الدورة الثلاثون للمركزي: خارج الزمان والمكان -معتصم حمادة
2018-10-31
■ لم يخالف المجلس المركزي، في دورته الثلاثين، توقعات المراقبين الذين راهنوا على أن هذه الدورة، لن تصدر عنها قرارات جديدة، وأن سقف ما يمكن أن تصل إليه، هو تكرار القرارات السابقة التي كان المجلس قد اتخذها في 5/3/2015، وأعاد التأكيد عليها في 15/1/2018 وطورها المجلس الوطني في 30/4/2018. لكنها كلها بقيت معلقة في الفضاء، مشردة بين لجنة وأخرى، وبين دورة وأخرى، في لعبة من «ألاعيب» المطبخ السياسي الذي مازال يتهرب من استحقاقات تنفيذ هذه القرارات، ومازال متمسكاً بما بات يسمى «رؤية الرئيس»، الداعية الى استئناف المفاوضات الثنائية مع الجانب الإسرائيلي، وفقاً لقضايا الحل الدائم، كما أقرها اتفاق أوسلو. ولعل رئيس السلطة الفلسطينية، كان شديد الوضوح في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 7/9/2018، حين أكد استعداده للعودة فوراً الى المفاوضات مع نتنياهو، أعلنية كانت أم سرية. وبالتالي عندما يعلن أصحاب الدورة الـ30 أن المجلس قرر، (والأصح أنه كرر) تعليق الإعتراف بدولة إسرائيل، ووقف التنسيق الأمني معها، والإنفكاك عن الإقتصاد الإسرائيلي، فإنه يؤكد، بما لا يقبل الحد الأدنى من الشك، أنه مجلس يعيش خارج الزمان، وخارج المكان.
* * *
• فقد سبق انعقاد المجلس حملة إعلامية بشرت بأنه سيتخذ قرارات حاسمة وخطيرة، أكد ذلك رئيس السلطة في كلمته الإفتتاحية، داعياً أعضاء المجلس الى وضع أيديهم على قلوبهم (على حد قوله). ليتبين زيف كل هذا الكلام، وأن ما صدر عنه لم يكن سوى تكرار لما سبق. وقد علق المراقبون على ذلك بأنهم لم يكونوا يتوقعون أكثر مما صدر. فلو كانت النية جدية حقاً للذهاب نحو القرارات الخطيرة، لتوجب التحضير لهذا الأمر عبر حوارات وطنية مع الطيف السياسي الفلسطيني كله، وتخفيض التوتر مع حماس (وليس التهديد بإجراءات «حاسمة» قد يكون من بينها إعلان قطاع غزة اقليماً متمرداً).. وكلنا يذكر جولات الحوار الوطني التي سبقت قرار إعلان الإستقلال وباقي قرارات المجلس الوطني في 15/11/1988. شكلت هذه الدورة نموذجاً حقيقياً لما يمكن أن يسفر عنه التوافق الوطني. وهو عكس ما سبق الدورة الـ30 تماماً: إنقسام حاد يهدد بالتحول الى إنفصال. توترات وخلافات واسعة داخل م.ت.ف. وإعلانات مقاطعة من قبل الجهتين الديمقراطية والشعبية، وحركة المبادرة الوطنية وشخصيات وطنية مستقلة، وتجاهل دعوة الجبهة الشعبية ــ القيادة العامة، ومنظمة الصاعقة، ورمي «الحرم الكنسي» على حركتي حماس والجهاد. وهكذا أشارت المقدمات الى النتائج التي أسفرت عنها دورة المجلس.
• قضية أخرى أشارت الى حالة الإنفصال التي عاشها المجلس في دورته الثلاثين: ضعف إحساسه بالمسؤولية الوطنية حين تجاهل غياب القوى المذكورة أعلاه، وشخصيات وطنية، من القطاع والضفة، مكتفياً بالإشارة الى «غياب البعض». وبما لا يليق بالقيادة الرسمية أن توصف القوى الحليفة في الحركة الوطنية الفلسطينية أنها «البعض»، علماً أن هذا «البعض» الذي لم يجرؤ المجلس على تسميته، يشكل غالبية سياسية، عددية، وفكرية اذا ما قورن بالحاضرين (بعيداً عن لعبة النصاب العددي الذي توفره على الدوام للقيادة الرسمية سياسة الفك والتركيب في تشكيل الهيئات، وتزوير الحقائق، بحيث يصبح أعضاء في المجلس الثوري لفتح، أعضاء «مستقلين» في المجلس المركزي). ومع ذلك، لم يستطع رئيس السلطة أن يتمالك أعصابه، فاستهل كلمته الإفتتاحية بالإشارة الى غياب ما يقارب ثلث أعضاء المجلس، وهم في معظمهم لا يمثلون أنفسهم كأفراد (على غرار بعض «المستقلين» الذين نبشتهم القيادة الرسمية من عالم النسيان وجاءت بهم الى المجلس) بل يمثلون قوى وفصائل سياسية فاعلة وأساسية، وذات وزن، يدرك الجميع دورها في رسم القرار السياسي، ودورها في ميدان الفعل. ولولا هذا الإدراك العميق لمعاني الغياب والمقاطعة، لما فعل رئيس السلطة ما فعل، ولما ذهب به الإنفلات الى فقدان السيطرة على «اللغة» بحيث وصف من غابوا بأنه «عار»!
• أما النكتة السياسية التي وردت في الخطاب فهو الإدعاء بأن النظام السياسي الفلسطيني (على وضعه الحالي المنزلق نحو التفرد والإستفراد) هو الأرقى ديمقراطياً في المنطقة، تحت شعار «قل ما تشاء ولا تخف.. لكن دعني أفعل ما أشاء ولا أكترث لما تقوله». فالديمقراطية هنا، أن يكون لك الحق في القول، أما الحق كل الحق، في اتخاذ القرار، أو تنفيذه، أو تعطيله، «فللمطبخ السياسي» الذي نصب نفسه بديلاً للهيئات والمؤسسات الوطنية، وسطا على القرار الوطني، وتلاعب في تفسيره، وحجزه خلف جدران سميكة، مطلقاً بدلاً منه مابات يسمى «رؤية الرئيس» كإستراتيجية سياسية للحالة الفلسطينية، «شاء من شاء، وأبى من أبى».
• لذلك، على سبيل المثال، نقرأ في البيان الختامي، الكلام وعكسه: يدعو «لمؤتمر دولي»ىبتوصيف حافل بالثغرات، وفي الوقت نفسه يؤكد تمسكه «برؤية الرئيس»، أي مفاوضات قضايا الحل الدائم، كما وردت في إتفاق أوسلو. «وما يتم الإتفاق عليه هو التطبيق العملي لقرارات الشرعية الدولية». وليس «الوصول الى حل بموجب قرارات الشرعية الدولية» كما فسرتها اللجان القانونية للأمم المتحدة، وكما تنص على مضمونها القوانين الدولية. يدعو لتطبيق القرار 194، ثم يؤكد تمسكه «بمبادرة السلام العربية» والتي يعرف الجميع أنها أسقطت أية إشارة لحق العودة الى الديار والممتلكات. كما يعرف الجميع أن الرئيس عباس أعلن أكثر من مرة تمسكه بالقرار 194 « لأنه يكفل للاجئين حق التعويض». كما يدعو الدول العربية الى وقف كل أشكال التطبيع مع الجانب الإسرائيلي، وفي الوقت نفسه يصمت عن زيارة نتنياهو الى مسقط، بينما تتجاهل وكالة «وفا» البيان المنسوب لفتح، الذي أدان الإنفتاح الخليجي على دولة إسرائيل في الميادين السياسية والثقافية والرياضية. أي التطبيع من الأسفل، أي على الصعيد الشعبي، وهو أخطر أنواع التطبيع. ثم يؤكد على حرية الرأي، والحقوق الديمقراطية، ويتجاهل كيف أن وكالة «وفا» و«فضائية فلسطين»، كأدوات إعلامية، باتت أداة بيد لون سياسي واحد، تتجاهل بيانات قوى المعارضة الفلسطينية، وتصريحات قادتها، منهم على سبيل المثال تيسير خالد، رغم أنه عضو في اللجنة التنفيذية، ومنتخب من المجلس الوطني الفلسطيني.
* * *
واهم إلى حد كبير من كان يعتقد أن من شأن هذه السياسة أن تقود الحالة الوطنية إلى بر الأمان في هذا الزمن العاصف.
وواهم إلى حد كبير من كان يعتقد أن سياسة المناورات، والرهانات، كفيلة بتغيير الظروف لإخراج القضية الوطنية من المأزق الذي أدخلتها فيه سياسات القيادة الرسمية من أوسلو، وحتى الرهان على «صفقة العصر».
وواهم إلى حد كبير من يعتقد أن اللجوء إلى قنوات خلفية، على غرار مسقط، والذهاب مرة أخرى إلى مفاوضات غير مباشرة مع الجانب الاسرائيلي، وسرية (كما دعا لها الرئيس عباس في الأمم المتحدة) قد تنتشل القيادة الرسمية والقضية الوطنية من أزمتها.
وواهم إلى حد كبير من يعتقد أن تقديم قضية الانقسام، والخلافات الداخلية وإثارتها بهذا الشكل النافر، وإلصاق التهم بالمعارضين، من شأنه أن يعتم على سياسة الرهانات الفاشلة وسياسة تعطيل قرارات التصدي الميداني «لصفقة العصر» وللسياسات التصفوية لحكومة نتنياهو.
مرة أخرى، ودون أي ملل: العودة إلى الحوار الوطني، والعودة إلى تصحيح أسس الائتلاف الوطني. والعودة إلى الشراكة الوطنية. والتخلي عن سياسات الاستفراد والاستئثار وإقصاء الآخرين. والعودة إلى سياسة إعادة الاعتبار للمؤسسة الوطنية، واحترام مسؤولياتها، كإطار للعمل الوطني المشترك هو السبيل إلى شق الطريق أمام المسيرة الوطنية.
ولعل فشل ربع قرن من الرهان على الأوهام، كما قدمها اتفاق أوسلو، خير دليل على ذلك.■