حقق فيروس كورونا لأنصار الحدود المغلقة ودعاة العودة إلى «الاقتصاد القومي» ما عجز عنه أقوى الشعبويين في العالم!

حتى نهاية الشهر الماضي، كان أغلب المستثمرين وأصحاب القرار الاقتصادي والسياسي في العالم، يتوقع أن يكون فيروس كورونا ذا أثر محدود على الاقتصاد العالمي، وأن تبقى تداعياته الكبرى مقتصرة على الاقتصاد الصيني وحده. لكن، ومع تفشي الفيروس في أكثر من 160 دولة ووفاة نحو 7000 شخص، وتعاظم التداعيات المالية والاقتصادية التي خلّفها، وتصنيفه كوباء عالمي، فقد بدأت النظرة تتغير، وبات السؤال المطروح الآن؛ «هل يشهد العالم بداية أكبر أزمة اقتصادية، قد تكون أكبر حتى من الأزمة المالية التي شهدها في 2008؟».

وكان انتشار الفيروس أدّى إلى اهتزاز اقتصاد العالم، ووضع على المحك الأنظمة الصحية والإدارية المعمول بها في مختلف دول العالم، فضلاً عن أنه شكل اختباراً للأنظمة السياسية؛ من أوتوقراطية وديكتاتورية أو ديمقراطية، لجهة فعاليتها في الحد من تصاعد الوباء؟.

وقد قرعت منظمة الصحة العالمية جرس الإنذار بصوت عالٍ، وطالبت بتعزيز إجراءات التصدي للفيروس في جميع الدول. وقالت: «بإمكان جميع الدول تغيير مسار هذا الوباء، إذا اكتشفت واختبرت وعالجت وعزلت وتعقّبت المرضى. نحن قلقون من مستويات الانتشار ومستويات التقاعس المقلقة»!.

«زلزال كورونا»

وهكذا اضطر العالم للاعتراف أنه أصبح في مواجهة أحد أكثر الأمراض المعدية في تاريخه، والتي قد تعادل «زلزالاً كبيراً» سيهزه لأسابيع، وربما لأشهر!. فتقلصت الحركة في أغلب مدن العالم؛ وصارت الشوارع فارغة وأقفلت المطاعم والمحلات، وأغلقت دور العبادة أبوابها، وأصبحت المدارس وأماكن العمل شاغرة، وألغيت فعاليات رياضية وثقافية، وتراجع عدد السياح بشكل حاد، في وقت تسارعت فيه وتيرة إجراءات حظر السفر في جميع أنحاء العالم، ما أدى إلى تأثر كبير لقطاع النقل وعزل الدول عن بعضها البعض، وإبطاء محركات التجارة العالمية.

وقد كان تأثير الأزمة مدمراً على كل الدول تقريباً، الفقيرة منها والغنية، وانخفضت التجارة العالمية ما بين النصف والثلثين، كما انخفض متوسط الدخل الفردي وعائدات الضرائب والأسعار والأرباح. وتابع العالم بتشاؤم ما يجري وتداعياته على الأسواق، معتبراً أنّ ما نمرّ به اليوم نسخة معاصرة من فترة الكساد الأكبر في ثلاثينات القرن الماضي.

وترافق ذلك مع تراجعات حادة وانهيارات شهدتها البورصات الأميركية والعالمية، اعتبرت الأسوأ منذ 1987، وأعلن «الفيدرالي الأميركي» ضخ 1,5 تريليون دولار لدعم أسواق المال المتوترة، (وهو أكبر إجراء له منذ الأزمة المالية الأخيرة)، إضافة إلى توقف الكثير من الأنشطة الصناعية والتجارية والسياحية على مستوى العالم، كلّ ذلك يوحي كما لو أننا قد ولجنا بالفعل بداية الأزمة التي كان حذر منها عددٌ من الخبراء الاقتصاديين، منذ بداية انتشار فيروس كورونا في العالم.

ويرى بعض الخبراء أن خطورة الوضع الراهن تكمن في ارتفاع مستوى الديون، في الولايات المتحدة وعلى مستوى العالم، موضحين أن «فيروس كورونا مجرد دبوس، في حين أن فقاعة الديون هي المشكلة». ويضيف الخبراء، أن «الحوافز المالية ستجعل الوضع الراهن أسوأ. فالولايات المتحدة مكسورة ولا يوجد مال لتحفيز الاقتصاد، وكل ما يمكن فعله هو طباعة النقود، ما سيؤدي إلى انفجار الأسواق بسبب كثرة الديون».

وما فاقم الأمر أكثر هو الانخفاض الحاد في أسعار النفط، في ظلّ التباطؤ الاقتصادي وانهيار الطلب عليه. وقد انتهى الأمر إلى حرب أسعار شاملة بين عملاقي انتاج النفط (روسيا والسعودية)، يمكن أن تؤدي ارتداداتها إلى مزيد من «التمزيق في الاقتصاد العالمي المضطرب أصلاً». وقد انخفضت أسعار النفط إلى نحو 30 دولاراً للبرميل، وهي مرشحة إلى مزيد من الانخفاض في الفترة القادمة.

تضرّر «العولمة»

وقد نجح فيروس كورونا في أن يحقق لأنصار الحدود المغلقة ودعاة العودة إلى «الاقتصاد القومي»، في مفهومه المضاد للعولمة، ما عجز عن تحقيقه أقوى الشعبويين، حيث نجح في شلّ اقتصاد العالم، وانكفأت الدول على نفسها، بعد أن أغلقت حدودها الجوية والبحرية والبرية. وهو ما يُضعف المنطق الذي يستند إليه دعاة الانفتاح الاقتصادي وإزالة الحدود التجارية بين الدول والانسياب الحر للسلع والخدمات الذي كان قائماً بينها!.

فهل سيقضي انتشار هذا الفيروس على ما بقي من العولمة، ويعيد الدول إلى «الانغلاق التجاري والاقتصادي» كما يدعو ويطالب الرئيس دونالد ترامب والتيارات الشعبوية في أوروبا، التي تعتقد بتعزيز سلطة الدولة والتركيز على الاحتياجات الاجتماعية المحلية، على حساب حرية الأفراد والتعاون بين الدول.

وكانت الولايات المتحدة علقت (11/3)، جميع الرحلات من وإلى أوروبا لمدة شهر، كما ألغت أوروبا عملياً «اتفاقية شينغن» القائمة على الحدود المفتوحة بين دول الاتحاد الأوروبي، حينما أغلقت الدول الأوروبية حدودها مع إيطاليا.

وعلى صعيد التكامل الصناعي والخدمي الذي كان قائماً، يرى خبراء أن تخطيط الشركات الذي كان قائماً على اختيار دول التصنيع بناءً على رخص الكلفة، سيتغير وسيتيح المجال لدعاة توطين الصناعات ومكوناتها لتنفيذ السياسات الحمائية في الصناعة، بالنظر إلى المخاطر المحتملة في هكذا أزمات!.

ومن المعروف في هذا الصدد، أنّ إدارة ترامب تطالب بعودة الشركات الصناعية الأميركية إلى بلادها، بدلاً من بقائها في الصين، من منطلق الاعتقاد أن «العولمة أفادت الاقتصاد الصيني على حساب الاقتصاد الأميركي، ونقلت إلى الصين التقنية الأميركية، ومهدت لسرقة الملكية الفكرية، ومنحت البنوك الأميركية قروضاً لها مهدت لنمو الاقتصاد الصيني بمعدلات وصلت إلى 10%، بينما جعلت المواطن الأميركي مستهلكاً للصناعات الصينية»، كما يقول أنصار هذا التوجه.

وفي أوروبا، تعتقد التيارات الشعبوية التي نمت في الآونة الأخيرة على حساب الأحزاب التقليدية، أن كارثة ارتفاع البطالة في أوروبا وتدني الخدمات التي تقدمها دولة الرفاه في العديد من الدول الأوروبية ترجع بالأساس إلى «اغتيال التصنيع الصيني الرخيص للمنتجات في أوروبا، إضافة إلى تنامي الهجرة من دول الشرق الأوسط وأفريقيا التي تستهلك الخدمات المجانية التي تتيحها دولة الرفاه في أوروبا».

أخبارٌ سارّة في مواجهة «كورونا»!

جاءت الأخبار المفرحة من المناطق التي مر بها فيروس كورونا في البداية، حيث تراجعت أعداد المصابين في الصين وكوريا الجنوبية، فضلاً عن بشائر اكتشاف لقاح فعال لمواجهة الفيروس، بعد إعلان السلطات الصينية (17/3)، موافقتها على إجراء تجارب سريرية للقاح مطور ضد الفيروس، وسط توقعات بأن يكون جاهزاً خلال عام.

كما نجحت تجربة أطباء بالهند في علاج الفيروس باستخدام مزيج من الأدوية. وأعلنت روسيا أيضاً أنها بدأت اختبار لقاح على الحيوانات ضد الفيروس، وتأمل بالتوصل إلى نماذج أولى واعدة في حزيران/ يونيو القادم.

وحضّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب العلماء وشركات الأدوية على تسريع عملية إنتاج مصل علاجي للفيروس. وكانت برلين وجهت (16/3)، اتهامات لترامب بمحاولة الاستيلاء على لقاح يجري تحضيره في مختبر ألماني ضد وباء كورونا، محذرة بأنها ستبذل كل ما بوسعها حتى ينجح المشروع في أوروبا. واتهمت أحزاب ألمانية وبعض المسؤولين ترامب بـ«الأنانية ومحاولة استغلال الأزمة العالمية لتحقيق نجاحات سياسية خلال حملته الانتخابية».

وكتبت صحيفة ألمانية أن ترامب يسعى لاجتذاب علماء ألمان يعملون على مشروع اللقاح، من خلال عرض الملايين من الدولارات عليهم، أو للحصول على حصرية اللقاح من خلال الاستثمار في الشركة.

وتسبب الوباء حتى الآن (17/3)، في مقتل أكثر من 6500 شخص، وإصابة أكثر من 168 ألفا آخرين، وهي أرقام تؤكد الحاجة الماسة للقاح يوقف هذه الأزمة الصحية الحادة التي ضربت العالم. وفي المقابل، فقد شفي عشرات الآلاف في مناطق مختلفة من العالم، وباتوا قادرين على العودة إلى حياتهم الطبيعية من دون أيّة مضاعفات أخرى على صحتهم.

واعتبر محللون غربيون أن «كورونا» كان في بداية انتشاره «دعاية سلبية للحكومة الصينية»، لكن اليوم، ومع بدء تناقص أعداد المصابين والوفيات الناجمة عنه في الصين، في مقابل تزايد تلك الأعداد في الولايات المتحدة وأوروبا، فقد قلبت بكين الصورة. وأشار المحللون إلى مسعى الصين لاستغلال النجاح الذي حققته في «محاصرة الفيروس» لتسجّل «انتصاراً سياسيا وإعلاميا على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي».

وفي هذا الصدد، أكّدت «منظمة الصحة العالمية» (13/3)، أن أوروبا باتت «بؤرة جائحة كورونا»، وحذرت أنه من «المستحيل» معرفة متى يبلغ الفيروس ذروته على المستوى العالمي.

وعرضت الصين مساعدتها على العالم من أجل مواجهة الفيروس. وأرسلت أطباء إلى إيطاليا ومعهم 31 طنا من المعدات الطبية، عندما كان الإيطاليون يشتكون من غياب الدعم الأوروبي