تداعيات العدوان- محمد السهلي
2014-11-23
تأتي عملية القدس الأخيرة في ذروة الاحتقان الذي تعيشه الأراضي الفلسطينية المحتلة والذي فجر مواجهات مع قوات الاحتلال والمستوطنين في القدس وأنحاء الضفة الفلسطينية، بعد أشهر متصلة من الاعتداءات والاستفزازات الإسرائيلية بدءا من قتل الفتى أبو خضير على يد المستوطنين وما سبق ذلك وما تلاه من جرائم منهجية بحق الفلسطينيين.
كما تأتي العملية بعد حرب إسرائيلية شعواء على قطاع غزة وأهله امتدت لأكثر من خمسين يوما أوقعت آلاف الشهداء والجرحى ودمرت ما دمرته من منازل الفلسطينيين ومؤسساتهم ومدارس أطفالهم.
أمام كل هذا، لم يحرك المجتمع الدولي ساكنا للجم آلة القتل الإسرائيلية وحماية الشعب الفلسطيني الأعزل من بطش العدوان وعربدة المستوطنين وجيش الاحتلال، فيما سارع معظم أقطابه إلى التنديد بالعملية الفلسطينية في القدس الغربية دون ربط وقوعها باستمرار الاحتلال وحملات الاستيطان والتهويد.
العقدة الأساسية في الموقف الغربي مما يجري في الأراضي الفلسطينية المحتلة أنه يرى أن إنهاء الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي ممكن فقط عبر التسوية السياسية بالشروط ذاتها التي انطلقت وفقها عقب اتفاقات أوسلو، على الرغم من أن أقطاب المجتمع الدولي تدرك أن هذا الطريق وصل إلى الحائط المسدود، وأنه فتح على صراعات وانفجارات كبرى في الوقت الذي يدعي فيه من رسم مساره أنه مؤهل لإنهاء الصراع وإحلال السلام!
وبينما أقرت الأمم المتحدة حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وعبرت رزمة من قراراتها المتوالية على تأمين الحقوق الوطنية الفلسطينية بما فيها حق عودة لاجئيه إلى ديارهم وممتلكاتهم التي طردوا منها، نرى عملية التسوية المطروحة منذ عقود تقصي هذه القرارات على أساس العملية السياسية لإنهاء الصراع، وبذلك أفشلت العملية حتى قبل أن تبدأ، لأن السير فيها كان يعني للشعب الفلسطيني المصادقة على تصفية قضيته وشطب حقوقه.
فالقدس التي تتواصل الحملات الصهيونية لتهويدها وتكريسها عاصمة أبدية لإسرائيل هي ضمن الأراضي الفلسطينية المحتلة بعدوان العام 1967، وهي عاصمة للدولة الفلسطينية المفترضة، وقد أقرت الأمم المتحدة ذلك، وكان أخر قراراتها في هذا الشأن في خريف العام 2012 عندما قرر المنتدى الدولي ترقية وضع فلسطين في الأمم المتحدة كدولة غير عضو واقعة تحت الاحتلال على حدود الرابع من حزيران /يونيو 1967.
وما يحدث في القدس والضفة في الأساس إنما هو من حيث الجوهر نتيجة سلبية المجتمع الدولي واستنكافه عن القيام بالدور المناط به في السعي لتنفيذ القرارات التي اتخذها بخصوص القضية الفلسطينية. وما يحدث في القدس رد شعبي وسياسي فلسطيني طبيعي على السياسات التوسعية الإسرائيلية التي يواصل نتنياهو وحكومته ممارستها ويتغول في طرح العطاءات الاستيطانية دون رادع أو حسيب، مستغلا الانشغال الدولي في الحرب على «داعش» وفق أجندة أميركية لا يعرف أحد مآلاتها وانعكاساتها على مستقبل المنطقة وشعوبها.
وطالما يستمر الصمت الدولي العملي على الجرائم الإسرائيلية فإن هذا يفتح على انفجارات لا يمكن التنبؤ بحجمها ومكانها ومستواها، في ظل غياب الإرادة الدولية لإيجاد حل متوازن وشامل للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي يأخذ بنظر الاعتبار تجسيد الحقوق الوطنية الفلسطينية عبر تنفيذ قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة.
وكالعادة، ترى الحكومات الإسرائيلية في أي عمل فلسطيني ضد الاحتلال ومستوطنيه ومؤسساته فرصة لتدوير زوايا الصراع التي تشتعل بين أقطاب ائتلافاتها الحزبية والسياسية، وهذا ما يفعله نتنياهو هذه الأيام بالدعوة إلى حكومة «طوارئ» تضم جميع الأحزاب الصهيونية، وهي محاولة مكشوفة حتى لزملائه في الائتلاف الحكومي في ظل مؤشرات كبيرة على احتمال تقريب انتخابات الكنيست إلى العام القادم بالتوجه إلى انتخابات مبكرة، بعد تراكمات الملفات الخلافية بين الأحزاب الرئيسية في الائتلاف الحاكم.
ويسعى رئيس الوزراء الإسرائيلي على الدوام إلى إبقاء قوس التشدد والتطرف اليميني في المجتمع الإسرائيلي وتعبيراته السياسية الصهيونية مشدودا إلى أوسع مداياته، لما يوفره ذلك من مناخ سياسي يتيح له حرية المناورة في عقد تحالفاته الانتخابية، وهو يسعى منذ الآن إلى عقد صفقة مع رئيس حزب «البيت اليهودي» نفتالي بينت شبيهة بتلك التي عقدها مع ليبرمان قبيل إجراء الانتخابات السابقة وتشكيل قائمة انتخابية موحدة ربما تكون ثلاثية في حال سارت الأمور كما يشتهي.
من جانب مقابل، لا تبدو حتى الآن على الجانب الفلسطيني أية مؤشرات بتجاوز العطب الذي يصيب الحالة الفلسطينية جراء الانقسام الذي تفاقمت تجلياته مؤخرا في قطاع غزة على خلفية التفجيرات التي وقعت أمام منازل عدد من قياديي «فتح» قبيل الاحتفال المفترض بالذكرى العاشرة لاستشهاد الرئيس عرفات ومع استمرار هذا الوضع، تغيب تماما، إمكانية الدفع باتجاه تطوير المواجهة الشعبية والسياسية مع الاحتلال والمستوطنين، وهذا يتناقض تماما مع قرارات الإجماع الوطني والذي تجلى في أحد محطاته بقرارات المجلس المركزي الفلسطيني الذي عقد دورته في شهر نيسان / أبريل الماضي، وأكد على ضرورة مواصلة واستكمال الخطوات باتجاه إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة عقب توقيع «اتفاق الشاطئ» بين حركتي فتح وحماس، والذي ـ وللأسف ـ كان يحمل من الألغام وعوامل التفجير أكثر مما يحمل من الحلول على جبهة الانقسام.
تتراكم الأزمات الفلسطينية في الوقت الذي تفترض فيه التطورات الميدانية في الضفة والقدس توحيد الجهود الوطنية لدرء الأخطار المحيقة بالقضية الفلسطينية وعبر انفلات السياسات التوسعية والعدوانية الإسرائيلية.
فالحكومة الفلسطينية في منتصف الطريق حائرة بين الملفات الخلافية المتراكمة بين حركتي فتح وحماس، فيما قطاع غزة ينتظر إعادة إعماره وسط مؤشرات غير مشجعة بإمكانية تجاوز هذا الواقع المعقد.
ومع ذلك، فإن الطريق إلى تجاوز هذه العقدة واضح ويبدأ بتنفيذ قرارات الإجماع الوطني عبر وثائق الحوارات الشاملة التي تمت بخصوص إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة وتوفير مقومات صمود الشعب الفلسطيني كي يواصل طريقه على سكة إنجاز الحقوق في العودة والاستقلال.