:مصدر المقال
https://ajalia.com/article/4274

نتائج انتخابات تونس تشكل <<نكسة>> للاسلام السياسي و<<انتصار>> للتيارات الليبرالية واليسارية

2014-10-28

انتهت الانتخابات التشريعية في تونس لانتخاب برلمان جديد دائم مدته خمس سنوات، واظهرت نتائج الفرز الاولية تقدم حزب “نداء تونس الذي تأسس قبل اقل من عامين بزعامة السيد الباجي قايد السبسي رئيس الوزراء الاسبق الى المرتبة الاولى، يليه حزب النهضة الاسلامي برئاسة الشيخ راشد الغنوشي، بينما حل في المرتبة الثالثة حزب الجبهة الشعبية اليساري القومي، وفي الرابعة حزب الاتحاد الوطني الذي يعتبر “الحصان الاسود” في هذه الانتخابات.
هذه النتائج جاءت بمثابة “تسونامي” هز الخريطة السياسية التونسية، وجرف امامه العديد من الاحزاب السابقة التي احتلت المراتب الثانية والثالثة والرابعة في انتخابات تشرين الاول (اكتوبر) عام 2011، وجاءت بالبرلمان التأسيسي مثل حزب المؤتمر الذي يتزعمه الرئيس التونسي المنصف المرزوقي، وحزب “التكتل” الذي يرأسه السيد مصطفى بن جعفر رئيس البرلمان المؤقت، وحزب “المحبة” الذي يتزعمه السيد الهاشمي الحامدي وكان مفاجأة الانتخابات الماضية.
فوز “نداء تونس بالمرتبة الاولى متقدما بأكثر من عشر نقاط (37 بالمئة) على الاقل على منافسه حزب “النهضة” جاء مفاجأة للكثيرين في تونس والمنطقة بأسرها، لان معظم التوقعات كانت ترشح الاخير للفوز بأكثر من اربعين في المئة من الاصوات، وهذا لم يحدث، وربما لن تزيد نسبة الاصوات التي حصل عليها عن 25 بالمئة، وهي نسبة “صادمة” بالنسبة للحزب وقيادته ومؤيديه.
نتائج الانتخابات هذه اثارت حالة من الارتياح في اوساط الشعب التونسي، وبددت مخاوف متعاظمة لدى الناخب التونسي من هيمنة حزب واحد (النهضة) على العملية السياسية في البلاد انعكست في الاقبال المتوسط على صناديق الاقتراع (62 بالمئة).
الناخب التونسي اظهر حالة كبيرة من الوعي الانتخابي والسياسي معا، عندما لم ينخدع بالوعود البراقة لبرامج “مسلوقة” في معظمها، وقرر عقاب احزاب عديدة من بينها حزبي “الترويكا” المؤتمر والتكتل اللذين تحالفا مع حزب النهضة وقاد مثلثهم البلاد في المرحلة الانتقالية، وهي قيادة ثبت تواضع امكانياتها وعدم قدرتها على ادارة دفة الحكم بمهارة، واخراج البلاد من ازماتها الامنية والاقتصادية ومواجهة موجات الارهاب التي اجتاحتها، لقد وجه لهما “ضربة قاضمة” من الصعب ان يقفوا على ارجلهم من تأثيرها في المستقبل القريب.
الاسلام السياسي في تونس مني بضربة كبرى تمثلت في تراجع حزب “النهضة”، ولم يعد الحزب “صانع الملوك”، ولولا انه انسحب من الحياة السياسية قبل بضعة اشهر قابلا بحكومة تكنوقراط بزعامة السيد المهدي جمعة، لجاءت خسائره اكبر بكثير في الانتخابات التشريعية الاخيرة، فانسحابه من السلطة كانت خطوة ناجحة، انقذت البلاد والحزب نفسه من الانهيار اولا، وقلصت خسائره الى درجة كبيرة، ثانيا.
الخطأ الاكبر الذي ارتكبه الشيخ الغنوشي في رأي هذه الصحيفة تراجعه عن نواياه بالتحالف مع السيد الباجي قايد السبسي، وتعيينه رئيسا للجمهورية التونسية بعد انتخابات تشرين الاول (اكتوبر) عام 2011 استجابة للضغوط وتهديدات الدكتور المنصف المرزوقي وبعض حلفاء حزب “النهضة” في الخارج، ولو قاوم هذه الضغوط فعلا، وتمسك بالسيد السبسي رئيسا للجمهورية في الفترة الانتقالية المقيدة بفترة عام فقط، لم دفع به الى الاقدام على خطوته المتحدية وتشكيل تكتل “نداء تونس، ويسلب الحكم من النهضة.
السيد السبسي ابلغ رئيس تحرير هذه الصحيفة يوم انتخابات عام 2011 ان وفدا من حزب النهضة برئاسة الشيخ الغنوشي مصحوبا بالسيدين حمادي الجبالي امين عام الحزب، وعلي العريضي رئيس الوزراء السابق زار السيد السبسي في منزل ابنته في منطقة المرسى، وقبالة فندق “الموفيمبيك”..، وفاتحوه بتولي منصب رئيس الجمهورية لان تونس الثورة بحاجة الى واجهة ليبرالية حداثية تملك الخبرة في العلاقات الدولية، وان الاختيار وقع عليه باعتباره يملك هذه المؤهلات والخبرات، واثبت قدرته في قيادة البلاد الى بر الامان في فترة ما بعد الثورة، ونجح في الاعداد لاول انتخابات برلمانية تأسيسية بعد اسقاط النظام السابق.
السيد السبسي من المرشحين الابرز في الانتخابات الرئاسية التي ستجرى في الثلث الاخير من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، ومن غير المستبعد ان تكون حظوظه كبيرة جدا بالفوز فيها، بعد انهيار حزب الرئيس المرزوقي في الانتخابات البرلمانية وحصوله على اقل من اثنين في المئة في الانتخابات البرلمانية الاخيرة، وتراجع قوة حزب النهضة حليفة وداعمه الاساسي.
هناك من يجادل في تونس بأن “نداء تونس وحلفاءه لا يجب ان يسيطروا على اهم ثلاث مراكز في الدولة مثل رئاسة الجمهورية ورئاسة البرلمان ورئاسة مجلس الوزراء، لان هذا يجسد ديكتاتورية الحزب او التحالف الواحد، ولكن هذا الجدل يمكن الرد عليه بكل بساطة بأن “حزب النهضة” وحلفاءه فعلوا الشيء نفسه طوال السنوات الثلاث الماضية، ويذهب اصحاب هذا الرأي من التونسيين الى ما هو ابعد من ذلك، ويقولون ان حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه السيد رجب طيب اردوغان سيطر ويسيطر على الرئاسات الثلاث على مدى السنوات الـ13 الماضية، والسيد اردوغان يعتبر القدوة والنموذج للكثير من الاحزاب الاسلامية العربية وعلى رأسها حزب النهضة ورئيسة الشيخ الغنوشي.
السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هذه الايام هو حول احتمالات تشكيل ائتلاف حاكم بين الحزبين الكبيرين، اي حزب “نداء تونس وحزب “النهضة” يتولى تشكيل حكومة وحدة وطنية تقود البلاد في المرحلة المقبلة.
لا شيء في تونس “غير وارد” هذه الايام، فالاتصالات بين زعيمي الحزبين لم تنقطع مطلقا فقد اظهرا “براغماتية” غير مسبوقة، واطراء بعضهما البعض في الفترة الاخيرة في جميع المناسبات اثارت استغراب الجميع، واليوم الاثنين دعا الشيخ الغنوشي في بيانه الذي اعترف فيه باحتلال حزبه المركز الثاني، وتسليمه بنتائج الاقتراع، وطالب بتشكيل حكومة وحدة وطنية للمرحلة المقبلة، مما يؤكد هذه البراغماتية مجددا وفي مثل هذا التوقيت المفصلي.
الجدل الذي بدأ يسيطر على مقاهي ولقاءات النخبة السياسية هو عما اذا كان الرئيس الجمهوري الحالي الدكتور المرزوقي يملك الصلاحية لتكليف الحزب الفائز بالمركز الاول لتأليف الحكومة الجديدة، ام يترك هذه المهمة للرئيس الجديد الذي سينتخب بعد شهر؟
في جميع الاحوال فإن تراجع حظوظ حزب النهضة في الانتخابات التشريعية الاخيرة يشكل نكسة اخرى للاسلام السياسي المعتدل، بعد النكستين الاخيرتين في مصر وليبيا، ولعل نكسة تونس اهمها واخطرها، لان ما اطاح بحركة الاخوان المسلمين من السلطة في مصر انقلاب عسكري، بينما اطاح بسلطة حزب النهضة في تونس انقلاب سياسي ديمقراطي عبر صناديق الاقتراع، ومثلما “شيطن” الاعلام المصري حركة “الاخوان المسلمين” ولعب دورا كبيرا في اسقاط الرئيس مرسي من خلال التركيز على فشل حكمه، فان بعض وسائل الاعلام التونسي لعب دورا مماثلا ولكن باحترافية ومهنية اكبر، وهذا الرأي عبرت عنه قيادة الحزب في الايام الاخيرة.
واللافت ان استطلاعات مراكز “سبر الآراء” في تونس اظهرت ان برامج المنوعات السياسية في محطات التلفزة التونسية اثرت في الاختيارات الانتخابية لاكثر من 40 بالمئة من الناخبين التونسيين، ومعظم هذه المحطات لم تكن في معظمها “صديقة” لحركة النهضة في جميع الاحوال.
انتخابات تونس قلبت كل المعادلات السياسية القائمة حاليا واظهرت من جديد قوة “المجتمع المدني” العائدة بصورة لافتة بعد تعثر الثورات العربية التي تزعم معظمها الاسلاميون وحصدوا نتائج انتخاباتها الاولى.
المرأة التونسية لعبت دورا لا يمكن التقليل من اهميته في تغيير دفة نتائج الاقتراع لمصلحة “نداء تونس واحزاب علمانية اخرى، بمشاركتها القوية والفاعلة في العملية السياسية، ولا شك ان بعض اخطاء حزب النهضة والترويكا الثلاثية التي اسسها سهلت مهمة تيارات المعارضة العلمانية في تغيير الخريطة السياسية بالشكل الذي عكسته الانتخابات.
انتخابات تونس التشريعية درس مهم، وعلامة فارقة في المنطقة العربية بأسرها، ومثلما كانت تونس فرس السبق في الثورات العربية، فانها تعود مرة اخرى وتعكس مسار هذه الثورات، ولكن بطريقة ديمقراطية نزيهة وحضارية ولو الى حين.
“راي اليوم”