ألمانيا الموحدة لا تزال تفتقد إلى سياسة خارجية
2014-11-17
بقلم: فيليب ستيفنز
ألمانيا تنظر في أمر سياستها الخارجية. إذا قلنا إن حكومة أنجيلا ميركل تبنت هذه المهمة بحماس جامح سيكون في ذلك شيء من المبالغة. بعد 25 عاما على سقوط جدار برلين لا يزال معظم الألمان يفضلون الاختباء وراء التاريخ. بيع السيارات والآلات في الخارج شيء، لكن أن تلعب دورا نشطا في عالم مختل، أو مفكك، فهذا أمر آخر تماما. لكن دخول روسيا إلى أوكرانيا حرم ميركل من الخيار.
اسأل الدبلوماسيين حول مَن الذي يدير رد الغرب على فلاديمير بوتين، والجواب هو ميركل. في الغالب لا يسمع المرء مسؤولين أميركيين يتطوعون ويقولون أن رئيسهم يلعب دورا ثانويا. لكن باراك أوباما لديه أشياء أخرى في ذهنه – من بينها انحدار الشرق الأوسط في حالة من الفوضى العنيفة، ومرض إيبولا، والصين. وعلى أي حال أوكرانيا في الفناء الخلفي لأوروبا، لذا ميركل هي التي تتحدث إلى موسكو.
كانت الحياة أبسط خلال الحرب الباردة. وضعت حكومة بون بوصلة سياستها الخارجية من خلال هدفين: جمع الشمل مع الشرق والمصالحة في أوروبا متكاملة. ورأى هيلموت كول أن مهمته هي أن يصنع لأوروبا ألمانيا موحدة آمنة. والسعي لتحقيق هذا الهدف الوجودي اقتضى شيئا أكثر تعقيدا من علاقة وثيقة مع واشنطن وشراكة أوثق مع باريس.
كانت هناك عقبات في بعض الأحيان. اختلفت بون مع الولايات المتحدة حول مبادرات فيلي برانت باتجاه موسكو، ومع فرنسا بشأن الإدارة الاقتصادية الأوروبية. لكن الولاء للحلف الأطلسي، والاحترام لباريس داخل الاتحاد الأوروبي، أنشآ الإطار المنظم للعلاقة.
خلال ربع قرن منذ انهيار جدار برلين خففت الحكومات المتعاقبة إلى حد ما، قيدا دستوريا يحول دون مشاركة ألمانيا في الحروب الخارجية. ولعبت برلين دورا في كوسوفو وأرسلت جنودها إلى أفغانستان. وانضمت إلى بعثات المراقبة في إفريقيا وعمليات مكافحة القرصنة في المحيط الهندي. ومع ذلك، العقلية السياسية في برلين ظلت سلبية. فقد وقف جيرهارد شرويدر ضد الحرب على العراق. أما خليفته، السيدة ميركل، فقد عارضت التدخل للإطاحة بمعمر القذافي في ليبيا.
قرار بوتين بضم شبه جزيرة القرم وتوغله في شرق أوكرانيا عملا على تغيير قواعد اللعبة الجيوسياسية. فقد قلبت موسكو الافتراض المنظِّم للأمن الأوروبي في فترة ما بعد الحرب، المتمثل في أنه لا يمكن مرة أخرى تبديل الحدود الوطنية أبدا بالقوة العسكرية. بالتالي الجغرافيا والوزن الاقتصادي النسبي ـ وغياب القيادة الأميركية ـ تقتضي أن تشكل ألمانيا رد الغرب.
يواكيم غاوك، الرئيس الألماني، توقع التغيير عندما تحدث في مؤتمر الأمن في ميونيخ هذا العام. كانت ألمانيا قد ازدهرت في عالم من القواعد والأعراف الدولية. والآن يتعرض هذا النظام للتحدي: "لا أعتقد أن ألمانيا يمكن ببساطة أن تستمر كما كان الحال من قبل".
فرانك فالتر شتاينماير، وزير الخارجية، يطرح الفكرة نفسها باعتبارها جزءا من ممارسة لتحديث نظرة العالم إلى إلمانيا. فهي دولة كبيرة جدا ولديها اقتصاد قوي جدا على نحو لا يجعلها "مجرد مراقب للأحداث العالمية من على الهامش". وفي التقاليد التوافقية للجمهورية الاتحادية، الوزير شتاينماير يريد دفع جمهور متشكك نحو الاعتراف بضرورة المشاركة الدولية. وقد رافق الخطب الوزارية لقاءات مفتوحة. وإحدى النتائج غير المقصودة من العدوان الروسي في أوكرانيا كانت مساعدة تلك العملية على طول الطريق. فحتى الرجال الشجعان الذين يميلون إلى علاقات تقارب قديمة يكافحون هذه الأيام للدفاع عن حجة بوتين.
من جانبها، اكتسبت ميركل بعض الاستحسان لطريقة تعاملها بخصوص عقوبات الاتحاد الأوروبي ضد روسيا. كانت المستشارة بطيئة جدا وحذرة في البداية، لكنها أظهرت منذ ذلك الوقت قدراً من العزم. ماتيو رينزي، رئيس وزراء إيطاليا، يعتبر نفسه سياسيا من حزب اليسار، لكنه كان متحمسا تماما، مثل سيلفيو برلسكوني، في الدفاع عن علاقة إيطاليا التجارية الوثيقة مع نظام بوتين. لكن ميركل انتقدته بشدة.
ورينزي ليس وحده مَن يعبّر عن احترامه لموسكو. فالمجري فيكتور أوربان لا يخفي إعجابه بالرئيس الروسي. وعلى الجانب الآخر من الطاولة هناك بولندا ودول البلطيق التي دعت بشكل مفهوم إلى موقف أكثر تشددا ضد موسكو. هنا التاريخ يترك خوفا دائم الحضور في وارسو، مفاده أن برلين ستشعر بالإغراء لعقد صفقة مع موسكو فوق رؤوس جيرانها.
لكن رغم كل هذه الجهود الدبلوماسية الماهرة، هناك شيء مهم مفقود سواء في فرز الأصوات الدقيق للرأي العام التابع لشتاينماير، أو جهد ميركل في جمع أوروبا معا. إنها مسألة عقلية - الفجوة بين القيادة المحسوبة لتحديد مسار معين، وبين النهج الذي يقوم بتوجيه المزاج السائد.
بطبيعة الحال، اتفاق الآراء مفيد لكنه ليس بديلا عن الخيارات السياسية. الخطر هو أن استجابة أوروبا لأحداث أوكرانيا مدفوعة بالقاسم المشترك الأدنى، بدلا من الجهد المصمم لردع بوتين. ومباركة موسكو (لتي هي نوع من التحدي)، الأسبوع الماضي، لإجراء انتخابات صورية في شرق أوكرانيا الذي تسيطر عليه روسيا تشير على وجه التحديد إلى هذا الخطر.
لقد أنشأت ميركل سيرتها السياسية على الحذر – من حيث قياس درجة الحرارة ووزن جميع الخيارات قبل اتخاذ قرار معين. هذا النهج أفادها كثيرا. لكن الزعامة في السياسة الخارجية تتطلب شيئاً أكبر: فهم حقيقة أن عدم القيام بشيء يمكن أن يكون أخطر من القيام بشيء ما، والاستعداد للتراجع أمام الجمهور. ربما يكون الإجماع مريحاً، لكنه لا يثير الذين هم من أمثال بوتين.
عن "فاينانشيال تايمز"
ألمانيا تنظر في أمر سياستها الخارجية. إذا قلنا إن حكومة أنجيلا ميركل تبنت هذه المهمة بحماس جامح سيكون في ذلك شيء من المبالغة. بعد 25 عاما على سقوط جدار برلين لا يزال معظم الألمان يفضلون الاختباء وراء التاريخ. بيع السيارات والآلات في الخارج شيء، لكن أن تلعب دورا نشطا في عالم مختل، أو مفكك، فهذا أمر آخر تماما. لكن دخول روسيا إلى أوكرانيا حرم ميركل من الخيار.
اسأل الدبلوماسيين حول مَن الذي يدير رد الغرب على فلاديمير بوتين، والجواب هو ميركل. في الغالب لا يسمع المرء مسؤولين أميركيين يتطوعون ويقولون أن رئيسهم يلعب دورا ثانويا. لكن باراك أوباما لديه أشياء أخرى في ذهنه – من بينها انحدار الشرق الأوسط في حالة من الفوضى العنيفة، ومرض إيبولا، والصين. وعلى أي حال أوكرانيا في الفناء الخلفي لأوروبا، لذا ميركل هي التي تتحدث إلى موسكو.
كانت الحياة أبسط خلال الحرب الباردة. وضعت حكومة بون بوصلة سياستها الخارجية من خلال هدفين: جمع الشمل مع الشرق والمصالحة في أوروبا متكاملة. ورأى هيلموت كول أن مهمته هي أن يصنع لأوروبا ألمانيا موحدة آمنة. والسعي لتحقيق هذا الهدف الوجودي اقتضى شيئا أكثر تعقيدا من علاقة وثيقة مع واشنطن وشراكة أوثق مع باريس.
كانت هناك عقبات في بعض الأحيان. اختلفت بون مع الولايات المتحدة حول مبادرات فيلي برانت باتجاه موسكو، ومع فرنسا بشأن الإدارة الاقتصادية الأوروبية. لكن الولاء للحلف الأطلسي، والاحترام لباريس داخل الاتحاد الأوروبي، أنشآ الإطار المنظم للعلاقة.
خلال ربع قرن منذ انهيار جدار برلين خففت الحكومات المتعاقبة إلى حد ما، قيدا دستوريا يحول دون مشاركة ألمانيا في الحروب الخارجية. ولعبت برلين دورا في كوسوفو وأرسلت جنودها إلى أفغانستان. وانضمت إلى بعثات المراقبة في إفريقيا وعمليات مكافحة القرصنة في المحيط الهندي. ومع ذلك، العقلية السياسية في برلين ظلت سلبية. فقد وقف جيرهارد شرويدر ضد الحرب على العراق. أما خليفته، السيدة ميركل، فقد عارضت التدخل للإطاحة بمعمر القذافي في ليبيا.
قرار بوتين بضم شبه جزيرة القرم وتوغله في شرق أوكرانيا عملا على تغيير قواعد اللعبة الجيوسياسية. فقد قلبت موسكو الافتراض المنظِّم للأمن الأوروبي في فترة ما بعد الحرب، المتمثل في أنه لا يمكن مرة أخرى تبديل الحدود الوطنية أبدا بالقوة العسكرية. بالتالي الجغرافيا والوزن الاقتصادي النسبي ـ وغياب القيادة الأميركية ـ تقتضي أن تشكل ألمانيا رد الغرب.
يواكيم غاوك، الرئيس الألماني، توقع التغيير عندما تحدث في مؤتمر الأمن في ميونيخ هذا العام. كانت ألمانيا قد ازدهرت في عالم من القواعد والأعراف الدولية. والآن يتعرض هذا النظام للتحدي: "لا أعتقد أن ألمانيا يمكن ببساطة أن تستمر كما كان الحال من قبل".
فرانك فالتر شتاينماير، وزير الخارجية، يطرح الفكرة نفسها باعتبارها جزءا من ممارسة لتحديث نظرة العالم إلى إلمانيا. فهي دولة كبيرة جدا ولديها اقتصاد قوي جدا على نحو لا يجعلها "مجرد مراقب للأحداث العالمية من على الهامش". وفي التقاليد التوافقية للجمهورية الاتحادية، الوزير شتاينماير يريد دفع جمهور متشكك نحو الاعتراف بضرورة المشاركة الدولية. وقد رافق الخطب الوزارية لقاءات مفتوحة. وإحدى النتائج غير المقصودة من العدوان الروسي في أوكرانيا كانت مساعدة تلك العملية على طول الطريق. فحتى الرجال الشجعان الذين يميلون إلى علاقات تقارب قديمة يكافحون هذه الأيام للدفاع عن حجة بوتين.
من جانبها، اكتسبت ميركل بعض الاستحسان لطريقة تعاملها بخصوص عقوبات الاتحاد الأوروبي ضد روسيا. كانت المستشارة بطيئة جدا وحذرة في البداية، لكنها أظهرت منذ ذلك الوقت قدراً من العزم. ماتيو رينزي، رئيس وزراء إيطاليا، يعتبر نفسه سياسيا من حزب اليسار، لكنه كان متحمسا تماما، مثل سيلفيو برلسكوني، في الدفاع عن علاقة إيطاليا التجارية الوثيقة مع نظام بوتين. لكن ميركل انتقدته بشدة.
ورينزي ليس وحده مَن يعبّر عن احترامه لموسكو. فالمجري فيكتور أوربان لا يخفي إعجابه بالرئيس الروسي. وعلى الجانب الآخر من الطاولة هناك بولندا ودول البلطيق التي دعت بشكل مفهوم إلى موقف أكثر تشددا ضد موسكو. هنا التاريخ يترك خوفا دائم الحضور في وارسو، مفاده أن برلين ستشعر بالإغراء لعقد صفقة مع موسكو فوق رؤوس جيرانها.
لكن رغم كل هذه الجهود الدبلوماسية الماهرة، هناك شيء مهم مفقود سواء في فرز الأصوات الدقيق للرأي العام التابع لشتاينماير، أو جهد ميركل في جمع أوروبا معا. إنها مسألة عقلية - الفجوة بين القيادة المحسوبة لتحديد مسار معين، وبين النهج الذي يقوم بتوجيه المزاج السائد.
بطبيعة الحال، اتفاق الآراء مفيد لكنه ليس بديلا عن الخيارات السياسية. الخطر هو أن استجابة أوروبا لأحداث أوكرانيا مدفوعة بالقاسم المشترك الأدنى، بدلا من الجهد المصمم لردع بوتين. ومباركة موسكو (لتي هي نوع من التحدي)، الأسبوع الماضي، لإجراء انتخابات صورية في شرق أوكرانيا الذي تسيطر عليه روسيا تشير على وجه التحديد إلى هذا الخطر.
لقد أنشأت ميركل سيرتها السياسية على الحذر – من حيث قياس درجة الحرارة ووزن جميع الخيارات قبل اتخاذ قرار معين. هذا النهج أفادها كثيرا. لكن الزعامة في السياسة الخارجية تتطلب شيئاً أكبر: فهم حقيقة أن عدم القيام بشيء يمكن أن يكون أخطر من القيام بشيء ما، والاستعداد للتراجع أمام الجمهور. ربما يكون الإجماع مريحاً، لكنه لا يثير الذين هم من أمثال بوتين.
عن "فاينانشيال تايمز"