:مصدر المقال
https://ajalia.com/article/2965

خيارات <<حماس>> الصعبة والأفق المسدود..هل نملك غير الأمنيات؟!!-د.أحمد يوسف

2014-04-03

توصيف الواقع القائم
لا يحتاج واقعنا إلى خبير في القراءة والتحليل السياسي كي يدرك حجم وربما مآلات التغيرات الدراماتيكية التي يشهدها الإقليم من حولنا، بينما تسير الأحوال المحلية من سيء إلى أسوء باتجاه الكارثة والانفجار. لقد أضحت المعاناة وتعدد أشكالها هي حديث المجالس، حيث يتداولها الجميع بتهكم صريح على طرفي الانقسام السياسي. فهل تدرك الحركة أن هذه التغيرات ربما تضاعف من أعبائها وتدفع بها نحو المأزق؟ وهل يشي سلوك الحكومة على أرض الواقع في الأشهر الأخيرة بهذا الإدراك؟ كيف وإلى أي مدى؟.
فمع تعاظم مؤشرات البطالة والفقر والخلل العائلي فإن مؤشرات الاستقرار المجتمعي تمضي بعيدة عنا، لترسم ملامح حالة اجتماعية هي في طور التشكل مما يبعث على الخوف والقلق، ويستدعي حلولاً مؤلمة برؤية إبداعية.
كما أن مشهد الفعل المقاوم لم يعد سيد الموقف، والذى اعتدنا أن نعيشه بشكل يومي كأولوية للدعوة وكرافعة للأمل والهمة وعنوان للصبر والثبات، والمحرك لطاقات الشباب في التحمل وتمني الموت في ميدان العزة والشهادة وساحة الوغى مع المحتل الغاصب. هذه الأجواء ليست هي مشغلة الشباب، حيث الفراغ القاتل والمستقبل المجهول.. ومع هذه البطالة التي تسود مظاهر حياتنا، يتعلم الناس التمرد برغبة جامحة، طمعاً في التغيير والتجديد، وهذه من مسلمات علم الاجتماع السياسي.
إن الناظر لحالة الحركة والحكومة في غزة يرى وكأن أحوالنا تمضى بمنطق "دع الأمور تجري في أعنتها"، وبسياسة "دعوها فإنها مأمورة".!!
نحن الآن وبعد سبع سنوات في الحكم، فإن الحركة تجد نفسها محاصرة بثلاث جبهات مشتعلة؛ إقليم عدائي، وعزلة سياسية خانقة، وأوضاع إنسانية متردية ومتفاقمة من حولها. وفي إطار تقاطع هذه الجبهات، تعرضت الحركة وحكومتها إلى حالة انكشاف غير مسبوقة. فهي تمارس دور الدولة في غياب شروطها، فيخلو سلوكها من المعنى والقيمة، وهي تعيش تهدئة إكراهية/ تكتيكية، بينما تعلن الجمع بين الحكم والمقاومة.
في غضون ذلك، بدا أن الحركة/الحكومة كأنما تسبح في حقل ألغام، فإن هي بالغت في التصرف بوصفها دولة، اُتهمت بتعزيز الانقسام وبالسعي إلى إنشاء إمارتها، وإن هي فعّلت المقاومة، هددتها إسرائيل برد قد يقلب موازينها، وإن هي ابرزت أصولها الإخوانية أو ابتعدت عنها، مورست عليها الضغوط من داخلها أو من خارجها..!!
ففي إطار علاقاتنا الإقليمية والدولية، فالحال لا تحتاج قراءته إلى خبرات مختصين في العلاقات الدولية، حيث الجميع ناصبنا العداء، والكل على المستوى الإقليمي والدولي يعمل على إلباس حماس ثوب الشيطان، بهدف تدجينها والقضاء على حضورها السياسي، وكسر شوكة المقاومة التي تمثلها القوى والحركات الإسلامية.
وعلى الصعيد المحلي، يتآكل رصيدنا في الشارع من حولنا، ويتكاثر الخصوم يوماً بعد يوم، ويطلب منَّا الرحيل كل من لا يرون فينا الأهلية لقيادتهم، وهم اليوم كُثر بل ويتزايد عددهم وتحريضهم يوماً بعد يوم.. فالحكومة؛ أي حكومة، مطلوب منها توفير الحد الأدنى من الحياة الحرة الكريمة، وإذا لم تستطيع عمل ذلك فعليها الاستقالة، وقد قيل: "إن الحكومة التي تعجز عن غرس الأمل وتحقيق الإنجاز يتوجب عليها الرحيل".
إن الملمح العام لشكل الكدح والمكابدة، وللمشهد المأساوي الذي نحن عليه في قطاع غزة، يشي بأننا محشورون في الزاوية، وأن سفينتنا تتلاطمها أمواج بحر الظلمات، وأننا بحاجة ماسة لمخرج وطوق نجاة ينتشلنا مما نحن فيه.
إن واقع "إنّا لمدركون" الذي عليه الحال في قطاع غزة، يوجب على قياداتنا اتخاذ قرارات صعبة ومؤلمة للنجاة، وهذه تتطلب فطنة الرجل الرشيد الذي يرى الخطر قبل وقوعه، ويعدُّ العدَّة ويحسن الاستعداد لمواجهته.
حماس: المكانة والإمكانيات
لا يختلف اثنان على المكانة المميزة التي سبق وأن بلغتها حركة حماس على مستوى قيادة الشارع الفلسطيني، وأيضا بين جموع أمتنا العربية والإسلامية؛ حيث جددت الحركة بإمكانيات فعلها المقاوم الأمل باستعادة الكرامة، والقدرة الواعدة على مغالبة هذا الكيان الغاصب وتحرير الأقصى والمقدسات.. لذلك، لم يبخل العرب والمسلمون علينا بالعطاء، وشاهدنا كيف تفاعلت الأمة وشدَّت إلينا رحال أبنائها بقوافل متتابعة عبر البر والبحر للتضامن معنا، وبهدف كسر الحصار الظالم المفروض علينا، وعاملين على تحريك الساحات نُصرةً لصمود شعبنا، وتعزيزاً لمقاومتنا الباسلة في وجه العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.
وبرغم الحصار الضارب الأطناب على معظم مناحي الحياة في قطاع غزة، إلا أن المقاومة - والحمد لله - قد تمكنت بجهد الاستطاعة أن تكون سداً منيعاً في وجه المحتلين، وأن تمنح الثقة لشعبنا في الثبات على أرضه وتبشره بالفتح المبين.
إن ما تمتلكه المقاومة من طلاب الشهادة، ومن العزيمة والاصرار هي ذخر وطني نقدره ونعتز به، ولكن هذه المقاومة تحتاج إلى حدود مفتوحة وعمق استراتيجي داعم، للاستمرار في تطوير إمكانياتها التكنولوجية ومنظومتها الأمنية، للحفاظ على مستوى عالٍ من الجهوزية والاستعداد.. ومع تعقيدات الحالة السياسية المتوترة مع مصر، والتباعد والفتور الذي أصاب العلاقة مع بعض الدول العربية والإسلامية، فإن الاطمئنان للإمكانيات المتاحة يبقى محل تساؤل.
* فتح: فرص المنافسة والظهور
إن هناك تخوفات لدى الكثير من الإسلاميين بأن البديل لـ"خيارات ما بعد حماس في الحكم" هو عودة حركة فتح، وبما كانت عليه من التسلط والتفرد والفساد.. وهذه التخوفات، وإن كانت مشروعة إلا أنه مبالغ فيها كثيراً، حيث لدينا شواهد من ساحتنا العربية يمكن الاستشهاد بها وأقربها هي تجربة حزب الله في لبنان، حيث يغيب حضور الحزب في محافل السياسة، ولكن جميع السياسيين يأتوا إليه يطلبون المباركة والتأييد.
إن المرحلة القادمة هي للشراكة السياسية والتوافق الوطني، ولن يتمكن حزب بعينه أن يتصدر المشهد السياسي بدون تحالفات مع الآخرين، ولا أعتقد أن بإمكان أحد أن يتخطى حماس أو ينازع حضورها كشريك؛ سواء في حركة فتح أو في باقي فصائل العمل الوطني والإسلامي.
* القوى والفصائل الوطنية والإسلامية الأخرى
إن الخشية التي يبديها البعض - في حماس - من تغول حركة فتح، باعتمادها على ما لدى السلطة من شرعية وإمكانيات، يمكن أن يقابله موقف وطني تفرضه تحالفات حركة حماس مع باقي الكل الوطني والإسلامي، حيث إن المرحلة القادمة ليست هي مرحلة التفرد لأي فصيل، بل العمل في إطار القواسم الوطنية المشتركة.
لذا؛ فإن المتوقع من حركة فتح أنها ستوطئ أكنافها للجميع، وخاصة إذا ما تفهم عقلاؤها ما تتطلبه التحديات من وحدة للموقف، واجتماع للشمل خلف رؤية وطنية، قادرة على حشد التأييد العربي والإسلامي، وخلق حالة من التعاطف الدولي مع شعبنا وقضيته العادلة، كما شاهدنا عند التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة (UN General Assembly) في 29 نوفمبر 2012م بمنح فلسطين صفة دولة مراقب بالأمم المتحدة.
الخيارات والبدائل المتاحة للخروج من مأزق الانقسام
منذ أغسطس الماضي، ونحن نسمع الأخ إسماعيل هنية؛رئيس وزراء الحكومة في غزة، ونائب الأخ خالد مشعل رئيس المكتب السياسي للحركة،وهو يتحدث مع الجميع في فصائل العمل الوطني، وقيادات منظمات المجتمع المدني، ومع النخب الفكرية والأكاديمية والإعلامية، والشخصيات الاعتبارية من الوجهاء ورجال الإصلاح والمستقلين، بلغة تحمل نبرة إيجابية، ولغة تصالحية باتجاه تأثيث الذهنية وكسب القناعة لتحقيق المصالحة وإنهاء الانقسام، باعتبار أن ما يجري – الآن - في المنطقة من تحولات بعد انتكاسة الربيع العربي تبعث على الاحباط ولا تبشر بخير، وربما تحمل – إذا استمرت - نذر شؤم على مستقبل الشعب الفلسطيني وقضيته.. جاءت تصريحات الأخ إسماعيل هنية انسجاماً مع ما اتخذته الحركة في مؤسساتها الشورية، ومكتبها السياسي من ضرورة التعجيل بالمصالحة، لحماية مشروعنا الوطني وعدم ترك الساحة على ماهي عليه من الضعف للتمدد الاستيطاني، وعمليات التهويد التي تجري بشكل متسارع في الضفة الغربية وفي بيت المقدس، وأيضاً بغرض عدم ترك السلطة - والرئيس أبو مازن - في وضعية هشة يسهل ممارسة الضغوط عليها وكسرها، وذلك لتمرير مخططات إسرائيلية تؤدي في النهاية لتصفية القضية.
إن الأمانة الوطنية والمسئولية الدينية تتطلب منا جميعاً العمل على الحفاظ على سقف المطالب الفلسطينية عالية، وألا نسمح لإسرائيل وأمريكا الاستفراد بالعنوان الرسمي للشرعية الفلسطينية؛ وهو الرئيس أبو مازن، حتى وإن اختلفنا معه حول العديد من الملفات وعلى آليات وأسس العملية التفاوضية واستراتيجيتها.. فالحالة المأزومة في الضفة الغربية والمكلومة في قطاع غزة تتطلب وقفة لشدِّ الأزر، وليس للشماتة والتشفي ورغبات الانتقام.
ومن الجدير ذكره، أن تحقيق المصالحة وبأي سقف من التنازلات هي كسب للوطن والقضية، وهي تعزيز لمكانة الطرفين فتح وحماس، وهي الطريق للتفاهم حول الانتخابات القادمة وسرعة إنجازها، كما أنها ستمثل حالة الإعلان الرسمي عن نهاية أحزان الانقسام، واستعادة التوازن الذي لن تختل معه اتجاهات بوصلة نضالنا للقدس وللدولة الفلسطينية الحرة والمستقلة.
ترتيبات المشهد السياسي القادم
لا يمكن لأحد فينا أن يواجه الأنواء والعواصف السياسية والأمنية التي حلت بشعبنا وأمتنا دون اللجوء إلى تحصين نفسه وتثبيت أركان بيته؛ لأن البيت المنقسم على نفسه لا يستطيع الصمود وتحمل تبعات ما هو قائم وآت.
إنَّ ما هو مطلوب منا ونحن نتهيأ إلى مرحلة جديدة من الحراك الوطني وطي صفحة الانقسام ألا نعود إلى أسلوب المناكفات السياسية وممارسة هواية وضع العصى في الدواليب عبر حناجر البعض، وذلك باللجوء إلى تصعيد لغة الحوار والحديث عن اشتراطات والتزامات.. إن ما يتوجب تقديمه – الآن - في لغة الخطابهو كيفية الخروج من نفق الأزمة إلى فضاء المصالحة وإنهاء الانقسام، ثم المضي قدماً للانتخابات وحكومة الشراكة السياسية والتوافق الوطني، والعمل على ترميم علاقاتنا مع عمقنا العربي والاسلامي، والانفتاح على المجتمع الدولي لكسب التأييد والدعم لقضيتنا، إضافة لمسارات الضغط على الاحتلال، والتي قد تتفاوت بين عدة خيارات سياسية وأشكال متعددة من المقاومة الشعبية، وتمتين جبهتنا الداخلية ببنيان مرصوص، داعمٍ لخط الجهاد والمقاومة في الدفاع عن حرية شعبنا وكرامتنا الإنسانية.
حماس: مراجعات في المنهج ومقاربات كسب الآخر
بعد حالة التراجع في الحراك الشعبي، وعمليات التضليل الممنهج لتشويه صورة الحركة الإسلامية، وحملات التحريض والتشهير والتشويه التي تعرضت لها حركة الإخوان المسلمين، والتي قادتها جهات ودول خليجية لضرب مستقبل توجهات شعوب المنطقة نحو الإسلام وشكل الحكم، الذي يمكن أن يكون البداية لإعطاء الشرعية لمبادئ الدين القويم في ضبط منظومة حياتنا القيمية والسياسية والاقتصادية وعلاقاتنا الدولية، ويمنح أنظمة الحكم الجديدة - القائمة على الشراكة السياسية - حماية خيارات الأمة، والتصدي لكل أعدائها وعلى رأسهم دولة الكيان الإسرائيلي البغيض، والعمل باستراتيجية التحرير لاستعادة الحقوق المشروعة للفلسطينيين في أرضهم وديارهم، والتمكين لهم في قيام دولتهم الحرة والمستقلة.
لا شك أن عمليات التحول والتغيير يصاحبها دائماً وقوع أخطاء وسوء تقدير لبعض المواقف أحياناً، وهذا يتسبب في تغيير المزاج الشعبي، وتعكير صفو التطلعات والآمال، ويؤدي إلى إلى عودة الغضب والاحتقان وتبديل المواقف .
إن المطلوب منا كإسلاميين بعد هذه الانتكاسة في مشهد الحراك السياسي والثوري في المنطقة، حيث تحول حلم الربيع العربي إلى كابوس وارتدادات قاتلة لواقع الاستقرار والأمن بالمنطقة، القيام بمراجعات وطرح الأسئلة الصعبة حول "علة الخوف من الإسلاميين"، على ضوء شواهد الواقع اليوم في مصر وتونس وفلسطين.
إن حماية مشروعنا الوطني برؤيتنا ورايتنا الإسلامية يفرض علينا تقديم الوطن على أية اعتبارات تنظيمية وأيدولوجية أخرى، وأن يكون نُصب أعيننا المصالح والخصوصيات الوطنية، لسدِّ باب الذرائع أمام كل من يحاول تشويه صورتنا واتهامنا بأجندات غير وطنية، وشدَّنا إلى معارك استنزاف ومقاتل جانبية.
ختاماً: هل نطوي الأشرعة أم أن الفرصة ما زالت قائمة للإبحار؟
في ظل ما قدمناه من توصيف للواقع وتشخيص للمرحلة، وما أظهرناه من حالة الاختناق المجتمعي والانسداد السياسي، وتراجع مكانة القضية في فضائها الإقليمي واهتمامات المجتمع الدولي وأولوياته، وفي سياق الظروف التي تحاول فيها إسرائيل وأمريكا تمديد المفاوضات بشكلها العبثي أو تمرير اتفاق إطار مع السلطة شبيه بالاتفاق الكارثي الذي انساقت إليه منظمة التحرير الفلسطينية والرئيس الراحل ياسر عرفات في أوسلو عام 1993م، فإن هذا يستدعي أن نطرح خيارات تعجل بخروجنا من مشهد الحكم والسياسة، للحفاظ على قداسة مشروعنا الدعوي، ومقاومتنا للمحتل الغاصب، مع أن يكون لنا حضوراً - فاعلاً ومميزاً- في المجلسين التشريعي والوطني، وذلك بدعم العناصر الوطنية الخيِّرةوالشخصيات الإسلامية المستقلة، لتكون واجهتنا في أي شراكة سياسية قادمة.
إن حجر الزاوية وبيت القصيد في كل ما تقدم، هو الخروج من ورطتنا السياسية، والعودة قبل المغيب إلى الحاضنة الشعبية لمشروعنا الإسلامي، حيث الرصيد الذي يمكن الرهان عليه، إذا أحسنا عملية الخلاص والخروج الآمن من نفق ومتاهات ما هو قائم.
وتأسياً على ما سبق، فإن علينا - اليوم - التواصل مع الأخ الرئيس أبو مازن لإظهار مساندتنا له،والعمل على تقوية وتعزيز مواقفه الرافضة لسياسة الابتزاز والإملاءات الإسرائيلية، وشد أزره وتمتين مواقفه تجاهحماية ثوابت القضية الفلسطينية، وعدم السماح للمحتل الغاصب وأمريكا الاستفراد به أوممارسة "سياسة ليِّ الذراع" عليه، فالفترة القادمة تتطلب أن نشكل معه عبر إنجاز المصالحة وإنهاء الانقسامرافعة وطنية، تحمي الجميع من الرضوخ والانهيار أمام تهديدات الاحتلال، وسياسات حلفائه في التركيع والاحتواء أوضغوطات واقع القهر والحصار.
ولعلي هنا أختم ببعض ما ذكره أخي العزيز د. مصطفى اللداوي تحت عنوان: "نصيحة عامة لحملة الأمانة" في الثاني من أبريل 2014م، حيث قال:عندما تعتقد بأنك وحدك على الحق، ولا أحد غيرك على الحق مثلك، وأن رأيك هو الصواب، وأن أي رأي آخر غير رأيك باطلٌ أو خطأ، وعلى الجميع أن يصغي لك ويسمع، وأن يلين أمامك ويخضع، وأن يصمت ويتبع، بل أن يذل لك ويخنع،
وعندما تحتكر الحق لنفسك فقط، فلا أحد على الحق كان قبلك، ولن يكون على الحق أحدٌ بعدك إلا أن يكون مثلك، يحمل رأيك، ويؤمن بما تؤمن به، ويقوم بما تقوم به، ويدافع عنك ويشيد بك، ويصفق لك ويطبل، ويرقص من أجلك ويغني، يرفع صورك ويمجد اسمك، وإلا فإنه ضالٌ ومنحرف، ومخالفٌ ومبتدع، ومتآمرٌ وخائن، وعميلٌ مأجورٌ..وعندما تسخف بالآخرين وتعظم نفسك، وتحتقر الكبار وترفع من قدرك، وتهين العظماء وترفع من شأن السفهاء، وتقصي الأكفاء وتستبطن الجهلاء، وتفض من حولك الحكماء وتجمع في بيتك البلهاء،إعلم إذاً، بهذا العقل وبهذه الطريقة من التفكير، أنك لست على الحق، بل إنك على خطأ، يقودك غرورك، ويحركك انتماؤك، وتدفعك قوتك، وتغرر بك المظاهر، وقد تسوقك الأحقاد، وتعمي بصيرتك الأوهام، وتملي عليك مصالحك أو منافعك الأولويات، وتعيد في ذهنك بغير الحق تغيير المهام والواجبات،فإن لم تكن قادراً على الاعتراف بأنك كنت على خطأ، وأنك أسأت الاختيار، وأخطأت في القرار، وخالفت الآراء، أو تفردت في اتخاذ القرار، أو استعجلت ولم تتريث، أو أنك نصحت فخدعت، وحسبت فأخطأت، ثم حرت وعجزت، وتعبت وحوصرت، فلم تحسن تصويب المسار، ولا إعادة القطار إلى سكته، وعانى من قرارك الكثيرون، وتضرر الأبرياء والمواطنون، وتقطعت العلاقات، وتمزقت الروابط، وتباعدت المسافات، وعظمت العقبات، وغرقت مراكبك، وبارت تجارتك، وخسرت رهاناتك، وضاع ما كنت تملك، وباء بالخسران ما كنت تجمع، ولم يبق عندك ما يقيد ولا ما يقي، ولا ما يسمن أو يغني من جوع،فإن من كمال الأخلاق، والصدق مع الأمانة التي تحمل، أن تتنحى وتبعد، وأن تذهب وترحل، وأن تترك لغيرك الفرصة لأن يكونوا هم السدنة والربان، والقادة والفرسان، علهم ينجحون في توجيه الدفة وإنقاذ الركبان، قبل أن يمضي الزمان، ويفوت الأوان، ونقول عندها ليت الذي صار ما كان".
اللهم أني قد بلغت؛ اللهم فاشهد..