..آفاق الحالة الفلسطينية.. وأزمتها (2)
2019-01-26
(1)
■توقف الكثيرون أمام قرار الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين مقاطعة دورتي المجلس المركزي في م.ت.ف، الـ 29 و الـ 30. وتساءلوا لماذا؟ خاصة وأن الجبهة، كانت صاحبة شعار «إصلاح م.ت.ف. يكون من داخل المؤسسات، وليس من خارجها». وكانت تدعو للنضال، داخل اللجنة التنفيذية، والمجلس المركزي، والمجلس الوطني، من أجل التغيير دون مقاطعة للمؤسسات الوطنية. الآن، خطت الجبهة خطوة جديدة. لماذا؟ للرد على السؤال، يمكن الإجابة بما يلي. وهي إجابة تحاول أن تعكس رؤية الجبهة للأزمة السياسية والتنظيمية التي تعيشها المؤسسة الوطنية الفلسطينية الجامعة. في م.ت.ف. وفي السلطة الفلسطينية معاً.
ترى الجبهة، وعارضت مطولاً، من داخل المؤسسة، أن العلاقة بين السلطة الفلسطينية وبين م.ت.ف، اختلت كثيراً لصالح السلطة. وأن مؤسسات المنظمة بدأت تذوب في مؤسسات السلطة، مثل دوائر اللجنة التنفيذية التي حلّت وأحيلت صلاحياتها إلى وزارات حكومة السلطة، وهي دوائر ذات ولاية أوسع من ولاية السلطة الفلسطينية، تشمل المساحة الكونية التي ينتشر فيها الشعب الفلسطيني داخل المناطق الفلسطينية وخارجها. وبالتالي هذه الخطوة ليست مجرد خطوة إدارية، بل هي خطوة سياسية من الطراز الأول، لا تقود إلى تهميش م.ت.ف، وحدها فحسب، بل وكذلك إلى تهميش «الخارج الفلسطيني» الذي يبلغ تعداده أكثر من 7 ملايين فلسطيني، بدأوا يعقدون صلتهم بالمؤسسة الوطنية الفلسطينية، خاصة في ظل جمود الإتحادات الشعبية وإنقطاع الصلة بين أماناتها العامة في الداخل وفروعها في الخارج، وكثير منها معلق منذ عقود، كالإتحاد العام لطلبة فلسطين، الذي انقضى على إنعقاد آخر مؤتمر عام له 29 عاماً كحد أدنى.
كما ترى الجبهة في السياق نفسه، أن ثمة ميلاً لدى القيادة السياسية الرسمية، لتهميش اللجنة التنفيذية، بوسائل وأساليب أخرى. منها على سبيل المثال، (يوم كانت تنعقد في أوقات متقاربة) تحويلها إلى هيئة إستشارية تغوص في النقاشات، وتتناول ملفات عدة، دون أن تتخذ قراراً واحداً، ويبقى القرار متروكاً للمطبخ السياسي وحده. ثم، وبعد المجلس الوطني الأخير (30/4/2018)، جرى «ترسيم» اللجنة التنفيذية «هيئة تشاورية»، اسماً وعملاً، إذ باتت إجتماعاتها تعقد برئاسة أمين السر صائب عريقات. ولا تملك صلاحية التقرير، بل باتت إجتماعاتها تسمى «إجتماعات تشاورية»، تنقل مشاوراتها، عبر أمين السر إلى رئيسها، أي الرئيس محمود عباس، الذي بات يقرر الأمور بالمراسيم الرئاسية بديلاً للتوافقات الوطنية، التي كانت فما مضى أساس اتخاذ القرار في المؤسسة الوطنية. وبالتالي فقدت اللجنة التنفيذية دورها القيادي بإعتبارها القيادة اليومية للشعب الفلسطيني، وأحيلت صلاحياتها، بفعل سياسة الإنفراد والتفرد، إلى «المطبخ السياسي»، يقرر منفرداً ما يراه.
(2)
المجلس المركزي، تحول هو الآخر، إلى مجرد هيئة إستشارية وتشاورية، يجتمع، في ظل تركيبة عددية مختلة لصالح تيار سياسي بعينه، لا تعكس حقيقة الواقع السياسي الفلسطيني وتوازناته، لا في الشارع، ولا في الإتحادات الشعبية وحتى حين يتخذ قراراته، فإنها تبقى معلقة ومعطلة بقرار من المطبخ السياسي. هذا ما وقع مع قرارات المجلس المركزي، في 5/3/2015، إذ بقيت قراراته، طي صفحة أوسلو، ووقف التنسيق الأمني مع الإحتلال، وفك الإرتباط بالإقتصاد الإسرائيلي، وإستنهاض المقاومة الشعبية، معطلة تماماً، وبقي أوسلو وإلتزاماته وإستحقاقاته، هو السياسة المعتمدة من قبل السلطة والمطبخ السياسي. وبقي المجلس المركزي معطلاً ثلاث سنوات كاملة، مغيباً عن دوره في «مراقبة» اللجنة التنفيذية، ومراجعة أعمالها، إلى أن انعقد تحت وطأة إعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل. وفي دورته المتأخرة عن موعدها ثلاث سنوات (15/1/2018) جدد المجلس المركزي قراراته، وأحال، بنص واضح، مسؤولية تطبيقها إلى اللجنة التنفيذية. غير أن «التنفيذية»، وفي مناورة مكشوفة من المطبخ السياسي، أحالت قرارات المجلس المركزي إلى لجنة لدراستها، ودراسة آليات تطبيقها، على أن تقدم أعمال هذه اللجنة إلى دورة للمجلس الوطني الفلسطيني تعقد في 30/4/2018.
(3)
انعقدت دورة المجلس الوطني، في الموعد المذكور ( بعد طول إنقطاع استمر منذ نيسان 1996) وناقش الأوضاع، وانفرط عقد المجتمعين بعد إنتخاب لجنة تنفيذية جديدة، كلفت (مرة أخرى) بتطبيق وتنفيذ قرارات المجلسين الوطني، ومن قبله المركزي. غير أن اللجنة التنفيذية، الجديدة ـــــ القديمة، بقيت معطلة ولم تعقد أول اجتماع لها، إلا بعد ثلاثة أشهر من انتخابها، انشغلت في توزيع وإعادة توزيع، وحل وإعادة تشكيل دوائرها، لتصل إلى نتيجة هزيلة، إذ أحيلت دوائرها الفاعلة والنشطة، وذات العلاقة مع الشارع، في الداخل والخارج، إلى وزارات السلطة الفلسطينية، وابتدعت التنفيذية لنفسها دوائر هي أشبه بالمنتديات وصالونات التأمل، ومحطات الترف الفكري، لذلك لم يلاحظ الشارع الفلسطيني أية نتيجة لأعمال الدوائر الجديدة التي مازالت بلا خطط ومشاريع عمل. أما الوزارات التي أحيلت لها صلاحيات الدوائر المنحلة، فمازالت على ماهي عليه، ولم تشهد أية تطورات أو تغييرات في خططها، تشير إلى أن شيئاً ما جديداً قد حدث.
واعتبر المجلس الوطني في دورته الأخيرة «آخر» مجلس وطني يعقد، بالصيغة الحالية، على أن تكون الدورة القادمة هي لمجلس جديد، يتم اختياره بالإنتخابات بنظام التمثيل النسبي. وهو ما دفع العديد من المراقبين، للتنبؤ أن المجلس «الجديد»، سوف يحتاج إلى زمن طويل حتى يتشكل وينعقد، خاصة في ظل محاولات وسياسات المطبخ السياسي، تهميش المؤسسات الجامعة وإقصائها.
(4)
الأمر الذي صدم الرأي العام، هو أنه في الوقت الذي كانت فيه اللجنة التي شكلتها اللجنة التنفيذية، لتقدم دراستها، ورؤيتها لتطبيق قرارات المجلس المركزي في دورتيه الأخيرتين (5/3/2015 + 10/1/2018)، حمل خطاب الرئيس عباس إلى مجلس الأمن في 20/2/2018 مشروعاً لإستعادة التفاوض تحت سقف أوسلو، أطلق عليه «رؤية الرئيس». ما أكد أن المؤسسة الوطنية الجامعة في واد، وأن المطبخ السياسي، وأن قرار القيادة الرسمية الفلسطينية في واد، وأن المطبخ السياسي يتجاهل قرارات المؤسسة الوطنية الجامعة، ويقفز عنها، منفرداً، مع ما لذلك من أثر على مفاهيم التوافق الوطني، والشراكة الوطنية ومفاهيم وأسس الإئتلاف، الذي تقوم عليه العلاقات بين أطراف م.ت.ف، وقواها السياسية. وقد تأكد ذلك مرة أخرى، في إفتتاح أعمال المجلس الوطني (30/4/2018) الذي دعي أساساً للمصادقة على قرارات المجلس المركزي في إعادة تحديد العلاقة مع الإحتلال، فوجئ الجميع أن كلمة الإفتتاح، في المجلس تضمنت دعوة لتبنى «رؤيةالرئيس»، أي العودة إلى المفاوضات تحت سقف أوسلو، بديلاً لقرارات المؤسسة الوطنية الجامعة، التي أنهت العلاقة مع أوسلو، وأعلنت التحرر من التزاماته واستحقاقاته وهو الأمر الذي قاد الكتلة البرلمانية للجبهة الديمقراطية لتقول في كلمتها إلى المجلس الوطني أن الأمور قد وصلت إلى الحافة، وكفى عبثاً بالائتلاف وأسسه، وكفى إطلاقاً للنار على الوفاق الوطني، وكفى تهميشاً للمؤسسة الوطنية الجامعة، وكفى تلاعباً بقراراتها وتعطيلاً لها.
وقد خلصت الجبهة، وفقاً لما ألحقه المطبخ السياسي من إضعاف للمؤسسة الوطنية الجامعة ومن إلحاق، وتهميش، وتعطيل لقراراتها، إلى خلاصة واضحة، ربما تصل إليها لأول مرة منذ انطلاقتها، وهي أن إصلاح أوضاع المؤسسة سياسياً وتنظيمياً، من الداخل والخارج، بات عملاً أكثر صعوبة وشبه مستحيل، وأن السبيل الفعلي والعملي للإصلاح، بات منذ الآن من خلال الحركة الشعبية وضغوطها ونضالاتها، لذلك قاطعت الجبهة دورتي المجلس المركزي الـ29 وال، 30، لأنها رأت فيها محاولة للمضي في تمييع الموقف، وتعطيل قرارات المجلس الوطني، ودورتي المجلس اللتين سبقتاه، كما رأت فيها محاولة لتوفير الغطاء السياسي لاستراتيجية البقاء في أوسلو، والاستراتيجية الانتظارية في مقاومة صفقة ترامب، وخطة نتنياهو لبناء دولة إسرائيل الكبرى. دون أن يعني ذلك أن الجبهة غادرت م.ت.ف ومجلسها المركزي أو الوطني، فاحتفظت بعضويتها في اللجنة التنفيذية وفي باقي المؤسسات الجامعة، خاصة الاتحادات الشعبية.
(5)
في الجانب السياسي، ترى الجبهة أن اتفاق أوسلو وصل إلى طريقه المسدود في مفاوضات كامب ديفيد 2(تموز/يوليو/2000) حين تفاوض الرئيس الراحل ياسر عرفات وفشل في الوصول إلى «حل دائم» مع رئيس حكومة إسرائيل إيهود باراك، بسبب التعنت الإسرائيلي ورفض الطرفين الأميركي والإسرائيلي الإعتراف بالحد الأدنى من الحقوق الوطنية الفلسطينية، في تقرير المصير والاستقلال وضمان حق العودة. وما تلا ذلك من مفاوضات وتحركات، امتدت مع ولايتي بوش الإبن وباراك أوباما، والسنة الأولى لولاية ترامب، كانت محاولات بائسة ويائسة لإحياء اتفاق مات، ومحاولات لخلق بدائل عنه، تسير في المنحى ذاته الذي سار فيه أوسلو، لذلك وصلت كل المحاولات إلى الطريق المسدود، في وقت كانت فيه سلطات الاحتلال تمهد الميدان، لتفرض رؤيتها عملياً لتسوية كما تراها هي، وكما تقود إلى بناء مشروع نتنياهو، «دولة إسرائيل الكبرى»، مقابل «حل اقتصادي» هزيل للفلسطينيين، يوفر لهم «وسائل الحياة» في ظل شروط دولة الاحتلال وهيمنتها، ويحرمهم من حقوقهم الوطنية والقومية. وهكذا سقطت مشاريع خطة الطريق، ومفاوضات أنابوليس، والمفاوضات المكوكية لجون كيري، وبقيت السلطة، ومعها المطبخ السياسي تراهن على حل إنقاذي في ظل اعتمادها وتبنيها «المفاوضات السلمية» خياراً وحيداً، للحل مع الاحتلال، وفي ظل رفضها المقاومة والانتفاضة، وإن كانت قد التفت على ذلك بالدعوة إلى «المقاومة الشعبية السلمية»، دون أن تقدم ما هو نموذج وتعريفها لهذه المقاومة. وكان واضحاً أن الإصرار على ما يسمى «بالمقاومة السلمية» كان هدفه الالتفاف على النهوض الجماهيري منذ خريف 2015، والعمل على إجهاضه تحت ذريعة «مقاومة كل أشكال الإرهاب ومن أية جهة أتت»، تم تطبيق هذا الشعار ضد المقاومة الشعبية الفلسطينية، بينما تصاعدت الأعمال العدوانية والإجرامية لعصابات المستوطنين، تحت سمع وبصر قوات الاحتلال، وبدعم وتسليح منها.
(6)
وصول إدارة ترامب، وما سبق ذلك من إعلانات عن مشروع، سوف يقدمه لحل المسألة الفلسطينية، في صفقة كاملة أطلق عليها «صفقة العصر»، حاول المطبخ السياسي أن يرى فيه جديداً، وأطلقت من رام الله دعوات تدعو ترامب لإطلاق صفقته دون تأخير، بل عقدت بينه وبين كبار المسؤولين الفلسطينيين اجتماعات صدرت بعدها تصريحات تبشر بالوصول إلى تفاهم مع ترامب على حل المسألة الفلسطينية وأن هناك تفاهمات مع الإدارة الأميركية الجديدة. وبنت رام الله الرسمية الآمال على «صفقة العصر»، إلى أن تم الكشف عن أحد عناوينها، «الإعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها»، ليتضح أنها صفقة لصالح إسرائيل وللاحتلال، وأنها «صفعة» على وجه من راهنوا عليها- على حد تعبيرهم -.
الجبهة، في أدبياتها السياسية، كانت شديدة الوضوح في قراءتها لصفقة العصر، منذ أن تم التبشير بها. حين رأت أنها «حل إقليمي» يسير على مسارين متوازيين، بخطوات متدحرجة، متلاحقة دون الإيضاح المسبق عنها. لذلك هو «حل» ليس للإعلان عنه، بل للعمل به، خطوة خطوة، وفرضه ميدانياً على الجانب الفلسطيني.
على المسار الفلسطيني – الإسرائيلي، لن يدعو ترامب (وتحالفه مع نتنياهو) إلى المفاوضات إلا بعد أن يتم تحضير المسرح السياسي والميداني، لتصبح كل الوقائع جاهزة بشكل مسبق، لفرضها على الجانب الفلسطيني: من تهويد القدس، إلى استكمال المشروع الإستعماري الإستطاني، تمهيداً للضم الكامل للمستوطنات، إلى شطب حق العودة، إلى شل وكالة الغوث، إلى محاصرة السلطة الفلسطينية مالياً لإضعافها إلى أبعد مدى، وبحيث يصل الفلسطينيون إلى المفاوضات منهكي القوى، مجردين من أي سلاح، في ظل واقع ميداني، مفروض على القدس والضفة الفلسطينية، يطوقهم من كل الجهات، بحيث لا يجدون مفراً من الإستسلام.
أما على المسار الإقليمي، فإزالة العقبات، بقوة الضغط الأميركي، لتطبيع العلاقات بين الأنظمة العربية ودول الاحتلال، تحت شعار إقامة «حلف إقليمي» في مجابهة «العدو الجديد» للحالة العربية، «إيران»، بعد ما أعيدت صياغة مفهوم «العدو»، وبحيث تكون دولة الاحتلال حليفاً في «الحلف الإقليمي»، في مواجهة ما بات يسمى، في أدبيات ومفاهيم معنى العواصم العربية «الخطر الإيراني وامتداداته في المنطقة». وهذا ما يفسر فرض العقوبات الأميركية على إيران وشعبها، وما يفسر في الوقت نفسه، الانفتاح السياسي والإقتصادي والثقافي والرياضي، لبعض عواصم الأنظمة العربية، مع دول الاحتلال.
أما نتنياهو، فلم يقف مكتوف الأيدي، والتقط تحالفه المتين مع إدارة ترامب، ومشروعها للحل الإقليمي، المسمى «صفقة العصر» (صفقة ترامب) ودفع بالكنيست لإتخاذ سلسلة قوانين من شأنها تستغل الأساس القانوني لإقامة «دولة إسرائيل الكبرى»، في مقدمة هذه القوانين، «قانون القومية» العنصري الذي حصر حق تقرير المصير باليهود فقط، وجرد الشعب الفلسطيني في كافة مناطقه، منه، في الـ 48، والـ67. وأسقط من حساباته التزاماته بإتفاق أوسلو، وشرع في تطبيق خطوات ميدانية، استعمارية استيطانية، واقتصادية، ومالية، وقانونية، لفرض وقائعه على الجانب الفلسطيني، وفقاً لأهداف «صفقة العصر»، معتبراً وجود ترامب في الإدارة الأميركية الفرصة الذهبية لإقامة «دولة إسرائيل الكبرى»، وشطب المشروع الوطني الفلسطيني، وإلحاق الهزيمة به، خاصة بعد أن بدأت أبواب بعض الأنظمة العربية والمسلمة، تفتح له، وتقيم مع حكومته اتفاقات، تقفز فيها عن قضية وحقوق الشعب الفلسطيني، التي بدأت تتراجع في حسابات البعض، من كونها قضية العرب الأولى، إلى كونها قضية الفلسطينيين وحدهم.
وبناءً على هذه الرؤية، دعت الجبهة إلى طي أوسلو، وإعادة الإعتبار للبرنامج الوطني الفلسطيني، برنامج الإنتفاضة والمقاومة الشعبية في الميدان، ومقارعة دولة الإحتلال في المحافل الدولية، ونقل القضية والحقوق الوطنية إلى الأمم المتحدة.