مؤشرات القوى العظمى بعد أزمة القرم-مصطفى اللباد
2014-03-27
ألهبت روسيا حماسة الناقمين على النظام الدولي الراهن طيلة السنوات القليلة الماضية، بمعارضتها لواشنطن في أزمات وملفات مختلفة حول العالم، ما أنعش صورة موسكو في الأذهان باعتبارها المكافئ الموضوعي لواشنطن. وبلغت تلك الحماسة ذروتها مع أزمة القرم، التي تفوّق فيها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على نفسه من حيث الأداء والخطابين السياسي والإعلامي. حبس العالم أنفاسه لمدة زادت عن أسبوعين بدأت بسيطرة الميليشيات الموالية لموسكو على النقاط الحيوية في شبه الجزيرة، من دون أن يضطر الجيش الروسي إلى التدخل مباشرة في الأزمة، مروراً بتنظيم استفتاء على ضم القرم، وانتهاء بالطقس الاحتفالي الذي ظهر فيه القيصر يمشي وسط أعلام روسيا في احتفال مهيب ليوقع انضمام شبه جزيرة القرم إلى روسيا بناءً على رغبة ممثليها. لم يعبأ بوتين باعتراضات أميركا ولم يلتفت كثيراً إلى انتقادات أوروبا له، وصاغ بكلماته الحماسية ولغة جسده النارية سيمفونية صعود، ألهبت حماسة القوميين الروس، ومعهم الكثير من الناقمين على السياسة الأميركية حول العالم. منذ اندلاع أزمة القرم وحتى لحظة كتابة هذه السطور يبدو مصطلح "النظام الدولي المتعدد الأقطاب"، قد بعث من جديد في الخطاب الإعلامي الروسي. وانتقلت الحماسة إلى منطقتنا المبتلاة بشرور السياسة الأميركية، فراج مصطلح "روسيا القوة العظمى"، الذي يستعجل التغيير في بنية النظام الدولي الراهن ويستبطن شعوراً متفاقماً بالمظلومية أمام واشنطن وسياساتها.
النظام الدولي أحادي القطبية
يعد النظام الدولي التشكيلة الأعقد في السياسة الدولية، لأنه يأخذ في الحسبان توازنات القوى في المناطق الجغرافية المختلفة بعد أن يصنف أثقالها ويقايسها بغيرها في الإقليم ذاته وفي خارجه، ليستنبط علاقات قوة نسبية بين البلدان والأقاليم والمناطق وفقاً لمؤشرات موضوعية محددة. ويحدد مجموع علاقات القوة المذكورة نسق النظام العالمي؛ الذي عرف في الفترة الواقعة ما بين الحرب العالمية الثانية 1945 وانتهاء الحرب الباردة 1990 قوتين عظميين هما الولايات المتحدة الأميركية في مقابل الاتحاد السوفياتي السابق. ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانفراط عقد تحالفاته الدولية، تغيرت بنية النظام العالمي؛ الذي أصبح نظاماً أحادي القطبية تقوده الولايات المتحدة الأميركية وحدها، وشهد النظام الدولي الأحادي القطبية تغيرات ملحوظة في بنيته منذ ذلك الحين، حيث لم يمنع استمرار ظاهرة الدولة الإقليمية وتكريسها في مناطق العالم المختلفة (البرازيل في أميركا الجنوبية والهند في جنوب آسيا وجنوب أفريقيا في القارة السمراء)، أي تلك الدولة التي تلعب دوراً وازناً في جوارها الجغرافي على الأقل. ولم يستطع النظام الدولي الأحادي القطبية المهيمن عليه أميركياً أن يمنع ولادة الدول شبه الأقطاب في النظام الدولي مثل الصين واليابان والدول الصناعية الكبرى في أوروبا الغربية. وبالرغم من كل ذلك؛ فإن هذه التغيرات الإقليمية وشبه القطبية، لم ترق إلى مستوى يسمحُ بالحديث الجاد والموضوعي عن عد تنازلي للنظام العالمي الراهن، أو حتى عن عودة روسيا للعب دور القوة العظمى في النظام الدولي مرة ثانية.
روسيا دولة عظمى؟
تفتقر روسيا، برغم إمكاناتها الهائلة من موارد الطاقة واتساع رقعتها الجغرافية (أكبر بلد في العالم من حيث المساحة) وعضويتها الدائمة في مجلس الأمن وامتلاكها القدرات النووية، إلى جاذبية النموذج السياسي الذي تقدمه، مثلما تفتقر بشدة إلى اقتصاد تكنولوجي متطور ومستوى معيشة يقارب نظيره في نصف الكرة الغربي. ويؤدي ذلك إلى نتيجة واضحة مفادها قدرة مقيدة لروسيا على تحدي القطب الدولي الوحيد في مناطق جغرافية بعينها، يظل قاسمها المشترك متمثلاً في المناطق الجغرافية القريبة من المجال الحيوي لروسيا (أوسيتيا الجنوبية سابقاً والقرم راهناً). وبرغم كل الحملة الإعلامية الخطابية الناجحة لبوتين وروسيا في أزمة القرم، فما زال الاقتصاد الروسي معتمداً بشدة على تصدير النفط والغاز، مثلها في ذلك مثل دول الشرق الأوسط النفطية، ولم يغير الأداء الإعلامي المؤثر لبوتين في حقيقة هذا الأمر شيئاً.
وحتى مع اعتماد أوروبا الغربية على الغاز الطبيعي الروسي، بما يسمح لموسكو بالضغط السياسي عليها، فلا يعني ذلك دلائل قوة مفرطة للاقتصاد الروسي المفتقر للتنوع والتجانس بشدة، بقدر ما يعكس استثماراً لحاجة أوروبا إلى موارد الطاقة وليس أكثر من ذلك. برع بوتين في اجتراح حسبة سياسية دقيقة تخص القرم، وأثبتت التطورات اللاحقة أن حساباته كانت صائبة. فلا الولايات المتحدة الأميركية راغبة في مواجهة موسكو بسبب أوكرانيا البعيدة عنها، على العكس من كوبا الواقعة على مرمى حجر من سواحلها الجنوبية، ولا أميركا حتى قادرة على مواجهة روسيا في القرم بسبب افتقار الأولى إلى «اللوجستيك» اللازم لتنفيذ ذلك على افتراض توافر الرغبة.
أميركا وأقرب منافسيها
تفتقر الصين برغم إمكاناتها التكنولوجية الكبيرة وحجم اقتصادها الهائل وامتلاكها للقدرات النووية والعضوية الدائمة في مجلس الأمن، إلى مستوى المعيشة المطلوب لمواطني الدول العظمى وجاذبية النموذج السياسي الذي تقدمه - مثلها في ذلك مثل روسيا - ولكنها تزيد عليها في نقطة ضعف مؤثرة هي اعتمادها المفرط على موارد الطاقة الأجنبية التي لا تملكها. أما اليابان وألمانيا فتفتقران إلى القوة العسكرية اللازمة لإسناد دورهما العالمي وإلى العضوية الدائمة في مجلس الأمن، مثلما تعتمدان بشدة على موارد الطاقة الأجنبية، برغم القدرات التكنولوجية العالية والاقتصادية الضخمة والجاذبية النسبية للنموذج السياسي الذي تقدمانه. أما فرنسا وانكلترا العضوان الدائمان في مجلس الأمن، والحائزتان القدرات النووية والعسكرية، واللتان تقدمان نموذجاً سياسياً ناجحاً نسبياً وتنشران تراثاً ثقافياً كبيراً حول العالم، فتفتقران بشدة إلى الإمكانات الاقتصادية والتكنولوجية مقارنة بألمانيا واليابان والصين وأميركا بالطبع.
تشير مختلف المؤشرات إلى أن أميركا ما زالت القوة الرقم واحداً في العالم اقتصادياً وعسكرياً، حيث تنتشر القوات الأميركية في عدد كبير من بقاع العالم، وتمخر السفن الحربية الأميركية عباب المحيطات والبحار في سيطرة شبه تامة، فضلاً عن أن أميركا هي الدولة الوحيدة في العالم التي تسعى إلى عسكرة الفضاء، وبلغت أشواطاً كبيرة في ذلك. كما أن حجم الاقتصاد الأميركي هو الأكبر بوضوح بين كل منافسيه (حتى مع تراجعه من نسبة 25 في المئة في الاقتصاد العالمي قبل سنوات قليلة إلى حوالي 20 في المئة فقط راهناً)، إذ أن أقرب منافسيه هي الصين التي يبلغ نصيب اقتصادها حوالي 10 في المئة من الاقتصاد العالمي. وفوق ذلك تعد عملة أميركا الوطنية (الدولار) هي - وليس غيرها من عملات الدول الأخرى - عملة التبادل الدولي، والوسيط الحسابي العالمي ومخزن القيمة في أربعة أنحاء الكرة الأرضية. وبالإضافة إلى ذلك، تنطبق على الولايات المتحدة الأميركية باقي الشروط اللازمة للعب دور القوة العظمى؛ من حيث جاذبية النموذج السياسي أو الانتشار الثقافي خارج الحدود الوطنية وامتلاك القدرات النووية، والعضوية الدائمة في مجلس الأمن. تقتضي الموضوعية ملاحظة توافر كل تلك العوامل في جانب أميركا عند المقايسة مع أقرب منافسيها، بالرغم من كل الدوافع العاطفية التي تتمنى عكس ذلك.
تشير مختلف المؤشرات إلى أن أميركا ما زالت القوة الرقم واحداً في العالم اقتصادياً وعسكرياً، حيث تنتشر القوات الأميركية في عدد كبير من بقاع العالم، وتمخر السفن الحربية الأميركية عباب المحيطات والبحار في سيطرة شبه تامة، فضلاً عن أن أميركا هي الدولة الوحيدة في العالم التي تسعى إلى عسكرة الفضاء، وبلغت أشواطاً كبيرة في ذلك. كما أن حجم الاقتصاد الأميركي هو الأكبر بوضوح بين كل منافسيه (حتى مع تراجعه من نسبة 25 في المئة في الاقتصاد العالمي قبل سنوات قليلة إلى حوالي 20 في المئة فقط راهناً)، إذ أن أقرب منافسيه هي الصين التي يبلغ نصيب اقتصادها حوالي 10 في المئة من الاقتصاد العالمي. وفوق ذلك تعد عملة أميركا الوطنية (الدولار) هي - وليس غيرها من عملات الدول الأخرى - عملة التبادل الدولي، والوسيط الحسابي العالمي ومخزن القيمة في أربعة أنحاء الكرة الأرضية. وبالإضافة إلى ذلك، تنطبق على الولايات المتحدة الأميركية باقي الشروط اللازمة للعب دور القوة العظمى؛ من حيث جاذبية النموذج السياسي أو الانتشار الثقافي خارج الحدود الوطنية وامتلاك القدرات النووية، والعضوية الدائمة في مجلس الأمن. تقتضي الموضوعية ملاحظة توافر كل تلك العوامل في جانب أميركا عند المقايسة مع أقرب منافسيها، بالرغم من كل الدوافع العاطفية التي تتمنى عكس ذلك.
الخلاصة
تفرط مقولات "النظام الدولي المتعدد القطبية" الرائجة حالياً في استنطاق دلالات ومعان لأزمة القرم، وبما يتجاوز بكثير مضمونها الفعلي القاضي بأن روسيا تعيد صوغ المعادلات الإقليمية في جوارها الجغرافي لمصلحتها. ويقود تحليل التداعيات في أزمة القرم أيضاً إلى نتيجة فائقة الأهمية من المنظور الاستراتيجي، وهي أن فرصة القوى الإقليمية والبازغة لفرض أمر واقع جديد ضد حلفاء الولايات المتحدة الأميركية في المناطق الجغرافية المختلفة قد تعززت نسبياً، ولكن من دون أن يعني ذلك أن هذه النتيجة ستمس، مباشرة أو في غضون فترة معلومة، بالتراتبية الحالية في النظام الدولي. هنا يمكن تصور أن قانون الجدلية الأساسي ومفاده "التغييرات الكمية تؤدي إلى تغييرات نوعية" سيأخذ دوره في التحليل لاحقاً عندما يبلغ التغيير الكمي مداه، ولكن من دون قدرة من أحد على التنبؤ بالفترة اللازمة للوصول إلى نظام دولي متعدد الأقطاب فعلاً.
باختصار مفيد: يعكس الحديث عن "صعود الدور الروسي إلى مصاف القوى العظمى" في أعقاب أزمة القرم استياءً عاطفياً ومفهوماً ومشروعاً من سياسات واشنطن في المنطقة، ولكنه استياء يفتقر إلى تحليل موضوعي لموازين القوى الدولية الراهنة.
رئيس مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية - القاهرة