:مصدر المقال
https://ajalia.com/article/17264

ما هو الأفق السياسي لإتفاق «التهدئة»؟

2018-11-15

ما جرى في قطاع غزة، من عدوان إسرائيلي دموي، اخترق أجواء الارتخاء السياسي من تهدئة و«حلول إنسانية» لمشاكل غزة الاجتماعية، يؤكد أن «التهدئة» لن تفك الحصار عن القطاع، فإسرائيل تفرض هذا الحصار لأن القطاع هو ميدان المقاومة الفلسطينية، التي تصفها إسرائيل بالإرهاب. وإن إسرائيل سوف تبقى تنظر إلى القطاع باعتباره مصدر خطر، ولن تتوقف عن أعمالها العدوانية ضده، لأنه بات أرضاً للمقاومة في أشكالها وتعبيراتها المختلفة عسكرياً، وأمنياً، وثقافياً، وتربوياً واجتماعيا.
وهذا ما يقودنا إلى السؤال عن الأسباب الحقيقية لموافقة إسرائيل على «الحلول الإنسانية» لقطاع غزة، بما في ذلك إدخال الأموال القطرية عبر بوابة مطار اللد، تحت الإشراف والرقابة الإسرائيلية المباشرة، ووضع خطة صرف لهذه الأموال، تم التوافق عليها بين الجانبيين القطري والإسرائيلي، بحيث يكون لحكومة نتنياهو حق الفيتو ضد الصرف لبعض الأشخاص، وبعض القطاعات الاجتماعية، بذريعة منع تهريب الأموال القطرية إلى «الإرهاب» الفلسطيني. علماً أن إسرائيل تدرك جيداً أن الطرف المشرف ميدانياً على إدارة هذه الأموال، هي حركة حماس، وأطراف أخرى في المقاومة، وهي كلها، ووقفاً لتصنيف الإسرائيلي، قوى «إرهابية».
(2)

هذا التطور الخطير الذي يشهده القطاع يعيدنا إلى السؤال المحوري: هل ما يعانيه القطاع، حقاً، هي قضايا ومشاكل اجتماعية؟ وهل ما هو مطروح، في إطار «التهدئة» من حلول، يندرج أيضاً في «الحلول الإنسانية»؟ وللرد على هذين السؤالين يمكن أن نقول ما يلي:
• لا شك في أن ما يعانيه القطاع، كلها قضايا إنسانية. فالبطالة والظلام، والجوع، ومخاطر تدهور الشروط البيئية، وتراجع الخدمات الصحية، وتراجع المشاريع الاقتصادية، حتى إنها تكاد تصاب بالموت السريري، وحالة الاكتئاب التي باتت مرضاً منتشراً في أنحاء القطاع، والإحساس العميق بالظلم، هذه كلها قضايا إنسانية لا شك في ذلك.
• ومما لا شك فيه أيضاً أن هذه القضايا الإنسانية لها وجه آخر، هو الوجه السياسي: فكل ما يعانيه القطاع من «مشاكل إنسانية»، هو نتاج لحالة سياسية أسبابها: الحصار الإسرائيلي المفروض على القطاع منذ أكثر من عشرات سنوات، وقبله كان تحت الحصار «المقنّع» من خلال امتلاك الاحتلال حق رسم سقف لكمية للمواد الغذائية المستوردة عبر المعابر، والتمييز بين «المواد الإنسانية» والمواد ذات الاستعمال المزدوج، بما في ذلك خشب البناء والصناعة الخشبية، بذريعة أنه يستعمل في حفر وبناء الاتفاق. زاد من تعقيد هذا الأمر إجراءات السلطة الفلسطينية في اقتطاع الأموال العائدة للموظفين العموميين، وبعض الموازنات الملحة، كالمستشفيات وغيرها. كما زاد من تعقيدات الأوضاع التوتر الذي شهده القطاع مع الجوار المصري، بفعل الأوضاع في سيناء، ما أدى إلى نظام معين لمعبر رفح، كانت له نتائجه السلبية على حركة المسافرين، بين فترة وأخرى. وبالتالي ـــــ وهو أمر لا شك فيه ـــــ فإن حل القضايا الإنسانية الذي تم التوصل إليه إنما جاء في سياق سياسي، لعبت أطراف فلسطينية وإقليمية، وإسرائيلية دوراً فيه، إلى أن تمت بلورة إجراءاته، التي جرى الترويج لها، باعتبارها «حلولاً إنسانية».
(3)
هل يحتاج القطاع إلى «حلول إنسانية»، أم أن الأمر ليس إلا تغليفاً لاتفاق سياسي؟
بالتأكيد يحتاج القطاع إلى حلول إنسانية، حتى ولو يكن هناك حصار أمني وعسكري واقتصادي إسرائيلي. إذ هناك قضايا يحتاجها القطاع لا دخل للسياسة فيها، كافتقاره إلى الماء النظيف، أو خلاصه من مخاطر الاكتظاظ السكاني، أو افتقاره إلى المواد الأولية التي يمكن أن تشكل أساساً لبنية إنتاجية، أو ضيق مساحته الزراعية وغيرها من القضايا. وبالتالي، جاءت هذه «الحلول الإنسانية» لتستجيب لواقع اجتماعي شديد التعقيد لا يمكن لأحد إنكاره.
لكن ما لا يمكن إنكاره أيضاً، أن هذه «الحلول الإنسانية»، والتي الجزء الأكبر منها، نتاج لحالة سياسية، إنما هي حلول لها وجهها الآخر غير الإنساني، أي الوجه السياسي. إذ ما الذي يدفع إسرائيل، على سبيل المثال، للدخول في «حلول إنسانية» لصالح القطاع، وهو ضحية حصارها وعدوانها الدموي؟ وما الذي يدعو دولة كقطر للمساهمة مالياً في هذه الحلول الإنسانية ودفع عشرات آلاف الدولارات، لتشغيل محطات توليد الكهرباء، ودفع رواتب الموظفين، وإمداد القطاع بالمواد التموينية؟ وما الذي يدفع الاتحاد الأوروبي للدخول على الخط، وإبلاغ الرئيس عباس بأن «الحل الانساني» يسير قدماً، وأن عليه ألا يعطله ولو أدى ذلك إلى الاقتطاع من أموال المقاصة العائدة للسلطة الفلسطينية؟ والسؤال نفسه ينطبق على ممثل الأمم المتحدة الذي رد على احتمالات قطع تمويل السلطة عن القطاع بصرخته المعروفة: لن نتخلى عن القطاع.
الأسباب ليست مجهولة وهي:
• أن القطاع أرض للمقاومة: وقد ثبت أن العدوان الاسرائيلي فشل في إخماد المقاومة، وأن كل الحديث عن اجتياح إسرائيلي للقطاع لتدمير البنية التحتية للمقاومة، تبين أنه كلام خيالي. وحتى ولو تم إخراج المقاومة من القطاع في بواخر غربية إلى مكان آخر، على غرار ما جرى في بيروت عام 1982، فإن المقاومة (حيث الشعب) سوف تستعيد نهوضها ودورها. والتاريخ والتجارب يؤكدان ذلك.
• أن القطاع مهدد بالانفجار الاجتماعي والأمني، خاصة وأن مسيرات العودة وكسر الحصار شكلت صداعاً دائماً لإسرائيل، وللأوضاع في المنطقة. وكان ولايزال ممكناً أن يشكل حادث معين سبباً لانفجار غير محسوب النتائج، تكون له تداعياته على الجوار العربي والاقليمي، إن على الصعيد السياسي أو على الصعيد الشعبي.
• أن احتمالات المصالحة بين فتح وحماس، مازالت بعيدة، ولم تتوفر شروطها بعد، وبالتالي فإن الرهان على دور المصالحة في معالجة أوضاع القطاع، بات رهاناً غير واقعي. من هنا، كانت «الحلول الانسانية» فيه، في الإطار الذي أشرنا إليه.
(4)

هل هناك إمكانية لخروج «الحلول الانسانية» عن مسارها لتدخل مساراً سياسياً ذا اتجاه معين يخالف المنحى الوطني العام للحالة الفلسطينية؟
مما لاشك فيه أن ثمة عقولاً سياسية تنزلق في بعض الأحيان نحو منزلق تعتقده محدوداً، لتجد نفسها بعد ذلك أمام سلسلة منزلقات خطيرة، لا تعرف كيف تتوقف عندها، ولا كيف تتراجع عنها أو تمحو نتائجها الضارة بل والمدمرة أحياناً. ولعل أوسلو، والانقسام نموذجان فاقعان في هذا السياق.
بالمقابل هناك كوابح وضوابط، من شأنها أن تضبط المسار كي يبقى في توازنه، بين الدخول في مغامرة «الحلول الانسانية»، وضبط الحركة والتحرك، في حدود لا يتجاوزانها.
من هذه الكوابح وجود المقاومة كخيار سياسي يشق طريقه في قطاع غزة، أو في الضفة الفلسطينية، رغم معاندة المطبخ السياسي وتعطيله عملية النهوض الشعبي.
كذلك من هذه الكوابح حالة وطنية لا تقبل بالنزول عن خطوط الحد الأدنى (الاستقلال والسيادة) وتمارس مقاومة لكل المشاريع البديلة.
كذلك هناك كوابح إقليمية تخشى من أية حلول ترتد عليها بسلبياتها السياسية والديمغرافية والأمنية والاقتصادية.
الضابط الأهم في هذا كله، هو العمل الجاد على إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الداخلية. ولعل الدور المصري سيواصل تحركه، بعد الوصول إلى تفاهمات التهدئة، لتعزيز الحالة الفلسطينية، بالعودة إلى تفاهمات إنهاء الانقسام، وهذا ما يتوجب عمله، وتوفير الأساس السياسي لإنجاحه.