مخاطر قبول «صفقة ترامب»- هاني المصري
2019-04-30
هناك من يقول في السر: لماذا لا نقبل "صفقة ترامب" - الجاري فعلًا تطبيقها على الأرض رغم أنها ليست مطروحة للتفاوض - أو نتخذ موقف "لعم" منها، أي نعم لأجزاء ولا لأجزاء أخرى، أو نراوغ ولا نعطي موقفًا بحجة الدراسة وانتظار مزيد من التوضيحات، وذلك لكي نحقق شيئًا، ولو كان السلام الاقتصادي.
لفت نظري أن هناك نسبة 14.4 بالمئة من المستطلَعين في آخر استطلاع أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، في منتصف آذار/ مارس 2019، صوتت لصالح قبول الصفقة/ المؤامرة (10.3 من الضفة الغربية، و21.2 من قطاع غزة). لذا، وجدت من الضروري مناقشة هذا الرأي وإظهار خطورته للمساهمة في منع انتشاره.
ثمة حجة رئيسيّة لأصحاب "عدم رفض الصفقة"، وهي عدم وجود بديل عنها، فشيء أفضل من لا شيء، وأن تاريخ الرفض الفلسطيني للمبادرات والحلول والقرارات الدولية لم يؤد إلى انتصار القضية، بل ساهم في وقوع النكبة واستمرارها حتى الآن.
إن الرد على هذا الطرح يكون بأن البديل يُبنى، ولا يهبط من السماء أو يصعد من باطن الأرض. والبديل يبنى إذا توفرت الرؤية والإستراتيجية والإرادة.
والإرادة متوفرة لدى الشعب، وهي العنصر الحاسم، وعليها أن تستكمل عناصر البديل الأخرى. كما يكون الرد بأن القبول بأوهام الحلول عبر المفاوضات والتسويات، خصوصًا بعد اتفاق أوسلو، أدى إلى ضياع معظم ما حققناه من بلورة الكيان والهوية والمؤسسة الجامعة التي وحدت الفلسطينيين، وجعلت قضيتهم قضية شعب يريد أن يحقق حقه في تقرير مصيره، وليست قضية إنسانية، وفضلًا عن ذلك الضياع لم يتحقق أي من أهدافنا وحقوقنا.
إذا استعرضنا الرفض الفلسطيني تاريخيًا، سنجد أن أهم ما يقال لنقده هو رفض قرار تقسيم فلسطين الذي كان يتضمن إقامة دولة على أكثر من 50 بالمئة من فلسطين، وهو قرار تم قبوله فيما بعد في وثيقة الاستقلال ومبادرة السلام الفلسطينية في العام 1988، وكذلك رفض فكرة الحكم الذاتي التي تم تداولها بين مناحيم بيغين، وأنور السادات، التي قُبِلت من حيث الجوهر فيما بعد في اتفاق أوسلو، فضلًا عن رفض "العرض السخي" الذي قدمه أيهود باراك، في قمة كامب ديفيد في العام 2000، مع أن المعروض حينذاك، لم يعد مطروحًا اليوم، بل أقل منه بكثير.
للرد على دعاة القبول يمكن القول إن في الصراعات بين الدول والشعوب المختلفة، نصوص الاتفاقات التي تعقدها فيما بينها، وخصوصًا بعد الحروب والعداء، مهمة، وكذلك مدى كونها اتفاقات جيدة أو سيئة، ولكن الأهم منه، هل تملك القوة لتطبيق الاتفاقات بما يضمن تحقيق مصالحك وأهدافك؟ أي قد توقع اتفاقًا جيدًا وأنت ضعيف، ولا تملك القوة لفرض تنفيذه، ويطبق بشكل سيئ، وقد توقع اتفاقًا سيئًا، وأنت قوي، وقوتك تضمن تطبيقه بصورة تتجاوز سوئه.
أما أسوأ شيء فأن توقع اتفاقًا سيئًا وأنت ضعيف، وبالتالي ستأتي النتائج عند التطبيق أسوأ من نص الاتفاق، وهذا ما حصل تمامًا عندما وبعدما وُقِّعَ اتفاق أوسلو، إذ كان الاتفاق سيئًا، ولم تلتزم الحكومات الإسرائيلية به، حتى في عهد حكومة إسحاق رابين، القائل بُعيد توقيع الاتفاق "لا مواعيد مقدسة"، وأنه سيعطي الفلسطينيين في الحل النهائي 50 بالمئة من الأرض المحتلة، ورد عندما قيل له بأن الفلسطينيين لن يقبلوا ذلك بقوله "فليحتفظ عندها كل طرف بما لديه".
الخلاصة مما سبق أن الخطأ لم يكن في رفض التقسيم، وإنما بما حصل بعد ذلك بقبوله، وأقل منه بكثير، حتى من دون ضمان تطبيقه. كما أن الأمر الحاسم أن تكون قويًا وموحدًا وفاعلًا، ولا ترفض من أجل الرفض، ولا تقبل من أجل القبول، وإنما تحافظ على الحقوق والمصالح الأساسية، وتحرص على تحقيق أقصى ما يمكن تحقيقه في كل مرحلة، ومنع تحقيق الأسوأ إذا لم تكن قادرًا على تحقيق الجيد أو السيئ.
إذا أخذنا قرار التقسيم، فالحركة الصهيونية لم تقبله، وإنما قبلت ما تضمنه من إقامة الدولة اليهودية، وسعت بتواطؤ بريطاني وعربي لتوسيع مساحة الدولة اليهودية لتصل إلى 78 بالمئة من مساحة فلسطين (أي أكبر بـ 20 بالمئة مما نص عليه القرار)، والدليل على ذلك أنها جهزت سلفًا خطة "دالت"، وطبّقتها متذرعة بالرفض العربي للتقسيم، ما كان يجب أن يكشف خرافة القبول الصهيوني بقرار التقسيم، ولكن كما يقال "القوي عايب".
لو وافق الفلسطينيون على قرار التقسيم لانتهت قضيتهم منذ ذلك التاريخ، ولم تبق حية طوال هذا الوقت رغم الأهوال والمؤامرات التي استهدفتها، لأنهم يكونون قد أعطوا الشرعية لكيان استعماري استيطاني عنصري على أكثر من نصف وطنهم، إضافة إلى أن قبولهم كان سيسهل تحقيق الأطماع والأحلام الصهيونية من أجل إقامة الوطن الموعود لليهود على كل فلسطين بسرعة أكبر وثمن أقل، عما حصل فيما بعد.
كما أن الفلسطينيين لم يكن لديهم قوة تمكنهم من إقامة الدولة العربية التي نص عليها القرار، بل كان هناك تواطؤ بريطاني صهيوني عربي ضدهم، فضلًا عن أنهم كانوا ضعفاء ومختلفين فيما بينهم، الأمر الذي عبر عن نفسه بضم الضفة لإمارة شرق الأردن، وفرض الوصاية المصرية على القطاع.
يكمن الخطأ في التعامل مع قرار التقسيم في أن مسألة إقامة الدولة الفلسطينية على الجزء المتضمن بالقرار طرحت متأخرة وعلى استحياء، ولم تأخذ الاهتمام الذي تستحقه، ولم تستنفد حتى الرمق الأخير، ولكن هذا شيء يختلف كثيرًا عن الموافقة على القرار وإعطاء الشرعية والعفو من الضحية للمجرم.
أما بالنسبة إلى رفض الموافقة على الحكم الذاتي المطروح إبان المفاوضات الأميركية الإسرائيلية المصرية، فالحكم الذاتي حينها لم يكن مطروحًا بصورة جدية، بل ليس أكثر من ورقة توت للتغطية على الحل الانفرادي الذي قام به السادات، ومن لا يصدق هذا عليه أن يعود إلى الوثائق والوقائع والمذكرات التي كتبها من شاركوا في الأحداث.
يمتلك دعاة القبول نقطة قوة، وهي أن القيادة الفلسطينية في "أوسلو" وافقت على ما رفضته سابقًا، وما يجب نقده هنا هو الموافقة الفلسطينية على "أوسلو" التي أعطى فيها المفاوض الفلسطيني الكثير الكثير، ولم يحصل سوى على الفتات (الاعتراف بالمنظمة، وليس بالحقوق الفلسطينية، وإقامة سلطة حكم ذاتي محدود، وعودة عدد من الفلسطينيين إلى وطنهم). ومن أخطر ما أقدمت عليه القيادة الفلسطينية الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود، وعدم اشتراط وقف الاستعمار الاستيطاني، وعدم الاتفاق على مرجعية للمفاوضات تتمثل بإنهاء الاحتلال والقانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، ما حوّل الصراع إلى نزاع على أراضي مختلف عليها، وصولًا إلى اعتبارها غير محتلة، ومن حق من حصل عليها الاحتفاظ بها.
ما يزكي حجج معارضي أوسلو والمطالبين بالتخلي عنه والتزاماته، خصوصًا بعد تخلي إسرائيل عن التزاماته فيه، أن القبول لم يؤد إلى الدولة الموعودة، ولا حتى إلى تنفيذه، بل فتحت التنازلات الفلسطينية شهية إسرائيل للمزيد من التنازلات التي أوصلتنا إلى الكارثة التي نعيش فيها الآن، والتي أصبح فيها حتى اتفاق أوسلو سيئ الصيت والسمعة بعيد المنال.
ألم يقل الملك الأردني حسين لمحمد حسنين هيكل بعد توقيع أوسلو "إن الإسرائيليين لو أرادوا إعطاء شيء لأعطوه لي"، وهو حاول جاهدًا أن يحصل على انسحاب إسرائيلي، ولو جزئي، على حدود الأردن مع فلسطين، بعد حرب تشرين 1973، أسوة بما حدث على الجبهتين المصرية والسورية، ولو على كيلو متر واحد، ولم يحصل عليها. هل كان الملك من جبهة الرفض؟
إذا انتقلنا إلى قمة كامب ديفيد العام 2000، علينا أن نتذكر أن أيهود باراك كان معارضًا لاتفاق أوسلو، وعندما أصبح رئيسًا للوزراء رفض تطبيق الالتزامات الإسرائيلية، خصوصًا تطبيق "النبضة الثالثة"، التي تعني إعادة "انتشار" القوات الاسرائيلية المحتلة من معظم الأراضي المحتلة. وقال غداة عقد القمة إنه ذاهب لإزالة القناع عن وجه ياسر عرفات، وقال بعد ذلك إنه لم يعرض سوى 85 بالمئة من الأراضي المحتلة، (وفي الحقيقة ما عرضه بعد خصم المطالب الإسرائيلية تحت عناوين مختلفة ليس سوى 69 بالمئة)، وهو عرض لن يطبق لو وافق عليه الرئيس ياسر عرفات، فالحركة الصهيونية ذات طبيعة جذرية وحاسمة وتريد كل فلسطين مع أقل عدد من السكان، ولا تبحث أو تقبل أي تسويات، ولا تفهم سوى لغة القوة. وهذا رد على من يقول يقول أنه عرض 96 بالمئة من الأرض على عرفات، ومن يدعي خلاف ذلك عليه إثبات ذلك بإبراز الوثيقة التي تضمنت عرض باراك ولن يجدها لكونها غير موجودة.
إن من أراد في قمة كامب ديفيد الاحتفاظ بالسيادة الإسرائيلية تحت الحرم ليس جديًا، ولم يعرض أي عرض سخي، فكان المطروح على عرفات التخلي عن أجزاء واسعة من القدس والضفة واللاجئين من دون ضمانة بقيام دولة فلسطينية. وهذا أمر من المستحيل قبوله.
الخلاصة: إذا لم تكن قويًا لا ينفع أن تفاوض، وإذا كنت قويًا ستحول الاتفاق السيئ إلى اتفاق جيد، أما إذا كنت ضعيفًا فستحول الاتفاق الجيد إلى سيئ، والسيئ إلى أسوأ. فنحن نعيش في عالم لا يفهم سوى لغة القوة، وهي الأقوى تأثيرًا، ثم لغة المصلحة التي تلعب دورًا مهمًا، وأخيرًا لغة العدالة والحريّة والقانون والأخلاق والمساواة وبقية القيم الإنسانية، وهي أضعف لغة، ولكن يجب التمسك بها لأنها في متناولنا، والسعي في نفس الوقت للحصول على أوراق القوة الأخرى. فليس الخطأ في رفض الفرص وتضييعها كما يقال، بل في بقائنا ضعفاء، وفي موافقتنا على ما سبق أن رفضناه بشكل أسوأ وبدون مقابل يذكر.
لو كان القبول بالخطط التي عرضت طريقًا لتحقيق الأهداف والحقوق في معادلة الصراع الجارية في المنطقة، لأعطت إسرائيل للرئيس محمود عباس، الذي ذهب بعيدًا جدًا إلى الاعتدال وتقديم التنازلات، واعتبرته إسرائيل، رغم ذلك، ليس شريكًا في السلام، ويقوم بـ"إرهاب ديبلوماسي". فإسرائيل تريد كل شيء، ولحظة بحثها عن التسويات عارضة وليست أصلية ولا مستمرة، وهي الاستثناء الذي يؤكد القاعدة، وهذا ما يجب أن يحكم تصوراتنا وخططنا وأعمالنا.