترحات، لكن وعلى الرغم من التحليل الذي يرى أن هذا السيناريو هو المفضّل لدى إدارة ترامب، لكنه مستبعد، أو ينطوي على احتمالات انهيار كبيرة، لجملة أسباب، أهمها عدم وجود ضمانات لتحقيق مطالب الفلسطينيين في حدها الأقصى وهو رفع الحصار الكامل، ولأن "إسرائيل" وحلفاءها ليسوا مضطرين لدعم طرف فلسطيني يعدّونه عدواً لهم، ولأنّ الاتفاق هشّ وعرضة للانهيار لأدنى سبب، ويُضاف إلى ذلك موقف السلطة المعطّل، ورفض بعض الفصائل، كالجبهة الشعبية.
4. العودة إلى النقطة صفر، أي تهدئة هشّة غير متفق عليها، ودون إنجاز المصالحة، وهو الأمر القائم الآن، وهذا الأمر القائم يجعل الحرب قريبة، مهما بدت غير مرغوبة من الجميع.
خامساً: التوصيات:
1. أن تكون التهدئة بالتوافق بين قوى المقاومة.
2. أن تقوم السلطة في رام الله برفع كافة أشكال العقوبات عن قطاع غزة، لتوجد الأجواء المناسبة لتوافق وطني بشأن التهدئة والمصالحة وإنهاء الحصار عن القطاع.
3. أن تواصل قوى المقاومة مقاومتها لمحاولات تطويع قطاع غزة، وعزله وفصله عن باقي فلسطين، وتدير فرصة تخفيف الحصار بالمزيد من الحذر من أي مؤامرات تستهدف القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني.
4. إن استلام السلطة في رام الله للسلطة في القطاع يجب أن يكون على أساس اتفاق المصالحة لسنة 2011، وعلى أساس الشراكة الوطنية، ودون مساس بسلاح المقاومة.