الأغاني الشعبية الفلسطينية...تتحدى الحاضر
2014-06-22
مضى وقت طويل على الأغاني والأهازيج الجبلية....تلك التي كانت ترددها أمهاتنا وجداتنا في المناسبات المختلفة، من مواسم قطف الزيتون والحصاد، إلى جني اللوز، وأوقات البهجة والسرور بالنجاح، ومواسم أفراح الزواج وحتى الطهور ومواسم الحج.
ولم نعد اليوم نسمع تلك الأغاني في مناسباتنا العامة، تلك القوية المليئة بالفرح، المفعمة بالحب، والمنبعثة من القلب، فقد أخذت الأفراح القروية، و المناسبات فيها تبتعد عن ذلك اللون الجبلي شيئا فشيئا، الذي كانت و لوقت طويل تمتاز به إلى أن اقتربت إلى طابع الأفراح المدنية الحديثة، التي تعتمد على الغناء المسجل في أفراحها و مناسباتها.
لا زلت اذكر جدتي رحمها الله، فأتذكرها وهي محاطة بنساء القرية تغني بصوتها الجهور في المناسبات العائلية، و حتى مناسبات القرية المختلفة....فقد كانت في تلك الأيام من أكثر النساء اتقاناً للون الغناء الجبلي ذات الطابع الفلسطيني الأصيل، الذي كان ينساب بشكل تلقائي، فيغدو كشعر منتظم على قافية معينة، و لكنه ليس كذلك، فهو يستمد أوزانه من الطبيعة التي صبغته بنكهتها الخاصة.
و لكن لشيء من الإنصاف لا زالت كثير من القرى لا تستغني عن مثل هذا اللون الغنائي في مناسباتها، و من هذه القرى بلدتي الزاوية فهي ترى في هذا اللون تعبيراً صادقاً عما يشعر به الشخص حيال مناسبة معينة.
و لكن و مع هذا فإن الغناء الشعبي لم يعد يحتل المكانة التي كان يحتلها منذ وقت بعيد، فقد أصبحت تلك الأغاني الماجنة، والراقصة المدبلجة بأصوات شباب و شابات أصبحت أكثر رواجاً ليس في المجتمع الفلسطيني فحسب وانما في المجتمعات العربية الآخذة بالتغّير أيضا.
"أهلا و سهلا شرفونا أحبابنا و هذه الدار ترحب في أصحابنا"
هكذا بدأت الحاجة أم يوسف في بداية الحديث معي، رحبت بي على طريقتها الخاصة، فهي تعلم بموضوع تقريري هذا و سبب زيارتي لها، و كان لي معها حوار طويل قالت فيه :" لقد كنا في قديم الزمان نقيم قبل العرس ست ليال من الأغاني، و الأهازيج الشعبية هذا عدا عن ليلة العرس، يشترك أهالي القرية في تلك الليالي جميعهم، وبصفة خاصة يشترك جميع النساء والرجال في تلك الليالي التي تسبق العرس ليغنّوا كل على حدى، حيث يصفقن النساء و يزغردن و يفرحن، فكنّا نجتمع وقت العصر و نعمل حلقات لكل حلقة تغني امرأة و أخريات يرددن من وراءها كانت أياماً في غاية الروعة و الجمال، فقبل ليلة العرس كان الرجال ينظمون سهرة للعرس فيها من الأغاني الجبلية ما طاب سماعه حول شعلة نار كبيرة يجمعها الرجال نهارا من "نبات النتش"، فينزل الشباب للدبكة على صوت الشبابه المميز فقليل من يستطيع العزف عليها الآن، أما النساء فيشاركن بالزغاريد و التصفيق" وبفم ملؤه حلاوة من الأغاني الوطنية الأصيلة:
"بالفاس ننزل على الارض بالفاس، عاداتنا كيد العدا وحجارنا ضرباتها بالراس"
"بارودنا منا البارود منا البارود واجنا البارود اللي كسر منازل اليهود"
"خيلنا واردي على النبي إلياس
شاربي دم العدا كاسين وكاس
واشربي يا خيل اهلنا واشربي
من مية زمزم ومية حلب"
"يا بلادنا يا بلادنا ما أحلاكي يا بلادنا
يا بلادنا يا بلادنا ما في أزكى من ريحة بلادنا"
و تستطرد أم يوسف قائلة" لم يعد موجوداً اليوم يا بني، فاليوم يكتفي أهل العرس بليلة العرس فقط أو لربما زفة العريس فقط، أما هذه الأغاني فهي موجودة تتردد لكن بقلة، فالمعظم يضع المسجل أو الشريط، و يغنون معه كلاماً سريعاً غير مفهوم و دقات مشتعلة و سريعة، و تستمتع الشابات بهذا اللون من الغناء، فيندمجن مع هذا الشريط و يرقصن و يرددن من ورائه، لقد انقلبت الأمور ولم نعد نرى من هذا الذي يغني، و لم نعد نفهم ذلك الكلام، الذي يقال في مثل هذا الغناء، و نحن لم نعد نشارك في الحفل مثلما كنا، فقد تغيرت المعايير و انقلبت الأوزان و يا ليت تلك الأيام تعود، لقد كنا نغني كل شيء في المناسبة الواحدة، كنا نغني في العرس للعروسين، و لشيخ القرية و للمختار، و لوالد العريس و العروس، و إخوان كل منهما، و كل شيء يخطر على بالك...آه آه آه)) وبعد الآه تقول:
"أنا لصيح صيحات العليل وعلّي رياقهم تبري العليل قالولي مرض ولا عليلا قلتلهم مرض من فراق البلاد"
"دهر الشوم صادفني وعدّا وخلاني نزيح الحيل عدّا وكل ما مضى يوم بقول عدّا أثاري الموجهات أكبر بلا"
فهنا تقصد في هذه الأغاني معاناة النكبة التي حلّت بشعبنا الفلسطيني.
وبعد قراءة معمقة لما كان يدور سابقا في مناسباتنا وأفراحنا وجدت بأنها كثيرة هي الأغاني التي تقال في المناسبات التي تشترك فيها نساء البلدة سابقا، واحدة تبدأ الغناء وأخريات يرددن من ورائها، و تمتزج هذه النغمات الموحدة مع لحن تصفيق الأيادي العالية، لتعطي الأجواء نكهة خاصة مطعمة بلون الفرح الأبيض لتدفع قسماً آخراً من النساء إلى الرقص الجبلي الجميل، و تبدأ الزغاريد تتعالى بصوت متواصل، فواحدة تزغرد لابنتها التي تنزل للرقص، و أخرى تزغرد لأختها، و أخرى تزغرد للفرح نفسه، وفجأة يسكت الجميع، لأن واحدة من الحضور سوف تلقي على مسامعهن بعض الكلمات التي تنتهي بزغرودة و صفقة من الجميع، و هو ما يسمى "المهاها" و يعود الوضع لما كان عليه سابقا قبل لحظة الصمت هذه.
كل هذه الشعائر التي كانت تحصل في العرس أو الفرح أو المناسبة القروية بدأت تتلاشى شيئاً فشيئاً و إن كان لها مكان ضئيل على خارطة الطريق التراثية إلى هذا اليوم، فتتابع الحاجة أم يوسف بصوتها الجهوري:
"يا مدرسة يا مليحة يا اللي على بابك ريحة واتعلم فيكي فلان وأخذ منك مليحة"
"يا مدرسة يا نظيفة يا اللي على بابك ليفه واتعلم فيكي فلان وأخذ منك وظيفة"
أما للحصاد فتغني:
مِنْجَلي يا مِنْ جَلاهْ
راحْ لَلحصايغْ جَلاهْ
ما جَلاهْ إلا بْعِلْبِة
ريتْ هالعِلْبة عَزاهْ
أما جنى البالغة من العمر 20 عاما فقد قالت عن الأغاني الشعبية الفلسطينية "أنا لا أحب هذا اللون من الأغاني الشعبية انه ممل وأفضل السماع للمسجل أو الكمبيوتر أو ربما أسمعها من جهاز الموبايل، فهو مفهوم أكثر و نحن نعرفه بشكل كبير، أما ما تردده بعض النسوة فهو كلام غير مفهوم و متقطع سرعان ما ينتهي...لا ادري ربما قد أضاعوا منه الكثير، و لكنني أفضل أن اسمع لنانسي و أليسا، و عمر دياب، أكثر من السماع لأغاني التراث القديم حيث أتابع الفنانين الجدد من خلال "ارب ايدول" و"ذا فويس" كما"ستار اكاديمي وسوبر ستار" فهذه البرامج تخرج لنا فنانين جدد أحبهم كثيرا".
إذاً لقد انقلبت الموازين و المعايير منذ ذلك الوقت إلى وقتنا هذا كما قالت الحاجة أم يوسف، فالفرح منذ قديم الزمان كان مناسبة مشتركة للكبير و الصغير للذكر و الأنثى، لكن اليوم لم يعد كذلك، فالصغير يجب أن يحرس البيت بينما الكبير يغني و يفرح.
أما من منظوري الشخصي فأفضّل سماع الأغاني والأهازيج الشعبية القديمة بدلاً من تلك الأغاني الحديثة، فما زلت أتذكر شكل العرس في قريتي تلك الأيام، و لربما لأنني أحن لتلك المراسم الاحتفالية البهيجة بفرحة العرس.
الأغاني و الأهازيج الجبلية تعبر عنا أصدق تعبير، فهي كلمات مرسومة من وحي طبيعتنا الريفية الخضراء و هي من تصميم خيالنا، و مهندسة بصوت جداتنا، و أمهاتنا و مخرجة بشكل تلقائي و منسوجة من جمال أفراحنا الصادقة، ليس هناك شيء أصدق من الكلمات التي صنعتها جدتي، و رددتها أمي، و أنا مصمم على أن أحفظها في ذاكرتي ما حييت، لأنها شيء من تراث قريتي جديرٌ بأن يحفظ و ينقش في ذاكرة الأجيال القادمة.
اعد هذا التقرير ... عزمي شقير ضمن مشروع الاعلام الريفي