الاستبداد ـ أیقونة المقاومة وتداعیاتها- الفضل شلق
2019-05-15
هذه الأنظمة العربية لا تقاوم العدو الإسرائيلي أو الامبريالي. هي بالفعل تقاوم شعوبها. عندما واجهت الأنظمة العدو الإسرائيلي أصابتها الهزيمة. يقول البعض إن الهزيمة مفتعلة. لكن الهزيمة حولتها إلى الاستبداد وإلى مقاومة شعوبها. من أجل ذلك اتهمت شعوبها، التي قدمت كل التضحيات، بالجهل والتقاعس. أنشأت هذه الأنظمة فصائل للمقاومة واستقالت هي من هذه المهمة بعد أن منعت معظم الفصائل الجدية من القيام بمهامها، واستخدمت بقيتها كأجهزة أمنية لخدمة السلطة. الممانعة التي ترفع لواءها بعض الأنظمة فتحت الطريق أمام الاستسلام وإقامة علاقات ديبلوماسية مع العدو.
لا نستطيع النظر الى الدول العربية إلا على أنها منظومة واحدة، وإن ظهرت الخلافات بين أطرافها. هي أنظمة الهزيمة. وهي ترى في الهزيمة أساساً لبقائها. أداة بقائها جيوش وقوى أمنية تستخدمها لقمع شعوبها لا لمواجهة العدو.
مقاومة العدو، أساساً، لا تكون إلا بالسياسة وبناء الدولة على أساس السياسة والحوار والنقاش المفتوح، والنهوض الاقتصادي بالإنتاج والتعاون وحتى المنافسة الرأسمالية. مقاومة على قاعدة مجتمع متماسك تتجاوز الدولة فيه كل الانقسامات المذهبية والإثنية والطائفية، وكلها انقسامات تولد الضعف لدى المجتمع؛ تفتته وتقسمه وتجعله عاجزاً عن المبادرة. الأنظمة التي تخلت عن مجتمعها وتخلى مجتمعها عنها لا تستطيع المقاومة. هي تصطنع الممانعة، أي حالة اللاحرب واللاسلم مع العدو، وحالة العداء الكامل لمجتمعها. أن تنتدب بعض الفصائل للقيام ببعض العمليات لا يغني عن شيء. بل هو إمعان في وضع سد بوجه المقاومة الحقيقية.
مقاومة العدو الإسرائيلي وكل القوى الامبريالية، سواء كانت إقليمية أو دولية، لا تكون بالفصائل (التي يختبىء وراءها النظام) بل بالدول. عندما تُبنى دول قوية بجيوشها وإمكاناتها البترولية والصناعية والزراعية تكون المواجهة-المقاومة حقيقية. تُبنى الدول بعلاقة، علاقات، سوية بين النظام والمجتمع. بالعلاقات السوية يصير النظام دولة؛ يتحوّل من طرف من أطراف المجتمع الى دولة تحدي وتستوعب كل ساكنيها. يتحوّل الرعايا من قطعان الى مواطنين مشاركين في الدولة وقضايا المجتمع. مشاركين في تقرير المصير.
معنى ذلك بناء الدولة. الدولة تبني المجتمع وترتكز عليه. وهذا الأمر يقلب الأولويات. تصير المقاومة نهاية المطاف لا بدايته. على هذه الطريق يصير المجتمع بيئة حاضنة للمقاومة. لا كتلة مهمشة بفعل القمع والتعذيب. ذلك يعني أيضاً أن تزول الشكوك بين المجتمع والنظام. ويصير النظام دولة فعلية. يهابها الداني والقاصي. الدولة الراهنة (العربية) هي نظام على تناقض مع شعبه. وهي لا تستحق الاحترام، لا من شعبها ولا من عددها. الدولة العربية الراهنة تذرر شعبها، تقسّم مجتمعها، تهمشه، تجعله فاقد الفعالية القتالية والإنتاجية.
منذ قيام اسرائيل في عام 1948، وبعد الهزيمة في مواجهتها، قاومت الأنظمة العربية عن طريق فصائل خصصتها لأعمال جانبية، وانصرفت هي الى ممارسة التسلّط على مجتمعاتها. استخدمت عساكرها وأجهزتها الأمنية في سبيل ذلك. مارست شتى أنواع القمع كي تبقى شعوبها خارج المواجهة.
الوضع العربي برمته مؤسس على الهزيمة، وعلى تأبيد الهزيمة. الهزيمة نمط بقاء لها. عملية السلام (المفاوضات) كما يسميها الأميركيون تهدف الى تمديد الهزيمة، وفي ظلها يفاوض العرب من موقع المهزوم وتقضم اسرائيل الأرض ويتنازل العرب بأنظمتهم عن الحقوق تدريجياً. شرط عملية السلام أن تكون تدريجية وأن يكون سلب الحقوق العربية، بما فيها الفلسطينية، تدريجياً بمعنى أن لا يسبب أوجاعاً مؤلمة إلا يسيراً. اختارت الأنظمة العربية التفاوض مع الهزيمة كي لا تكون تنازلاتها مؤلمة بشكل فاضح أمام شعوبها. كثرة الألم تولّد الثورة بما يهدد بقاء الأنظمة. بكلمة أخرى، اختارت الأنظمة العربية الهزيمة من أجل البقاء(دون استثناء لأي نظام عربي).
الشعوب الحرة لا تنهزم. المجتمعات العربية مهزومة على أرضها. هزمها أولاً الاستبداد العربي، ألغاها، همشها، اضطهدها، سجنها، عذبها، فرض التفاهة عليها؛ يمكنك أن تطلق على هذه الحالة ما شئت من الأوصاف. لكن الاستبداد، استبداد الأنظمة العربية، أفقد مجتمعاتها من احترامها لذاتها. بذلك يختلف هذا الاستبداد عن كل استبداد آخر على سطح الكرة الأرضية. الخلاف بين النوعين من الاستبداد هو أن طغاتنا يرغبون بالبقاء بالسلطة الى الأبد. ويرفضون الاستقالة أمام الثورة حين تقع، ويفضلون حرباً أهلية على التسوية. ولا ينتحرون عندما يطاح بهم. لا يملكون الجرأة للدفاع عن سلطتهم حتى الموت. ليس عندهم قضية يموتون من أجلها. انتهازية لا حدود لها. لا يؤمنون بما يفعلون. كما يحتقرون شعوبهم، يحتقرون أنفسهم. لديهم دونية حيال من كان يستعمر بلادهم. عنصرية مقلوبة. عنصرية ضد الذات. هناك دول نفطية، ودول أخرى مرهون بقاؤها بهبات النفط. يعيش هؤلاء على التسوّل. فكيف تنتظر منهم احترام الذات؟
من ناحية أخرى، أوجد النفط وعائداته منذ النصف الأول من القرن العشرين قواعد مجتمع ذي نخب تستمد موارد عيشها من النفط وتمارس حياة استهلاكية بالكامل. القيم المترتبة على الإنتاج مفقودة. الطبقة الوسطى يعشعش في ذهنها نموذج استهلاكي صرف. تستهلك ولا تنتج لا ماديا ولا فكرياً. فكيف تنظر الى ذاتها والى علاقتها ببلدانها. هل حلت علاقة واهية مؤسسة على الاستهلاك مكان الوطنية والمواطنية؟ طبقة فاقدة الثقة بنفسها وبمستقبلها وبمستقبل بلادها. النموذج paradigm سرى من بلدان تنتج النفط الى بلدان تتلقى مساعدات بلدان النفط.
في زمن النيوليبرالية، المال ينتج المال. أكبر منتج للمال هو المال لا العمل. للمال قيمة تستغرق كل القيم البشرية. وهذه الأخيرة مفقودة تماماً. مجتمع دون قيم. يلجأ الى الدين كي يكتسب بعض المعنى والمغزى. ينتشر الدين ليس فقط كشكل من أشكال الحماية أو المعارضة للطاغية ولنظامه، بل لسد فراغ نفسي أحدثه حكم الطاغية.
بلدان عربية تتشكّل من جيوش لا تحارب. بعضها الذي يحارب هم فيالق مستوردة من مرتزقة آتين من بلدان أخرى. بمقدار ما يكثر عدد هؤلاء تنتشر عقلية أن من منّ علينا ووهبنا الثروة من باطن الأرض هو نفسه الذي أرسل إلينا جنوداً غرباء للدفاع عنا. نعيش على معلف النفط ونتشبّه بالحيوانات التي تستمد غذاءها من المعلف. في النهاية سوف تذبحنا القوى المعادية. بعضها بحجة حمايتنا، ونحن ننتظر الموت على المعلف. البقرة وأخواتها تنتظر الذبح بعد أن تسمن ويزداد شحمها ولحمها. هزيمة النفط لا تقل عن هزيمة المواجهة ضد العدو. هزيمة تولد أخرى أكثر شمولاً.
متى استردت الجماهير بعض ثقتها بنفسها ونزلت الى الميدان وطالبت باسقاط النظام تكون الثورة المضادة منتظرة على باب الميدان. ما إن يغادر الناس الميدان وتهدأ الثورة حتى يأتي طغاة جدد بتعيين من أجانب وتعليمات منهم حول إدارة البلاد وحول ضرورة الهروب من مواجهة كل عدو. بلادنا العربية ساحة لحرب عالمية تخوضها جيوش أجنبية. وكأننا غير معنيين بشؤون بلادنا. اجتماعات لرؤوساء دوليين واقليميين خارج بلادنا دون طغاتنا أو من يمثل شعوبنا، وهذه تقرر مصيرنا. رغم ذلك نحتج على سايكس بيكو، ونزعم رفض وعد بلفور ونقبل نتائج الاجتماعات الخارجية. بلادنا دون سيادة. فيصير المواطنون دون سيادة. إلغاؤهم من السياسة حصل داخلياً عن طريق الطغاة. وإلغاؤهم من السيادة والكرامة تم عن طريق “شركاء” الخارج. ننتظر الموجة التالية من الثورة عندما تنزل الجماهير الى الشارع لأننا نكاد نفقد الأمل. يُراد لنا أن نكون بلا أمل وأن نبقى في نفس الوقت دون معنى أو مغزى. الذين منا يريدون غير ذلك يقمعون. الذين منا لا يخضعون للغير ولنماذج الاستهلاك النفطي والتخدير الديني يودعون في السجون كي يكتسب شعبنا مناعة ضد الثورة وضد المقاومة. الثورة على الحكام الطغاة وعلى نمط الإنتاج الذي هو قاعدة بقائهم هي المقاومة الحقيقة. هي مقاومة طويلة المدى، لأنها تستهدف القضاء على نمط من العيش. هي الوحيدة القادرة على التغيير على المدى الطويل. تستنتج من كل ذلك أن المقاومة ذات المدى القصير محكومة بالاهتراء أو باتفاقات دولة تبعدها عن هدفها، وبالتالي فإن الاهتراء مستقبلها عاجلاً أم آجلاً.
حالة ميؤوس منها. ما هو غير ميؤوس منه هو المجتمعات التي ما زالت تذكرنا منذ 2011 بأنها قابلة بالثورة، ساعية إليها، وبأنها سوف تتجدد كما تجددت في الفترة الأخيرة في الجزائر والسودان.
لدينا نمط إنتاج كولونيالي، كما قال مهدي عامل. لهذا النمط نتائج لا تنتهي بإعلان الاستقلال منذ الحرب العالمية الثانية، بل باسترداد السيادة بعد أن نهزم الاستبداد. أن نهزم الاستبداد هو التحرر الحقيقي وهو بداية الإمكانية لمواجهة العدو، خاصة الإسرائيلي. هذا معنى أن نبدأ من الهزيمة لا كما يعتقد البعض أننا منتصرون وبالتالي نبدأ من حالة النصر. في هذا الكلام الأخير حالة يوفوريا، بالأحرى ايديولوجيا قاتلة.
منذ الاستقلال لم يتحرّك الاستبداد من مكانه. جرى استبداله باستبداد آخر عدة مرات. أصحابه هم على غير استعداد لتغيير نمط حكمهم وعيشهم: تبعية للخارج واحتقار للمجتمع. لن يتغيّر ذلك إلا تحت ضربات الثورات التي وإن اجهضت مرة بعد أخرى إلا أن تأثيراتها تتراكم ولا تعود الأمور بعد كل ثورة كما كانت قبلها.
الثورة المضادة ليست ثورة هي تحالف الأنظمة العربية والطبقات المفروزة منها، خاصة العسكر وأصحاب الرأسمال المالي. وكُرّس هذا التحالف منذ الاستقلال لقمع الشعوب وإخراجها من السياسة والإنتاج والمقاومة. يدفعنا هذا القول أن المقاومة سوف تنجح على المدى الطويل بعد الخلاص من أنظمة الاستبداد ثم تحقيق التحرر الداخلي المجتمعي. مجتمع العبيد والأتباع لا يستطيع الخروج من الهزيمة. مكتوب عليه أن لا يحقق النصر.
المقاومة في ظل الاستبداد، وان نجحت في بعض معاركها، إلا أنها محكومة باستراتيجية الأنظمة، وهي استراتيجية الهزيمة. ابتزاز المجتمعات العربية بمحاربة الإرهاب، سواء كان دينياً أو غير ذلك، هو خضوع للأنظمة واستراتيجيتها وخضوع للجيوش الأجنبية وهجومها الشامل على المنطقة العربية.
لن تكون المقاومة حقيقية، أو بالأحرى جدية، عندما تقتصر على جزء من المجتمع مهما كانت التضحيات والثبات على أخلاق متميزة في نقائها. المقاومة الجدية لا تكون بعيدة عن السياسة، ولا تبعد المجتمع عن السياسة، بل تزج أوسع فئات المجتمع في السياسة. وهذه تكون طريقها الطبيعية المقاومة من أجل الحفاظ على نفسها في وجه كل عدو وهجوم.
مرت علينا مقاومات عديدة، عربية وفلسطينية ووطنية وإسلامية، وكانت في جميع المراحل نخبوية سرية منفصلة عن المجتمع. كلها مبنية على فرضية أن المجتمع بيئة حاضنة لغير المقاومة، للظلامية الدينية. إذا كنا ندافع عن هذه الشعوب، وكانت هذه الشعوب بيئة لغير ما نهدف، فما معنى المقاومة سوى أن تكون فصيلاً غريباً عن المجتمع. المقاومة كجزء من المجتمع هي التي تنتج نضالاً حقيقياً يخيف الأنظمة وأعداء الأمة. الأعداء لا يخافون من فئات معزولة مهما تمتعت هذه الفئات بالقدرات القتالية والمواقف الشريفة. الأعداء يخافون خوفاً حقيقياً أبدياً من مجتمعاتنا، وتهزمهم سوية مجتمعاتنا. لذلك يريدوننا دون سوية. وعندما نكون فاقدي السوية والإنتاجية سنكون حتماً فاقدي السوية العسكرية، وستكون الهزيمة طريقنا مهما علت الأصوات.
المقاومة الحقيقية هي مجتمع مقاوم. وهو نوع من الاستبداد أن يستأثر فريق واحد مكوّن من أقلية مجتمعية، سواء كانت طبقية أو طائفية، بالمقاومة على أنها تعطي أصحابها سمواً أخلاقياً على غيرهم.