هوامش.. كيف ينظر محللو الغرب إلى تطبيقات صفقة ترامب على يد سلطات الإحتلال؟..
2019-05-23
الهامش الرابع
■ احتفلت فلسطين، كما احتفل العالم كله باليوم العالمي للصحافة، وهو اليوم الذي تنشر فيه الدراسات والأبحاث والتقارير حول مدى انتشار الصحافة وأنواعها في دول العالم، وعن حرية الصحافة، وموقع كل دولة في سلم الحريات.
وكان طبيعياً أن تكون السلطة الفلسطينية في عداد الأنظمة الحكومية والدول التي تحتفل بهذا اليوم، وأن تعتمد اللغة التي تعتمدها باقي الدول في مديح الذات حول حرية الصحافة في بلادها. وبحيث نتخيل أن العالم تحول كله إلى جنة للحريات الصحافية، وأن صحافة العالم تتمتع بالحرية دون حدود، وأن لا قمع ولا استبداد، ولا تعطيل للصحف ولا اعتقال للصحفيين، ولا إغلاق للمدونات الإلكترونية؛ وأن الصحفي يعيش حياة هانئة، تتوفر له المداخيل الضرورية ليشعر بالاستقرار والاكتفاء والأمن الوظيفي، وأنه ليس مهدداً على الاطلاق بالتسريح في أية لحظة، بحيث يصبح وأولاده فريسة العطالة والجوع.
ما يخصنا هنا، بشكل بارز، أنه في الوقت الذي تحتفل فيه السلطة الفلسطينية بالصحافة، فإنها تعتمد الأساليب ذاتها، التي تعتمدها الدول الأخرى، التي حولت صحافة القطاع العام إلى أبواق إعلامية في خدمة السلطة دون غيرها. حتى الخصوصية الفلسطينية باتت مفقودة، وتحولت صحافة السلطة إلى مجرد أدوات في صراعها السياسي، ليس ضد الاحتلال، بل ضد أطراف المعارضة الفلسطينية، وكذلك ضد حركة حماس.
الحالة الفلسطينية ما زالت في مرحلة التحرر الوطني، من أبرز شروط الانتصار صون الوحدة الوطنية البرنامجية والمؤسساتية، وبناء العلاقات الداخلية على أسس ائتلافية، تعتمد مبدأ الوحدة مع النقد. لذلك تتباين وجهات النظر في الصف الوطني الواحد، وفق مبدأ الشراكة الوطنية وخارج مفاهيم التفرد والاستفراد وتهميش الآخرين وإقصائهم، والعبث بمبادئ الوحدة الوطنية الائتلافية.
واقعنا الفلسطيني يقول إن المؤسسات الإعلامية الرسمية، هي مؤسسات اللون الواحد، وتقوم على إقصاء الرأي الآخر. علماً أنها ممولة من مال الشعب الفلسطيني، أي من موازنات السلطة وموازنات م.ت.ف. وبالتالي تفترض الضرورة السياسية والوطنية والأخلاقية أن تكون هذه المؤسسات مؤسسات لمجمل آراء الحالة الفلسطينية، وليست مؤسسات حكراً على جهة دون غيرها.
لذلك ليس مفهوماً الآن، ولن يكون مفهوماً أبداً، أن تتجاهل وكالة "وفا" (أي الوكالة الوطنية الفلسطينية للأنباء) وأن تتجاهل فضائية فلسطين (شقيقة وفا) وإذاعة صوت فلسطين، بيانات أعضاء في اللجنة التنفيذية لا لشيء، سوى لأن رأيهم لا يصب في خدمة "اللون الواحد"، أي "اللون المهيمن" وأتباعه. بالمقابل تضج هذه الأدوات الاعلامية بالكثير من الأنباء والتصريحات الجوفاء، لا لشيء، سوى لأنها تشترك في كورس إنشادي لا يكف، على الدوام، عن مديح الظل العالي، وأن يمهد لتصريحات الظل العالي، وكأن العالم ابتدأ معه، ولن ينتهي إلا معه.
وهكذا يكون احتفال السلطة الفلسطينية باليوم العالمي للصحافة، تماماً، كاحتفالها بذكرى إعلان الاستقلال في 15/11/1988، والذي ذبح من الوريد إلى الوريد، وجرى تقديمه مهراً غالياً لسلطة هزيلة، على مذبح إتفاق أوسلو.■
الهامش الخامس
يقول العارفون ببواطن الأمور، والذين تابعوا الحالة الفلسطينية خطوة خطوة، أن السلطة الفلسطينية شهدت مع الاجتياح الإسرائيلي لمناطق الضفة الفلسطينية، عام 2002، تطورات دراماتيكية. وليس صحيحاً أن شارون اجتاح الضفة رداً على مبادرة السلام العربية في بيروت. هذا الادعاء كان محاولة لإكساب المبادرة مضموناً لا تحتويه، والتمويه على شطبها لحق العودة، ولإسقاط مبدأ المقاومة، في الصراع مع الجانب الإسرائيلي، في وقت يدرك فيه الجميع أن إسرائيل لا تستجيب للحقوق الوطنية الفلسطينية بالمفاوضات السلمية، بل بالمقاومة الميدانية.
من هذه التطورات الدراماتيكية، العمل على تفكيك السلطة الفلسطينية وإعادة تركيبها وفق أسس خطة دايتون. الخطوة الأولى هي الفصل بين مؤسسة الرئاسة، ومؤسسة الحكومة، والخطوة الثانية تجريد مؤسسة الرئاسة من معظم صلاحياتها والعمل على تهميشها لصالح مؤسسة الحكومة. والخطوة الثالثة، وهي الأهم، إجراء عملية فرز واسعة طالت الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، والوزارات وغيرها، فجرى تسريح الآلاف بالقوة، على خلفية مواقفهم السياسية وانخراطهم في الانتفاضة الثانية، وأعيدت هندسة ضابط السلطة وموظف السلطة والمسؤول في السلطة، بحيث يعيد هو هندسة أولوياته، فتحتل همومه وحساباته الشخصية من الموقع الأول، حتى الموقع العاشر، بعدها يهتم بالهم الوطني. وأغدقت على السلطة الأموال. وعودة منا إلى موازنات السلطة في زمن الراحل ياسر عرفات، ثم موازناتها في مرحلة الفصل بين مؤسسة الرئاسة ومؤسسة الحكومة، ومرحلة تولي سلام فياض وزارة المال، ثم رئاسة الحكومة، لأدركنا الفارق الكبير، وهو فارق ذو وظيفة سياسية اجتماعية ثقافية، من أهدافها تشويه الوعي في صفوف واسعة من أبناء الفئات الوسطى، العاملين في السلطة الفلسطينية، وفي المؤسسات الأهلية ذات التمويل المشروط. ولتأكيد صحة هذا الكلام لنعد معاً إلى دراسات عديدة ميدانية، مثبتة بالشواهد والأرقام، تتحدث عن التشوه الفكري والسياسي في صف واسع من أبناء الفئات الوسطى، ضحايا ثقافة أوسلو وهجمته السياسية على المجتمع الفلسطيني.
لذلك بات لافتاً لنا، منذ فترة غير قصيرة، أن بعض العناوين الرئيسية لصحف الضفة باتت تهتم مواعيد صرف الرواتب بإعتباره حدثاً رئيسياً وكبيراً، وليس هذا أمراً غريباً.
فالسلطة هي رب العمل الأكبر، ويتحدثون عن حوالي 160 ألف موظف في الوزارات والأجهزة الأمنية، في بلد استهلاكي إنتاجه فقير جداً، ويعتمد بشكل رئيسي على الاستيراد من إسرائيل، وقطاع الزراعة فيه ضعيف بفعل الحصار والتضييق الإسرائيلي والمنافسة الخارجية (الإسرائيلية بشكل خاص) وضعف إجراءات الحماية الوطنية. بالمقابل فإن نسبة 75% من القروض البنكية، صرفت لصالح الموظفين لأسباب إستهلاكية. وبات ضمان إستقرار القطاع المصرفي مرهوناً بإستقرار تسديد أصحاب القروض دفعاتهم الشهرية. والأمر ذاته ينطبق على حركة السوق الإستهلاكية.
بالمقابل، لا تتوفر للسلطة على إيرادات منتظمة، بل هي تعتمد، في جانب كبير، على المنح الخارجية، من قبل الجهات الأجنبية، وكذلك على إيرادات المقاصة كما تحولها لها سلطات الإحتلال. ولأن هذه الإيرادات غير منتظمة ولا تخضع للقرار السياسي، بل هي سيادي خاضعة لقرار الآخرين، فإن دفع الرواتب لا يكون عملية سلسلة، أي في نهاية كل شهر، على غرار الدول الأخرى، بل هو مرهون بتوفر المبالغ والأموال الضرورية. من هنا، يكون الجميع بإنتظار صرف الرواتب: الموظف، والتاجر، والبقال، وصاحب المصرف، وأصحاب محلات المفروشات ووكالات السيارات وغيرها، المرتبطة بالموظف إما بقروض تسدد شهرياً، أو مستفيدة من حاجاته الشرائية. فلا غرابة أن يكون الراتب عنواناً رئيساً في الصحف، لأنه هو المحرك الكبير للحالة المالية والأسواق التجارية.
السبب معروف. فقد حولوا السلطة والمجتمع الفلسطيني إلى أسرى إتفاق أوسلو، وإشتراطاته، وإستحقاقاته وإلتزاماته، وأسرى بروتوكول باريس الإقتصادي. يحتاج التحرر منه، إلى عملية جراحية كبرى، مدخلها سياسي، وتعابيرها إجتماعية ثقافية نضالية.
المعضلة الكبرى، في هذا الأمر، أن من يملك زمام القرار لإحداث هذه العملية، هو في مقدمة المستفيدين من الحالة القائمة، وهو واحد من أسرى هذه الحالة.
الهامش السادس
في العدد الماضي كتب الزميل معتصم حمادة مقالته الأسبوعية حول تكيف القيادة الفلسطينية مع التطورات السياسية والتعايش معها، منذ أوسلو وحتى تطبيقات صفقة ترامب – نتنياهو.
ولعله ليس هو الوحيد الذي توصل لهذا الإستنتاج. فالصحفي الأميركي جوناثان كوك كتب في مقال نشر في موقع « ميدل ايسي آي» البريطاني أن إسرائيل حققت تقدماً كبيراً في الوصول إلى جميع أهدافها دون أن تضطر إلى الإعتراف علانية بأن الدولة الفلسطينية بانت سراباً. و«إن إسرائيل حققت معظم أهدافها وأبرزها سرقة الأراضي، وضم المستوطنات، وتكريس هيمنتها الحصرية على القدس وممارسة الضغط على الفلسطينيين، ليغادروا ديارهم ويستقروا في الدول المجاورة، دون أن تعلن بشكل رسمي أن تلك هي الخطة التي تسعى لتنفيذها على الأرض» ويخلص مؤكداً أن «هذه هي نسخة ترامب من عملية السلام في الشرق الأوسط».
من جانبه كتب عزمي بشارة يقول «السلوك الفلسطيني (الرسمي) منذ الإنتفاضة الثانية راضٍ بالأمر الواقع عملياً. وإن عارضه نظرتاً في الأروقة الدبلوماسية. فقيادة السلطة الفلسطينية الحالية تعتبر تأسس السلطة بحد ذاته إنجازاً تاريخياً عظيماً، بمؤسساتها ومئات آلاف الوظائف المدنية والأمنية، ولا تريد أن تجازف بأي نوع من المقاومة. وهذا هو مختصر الموقف الحالي. إنها سياسات سلطة قامت من دون دولة، وطورت مصالح تبرر الحفاظ على الذات، من دون أن تقوم الدولة. يضاف إلى ذلك أنه تشبت في ظلها صراعات على السلطة أدت إلى شرخ عميق داخل الشعب الفلسطيني». ويخلص إلى «أن هذا «الإنجاز التاريخي» عائق رئيس يحول دون تحقيق الشعب الفلسطيني تطلعاته.
وينتهي إلى القول: «كل الثرثرة والكلام حول صفقة القرن لا تعني شيئاً إذا تجنبت الموضوع التالي: كيف يواجه الشعب الفلسطيني (والمقصود قياداته وقواه السياسية) صفاقة القرن هذه؟»
الجواب أتى من جانب وزير خارجية السلطة الفلسطينية، رياض المالكي، في لندن، حين أكد «التزام فلسطين بالقانون الدولي وبمبدأ عدم العنف والسلمية لأن هذا هو الطريق الوحيد لنمضي قدماً».
وبشرنا في مكان آخر أن الرئيس محمود عباس على استعداد للذهاب بدون شروط مسبقة إلى المفاوضات الثنائية مع رئيس حكومة دولة الإحتلال بنيامين نتنياهو.
يبدو أن المالكي لم يقرأ كوك، ولم يقرأ عزمي بشارة، ولا تصريحات غرينبلات، ولا تغريدات فريدمان ولا مقالته حول القدس وصلتها التاريخية (المزعومة) بما يسمى الشعب اليهودي. ولم يطلع على ما نشرته «إسرائيل اليوم» و«يديعوت أحرونوت» حول بعض تفاصيل صفقة ترامب، نتنياهو، ولا تصريحات كوشنر حول شطب «حل الدولتين» من الحسابات الأميركية. ولا تصريحات نتنياهو حول عزمه ضم الضفة الفلسطينية في حال تشكيل الحكومة الإسرائيلية. كما أن رياض المالكي، نسي أنه، كعضو في المجلس الوطني في دورته الأخيرة، رفع يده مؤيداً قرارات المجلس، بإعادة تحديد العلاقة مع إسرائيل، وطي صفحة أوسلو، والخروج من سياساته، وكيف طوى المجلس الوطني «رؤية الرئيس» لصالح المؤتمر الدولي بإشراف الأمم المتحدة وقرارات الشرعية الدولية، وكيف أكد على الحقوق المشروعة لشعب فلسطين.
ما يقدمه المالكي، هو نموذج فاقع من تلك الشخصيات التي تسللت في غفلة من التاريخ واحتلت مكاناً (ليس لها) متوهمة أنها تنتمي إلى أنه الصف الأول للقيادة الفلسطينية باتت تتحدث بإسهاب، ودون حساب، في سياسات تتناقض وتتعاكس تماماً مع سياسات الإجماع الوطني في المؤسسة الوطنية، في المجلس الوطني وفي المجلس المركزي.
هذه واحدة من نتائج تفكيك وإعادة تركيب السلطة وبناء طبقة وسطى مشوهة، باتت حساباتها الفئوية هي الأساس وهي «الإنجاز التاريخي» الواجب الحفاظ عليه.■