:مصدر المقال
https://ajalia.com/article/48238

السياسة الخارجية الأميركية.. بين الإنعزال والتدخل( من الإستقلال وحتى بداية الحرب الباردة) 1783-1947

2020-06-13

)1)

في أصول نزعة الإنعزال

1783-1829

1- منذ أن نالت استقلالها عام 1783 وحتى نهاية ق 19، أي على امتداد ما يتجاوز المئة عام بقليل، اعتمدت الولايات المتحدة سياسة خارجية تقوم على عدم التدخل في شئون العالم (خارج الأميركيتين)، وهو ما سمي بالسياسة الإنعزالية- Isolationisme، تمييزاً لها عن السياسة التدخلية- Interventionisme.

أصل نزعة الإنعزال هذه، نجدها موثقة في «رسالة الوداع» التي وجهها أول رئيس أميركي، جورج واشنطن– George Washington (1789-1797) إلى الشعب الأميركي، قبل انتهاء ولايته بشهور قليلة (19/9/1796)، أوصى فيها باعتماد سياسة خارجية تقوم على عدم التدخل في الشؤون الداخلية لأوروبا، وسياساتها عموماً، وأكد على عدم الإنخراط في تحالفات إلا عند الضرورة القصوى، وبنية مغادرتها بعد انقضاء الظرف الذي أملاها. وقد عنى هذا، بحكم الموقع الذي كانت تحتله أوروبا (ومن ضمنها روسيا) في قيادة العالم بلا مُنازع، وما انفكت ترسخه حتى نهاية ق 19، أن المُخاطب من خلال أوروبا هو العالم القديم، أي العالم الفاعل في الإقتصاد، والأمن، والعلوم، والتكنولوجيا، والسياسة الدولية عموماً.

من جهته، أكد توماس جيفرسون– Thomas Jefferson، الرئيس الثالث (1801-1809) هذا المنحى في السياسة الخارجية للولايات المتحدة في الخطاب الإفتتاحي لولايته الأولى (4/3/1801)، عندما شكر الأقدار التي شاءت أن تحمي أميركا، بـ «جدار» المحيط الأطلسي، من فوضى أوروبا واضطراباتها، مشيراً إلى أن هدف سياسته هو إحقاق السلام وازدهار التجارة وتوطيد الصداقة مع جميع الأمم، دون الدخول بتعقيدات التحالفات مع القوى الأوروبية وصراعاتها- entangling alliances.

الرئيس الخامس، جيمس مونرو- James Monroe (1817-1825)، هو أول من عمم عقيدة إنعزال الولايات المتحدة عن أوروبا، على أميركا اللاتينية بأسرها، لقطع الطريق على مساعي إسبانيا بدعم من دول «التحالف المقدس» (روسيا، النمسا، بروسيا، فرنسا) لاستعادة سيطرتها الإستعمارية على الدول التي انعتقت منها (الأرجنتين، تشيلي، كولومبيا، المكسيك)، فاعترف بها دولاً مستقلة، وألحق اعترافه في 2/12/1823 بإعلان «عقيدة مونرو» تحت شعار «أميركا للأميركيين»، تضمنت توجيه إنذار إلى القوى الأوروبية (بما فيه روسيا) مفاده اعتبار الولايات المتحدة أي عمل يرمي إلى إعادة السيطرة الإستعمارية على دول أنجزت استقلالها في أميركا اللاتينية، أو الإستيلاء على مستعمرات جديدة فيها، تهديداً للأمن القومي للولايات المتحدة، التي– بالمقابل- لن تتدخل في الشؤون الأوروبية، بما فيه مستعمراتها القائمة في الكاريبي وجنوب أميركا.

إذن، تبلورت عقيدة إنعزال أميركا عن العالم القديم، على يد ثلاثة رؤساء من صف «الآباء المؤسسين» (الستة)، في سياقات مفصلية: واشنطن-1796؛ جيفرسون-1801؛ مونرو-1823؛ وانتقلت هذه العقيدة السياسية من التخصيص (الولايات المتحدة) إلى التعميم (القارة اللاتينية)، واضعة نصب الأعين حماية استقلال الدول الناشئة في اللاتينية من عودة الإستعمار القديم إليها، كما وحمايتها من غواية إقحام نفسها في صراعات أوروبا الداخلية، وتناقضاتها.

2-■ عقيدة انعزال العالم الجديد عن العالم القديم باتجاهيها: لا تدخل من العالم في شؤون القارة، ولا تدخل من القارة في شؤون العالم، انطلقت أيضاً من أولوية بناء الذات في قارة بكر ذات كثافة سكانية ضعيفة، وبمساحات شاسعة غير مسكونة أصلاً، قارة تختزن من الخيرات ما يفيض بأضعاف مضاعفة عن احتياجات سكانها، و«زاخرة بالمناطق الخصبة الصالحة لاستيعاب الآلاف من الأجيال القادمة» (جيفرسون في الخطاب الإفتتاحي لولايته الأولى)؛ وأخيراً، قارة تقترب مساحتها (42,8 مليون كم2 تساوي 31% من مساحة اليابسة في العالم) من مساحة آسيا – القارة الأم (44,4 مليون كم2 تساوي 32,6% من مساحة اليابسة في العالم).

إذا كان ما تقدم يندرج في إطار أولوية عملية «بناء الأمم» بمنأى عن التدخلات الخارجية، فهو ينطبق بشكل خاص على الولايات المتحدة التي تشكلت، بداية، من 13 مستعمرة (تحوَّلت فيما بعد إلى 16 ولاية من أصل 50)، وواصلت توسعها في ق 19 بوتيرة مذهلة، بطرق ووسائل شتّى، جمعت ما بين شراء مناطق شاسعة من دول عظمى (لويزيانا عام 1803 من فرنسا، ما أدى إلى مضاعفة مساحة الولايات المتحدة في حينها؛ ألاسكا عام 1867 من روسيا، بمساحة 1,7 مليون كم2 تساوي 17% من المساحة الحالية للولايات المتحدة)؛ وانتزاع مناطق بالحرب (من المكسيك بين 1846-1848، ومن إسبانيا– 1898)؛ وتنازل دول بعينها (بريطانيا، إسبانيا، المكسيك) بطرق متعددة عن مناطق؛ هذا دون أن ننسى استيطان وضم أراضي شاسعة تعود إلى السكان الأصليين، ما أدى إلى طردهم، والتنكيل بهم، وحصرهم بالنتيجة في معازل... وبفعل كل هذا، استمرت الولايات المتحدة بالتمدد طيلة ق 19، وآخر ما ضمته إليها كانت جزر هاواي في العام 1898 (التي تحوَّلت، ومعها ألاسكا عام 1959، إلى الولايتين 49 و50 من الإتحاد).

بناء الولايات المتحدة كدولة وأمة استدعى اجتراح منظومة فكرية، قيمية، أيديولوجية، بمرجعية دينية طهرانية متزمتة، تضطلع بتسويغ مشروع توسعي استيطاني بأبواب مُشرَّعة على كل الإتجاهات، وبكل الجرائم التي كان يرتكبها. من هنا، نشأ قاموس مصطلحي خاص بالحالة الأميركية، استخدم صيغ على غرار: الإستثنائية الأميركية التي تعني احتلال الولايات المتحدة مكانة خاصة ومتميّزة بين سائر الأمم؛ الأمة التي لا يمكن للعالم أن يَستغني عنها؛ الأمة التي تحمل للعالم رسالة الديمقراطية وحقوق الإنسان؛ الخ..

ولعل «عقيدة تكليف من القدر»- Manifest Destiny، تختزل معظم هذه المفاهيم والمصطلحات، وتُجملها بصيغة التكليف الرباني للولايات المتحدة بالتوسع على كامل مساحة أميركا الشمالية، وهي العقيدة التي احتلت مكان الصدارة في التعبئة الأيديولوجية على امتداد ق 19، بوظيفة حفز التوسع غرباً نحو المحيط الهاديء.

توازى الانعزال كعقيدة سياسية مع أيديولوجيا رسولية مسيانية، تُسَوِّغ استخدام العنف، وتبرر منطق القوة وتسنده بمنطق الحق الآتي من علٍ. لذا، ومع تنامي قوة الولايات المتحدة، لم تكن سوى مسألة وقت، حتى تنتقل سياسة العنف بمنطق القوة، من دائرة الولايات المتحدة في سياق مشروع بناء الأمة والدولة، إلى دائرة الجوار القريب، ما أضفى على مقولة «أميركا للأميركيين»، التي عَنَت بداية، حماية دول القارة اللاتينية من الاستعمار القديم، أضفى عليها تدريجياً معنى «الحديقة الخلفية» للولايات المتحدة. وهذا ما وقع، عندما بدأت السياسة الخارجية الأميركية في نهاية ق 19، تنتقل من الإنعزال إلى التدخل، فاكتست صفة الإمبريالية

(2)

من الإنعزل إلى التدخل

1897-1921

1-■ مع رئاسة وليم ماكنلي- William Mckinley (1897-1901)، وبالتوازي مع تعاظم قوتها الإقتصادية، وبناء أسطول حربي كبير لحماية الأمن القومي للبلاد والتجارة الخارجية، تحوَّلت الولايات المتحدة إلى قوة إمبريالية منافسة لنظيراتها في العالم، قوة باحثة عن أسواق جديدة لتصريف فوائضها الزراعية والصناعية. وفي هذا الإطار، تمخضت الحرب الأميركية – الإسبانية (1898) عن هزيمة الأخيرة، ما نجم عنه استيلاء الولايات المتحدة على جزر هاواي + جزيرة غوام + الفيليبين (منصة الإنطلاق نحو السوق الصينية العملاقة) في الميحط الهاديء؛ إلى جانب بورتوريكو في البحر الكاريبي، ذات الموقع الإستراتيجي المثالي لحماية مشروع قناة بنما قيد التحضير.

بحربها ضد إسبانيا، افتتحت الولايات المتحدة مرحلة دخولها القوي إلى حلبة السياسة الدولية، على قدم المساواة مع القوى العظمى في ذلك الحين، وتحوَّلت البحرية الأميركية (الأسطول الحربي) إلى واسطة قوة وسيطرة من الطراز الأول، فبات مركز القرار السياسي في واشنطن يجمع، بين يديه، مقومات القوة ووسائطها في آن، لتنفيذ سياسة إمبريالية تدخلية فاعلة، أي: مقومات القوة التي تشمل الإقتصاد، والكتلة السكانية الوازنة، والمساحة الممتدة، والموقع الجيوستراتيجي المتميّز، المطل على المحيطين؛ كما ووسائل القوة القائمة على ميزة القدرة على الإنتشار العسكري السريع بواسطة البحرية، على قوس واسع في أرجاء العالم.

2- استمرت هذه السياسة بدينامية أعلى مع رئاسة تيودور روزڤلت- Theodore Roosvelt (1901-1909) صاحب «عقيدة العصا الغليظة»، التي لخصها كما يلي: «تكلم بنعومة، واحمل عصا غليظة، وستصل بعيداً في مسعاك»، حيث العصا الغليظة تعني البحرية، التي اعتبر روزڤلت مواصلة بنائها وتقويتها إحدى ركيزتي السياسة الخارجية لبلاده (إلى جانب «عقيدة مونرو»)، كما ورد في خطابه أمام الكونجرس في بداية ولايته (12/1901)، ما جعل الولايات المتحدة في نهاية عهده (1909) تحتل موقع القوة البحرية الثانية في العالم (بعد بريطانيا العظمى)، كما جعلها تصعد إلى مصاف القوة العالمية.

«إمبريالية» روزڤلت قامت على ضمان التفوق العسكري الأميركي في حوض الكاريبي، ما استوجب إضافة ملحق - Corollary إلى «عقيدة مونرو»، في كانون الأول(ديسمبر) 1904، نص على تولي واشنطن وظائف أمنية (شُرَطية) في الفضاء الكاريبي، تتضمن المراقبة على سلوك الممسكين بالسلطة في دوله؛ ما ترتب عليه – بالنتيجة – اعتماد سياسة تدخلية منفلتة من عقالها، نذكر من ترجماتها إنشاء قاعدة غوانتنامو البحرية في كوبا (1903)، أعقبه بعد سنوات الإنزال البحري على شواطئها (1906)؛ فرض الرقابة الجمركية على جمهورية الدومينيكان (1905)...، دون أن ننسى ما اقتضاه شق مشروع قناة بنما (1904-1914) من دعم لحركة انفصالية تم استحضارها على عجل، إنشقت بالحرب عن كولومبيا (1903)، وأسست دولة جديدة (بنما) في أميركا الوسطى.

كان روزڤلت ينطلق من أن الإلتزام بتطبيق «عقيدة مونرو»، يمر عبر توفير القوة اللازمة لذلك، أي على ميزان القوى. من هنا، موقعية البحرية في سياسته كواسطة ردع للنزوع الأوروبي التدخلي في شئون القارة، الذي تعزز في أواخر ق 19 بانضمام ألمانيا إليه، ألمانيا الباحثة لنفسها عن «مكان تحت الشمس» (أي عن مستعمرات في آسيا، وأفريقيا، وأميركا اللاتينية). على هذه الخلفية، اشتق روزڤلت من عقيدة حماية دول القارة من مطامع أوروبا، التبرير لسياسته التدخلية، ما عنى أن «عقيدة مونرو» ينبغي – في المقام الأول – أن تخدم مصلحة الأمن القومي للولايات المتحدة، قافزاً عن واقع، ومتجاهلاً حقيقة، أن السيطرة الأميركية على دول الكاريبي، كانت مكروهة ومرفوضة من مواطنيها، بقدر ما كانت مكروهة ومرفوضة السيطرة الأوروبية.

3-■ إثر وصوله إلى البيت الأبيض بعد انقضاء ولاية روزڤلت، اعتمد وليم تافت- William Taft (1909-1913) سياسة شعارها «دبلوماسية الدولار» القائمة على توظيف الرأسمال الأميركي في التنمية الإقتصادية، في خدمة مصالح الولايات المتحدة في العالم. غير أن هذه السياسة – بمضمون إمبريالية الدولار– لم تنجح في الصين، حيث اصطدمت بمصالح الدول الإستعمارية الأخرى، وأتت الثورة الصينية (1911) فيما بعد، لكي تنهي المشاريع الإقتصادية والإستثمارية الأميركية.

أما في أميركا الوسطى، حيث تحول هذا المسعى إلى شعار «الدولار بدلاً من المدفع» (الترجمة الحرفية للشعار، هي: «الاستعاضة بالدولارات عن قذائف المدافع»)، فقد قادت التطورات في نيكاراغوا، في نهاية المطاف، إلى الزج بقوات المارينز (1912)؛ وكذا الأمر في هوندوراس، وفي جمهورية الدومينيكان؛ لا بل – أكثر من ذلك – فقد ساهمت هذه السياسة – إلى جانب عوامل أخرى - بتفجير ثورة إجتماعية في المكسيك (1910). وبالمحصلة، وإن عززت هذه السياسة سيطرة الولايات المتحدة، وأكدت نفوذها في أميركا الوسطى، فإنها – بالمقابل – ألحقت خسائر فادحة بهيبتها، وأدت إلى اهتزاز الثقة فيها.

4-■ ابتعد وودرو ويلسون- Woodrow Wilson (1913-1921) عن سياسة سلفه تافت، ومحورها الإمبريالية بواسطة دبلوماسية الدولار، لصالح سياسة أخرى مستوحاة من مباديء الديمقراطية، وطبقها بالفعل عندما رفض الإعتراف بحكومة الإنقلاب العسكري في المكسيك، وساند بالسلاح المعارضة الإصلاحية، ليجد نفسه متورطاً في حرب أهلية استغرقت أكثر من سنتين ونصف السنة (4/1914-12/1916)، قبل أن يتمكن من سحب قواته والخروج منها(!).

ويبقى الحدث الأهم، هو مشاركة الولايات المتحدة، بدءاً من 6/4/1917، في الحرب العالمية الأولى (1914-1918) التي شكلت أوروبا مسرح عملياتها الأهم، أي بعد أكثر من سنتين ونصف السنة على اندلاعها. أما السبب المباشر (من بين أسباب أخرى، يضيق المجال عن ذكرها) للدخول الأميركي في الحرب، التي جعلت واشنطن تغادر «حيادها» المعلن، فهو مواصلة ألمانيا إغراق السفن المدنية المتوجهة إلى بريطانيا، ما ألحق خسائر فادحة بالمدنيين، ومن ضمنهم ذوو التابعية الأميركية، الأمر الذي تسبب بتوليد رأي عام معادٍ لألمانيا، حيَّد، أو احتوى – بأقله - المزاج العام المعارض للمشاركة في الحرب الدائرة رحاها في أوروبا على خلفية النأي بالنفس عن الصراعات الأوروبية المتأصلة عميقاً في الوعي الأميركي، لا بل في العقيدة السياسية الحاكمة، التي تعود بجذورها إلى «وصايا» الآباء المؤسسين (واشنطن، جيفرسون، مونرو،..)، كما سبقت الإشارة.

بعد أن اعتمد ويلسون شعار «السلام بدون نصر» مع اندلاع الحرب، في إشارة إلى تجنب جني المكاسب الإمبريالية الإقليمية، التي يؤسس فيها النصر العسكري المحقق لحرب لاحقة (كما أسست حرب 1870 لحرب 1914-1918)؛ وبعد أن طالب الإكتفاء بايصال ألمانيا إلى منعرج التماس وقف إطلاق النار (Armistice)، أي ما قبل حد الإستسلام (Capitulation)؛ اعتبر ويلسون أن الولايات المتحدة تدخل الحرب من موقع الشريك لدول التفاهم (Entente)، وليس من موقع الحليف، لمعرفته بالأهداف التوسعية الإمبريالية التي يسعون إليها.

في 8/1/1918، أعلن ويلسون النقاط الـ 14 الشهيرة، ومن بين أهم نقاطها الحد من الأسلحة، ونبذ الدبلوماسية السرية، وحق تقرير المصير للشعوب، وإقامة «عصبة الأمم» لتجنب الحروب اللاحقة، وضمان السلام العالمي.

في 3/10/1918 طلبت ألمانيا وقف إطلاق النار والسلام على قاعدة النقاط الـ 14، فبلغ ويلسون ذروة نفوذه (السياسي المعنوي) عالمياً. وفي 11/11/1918 تم التوقيع على وقف إطلاق النار، وبين كانون الثاني(يناير) وأيار(مايو) 1919 تم عقد مؤتمر السلام في باريس، الذي توج بمعاهدة ڤرساي، التي نص أحد بنودها على إنشاء «عصبة الأمم». غير أن مجلس الشيوخ الأميركي رفض هذه المعاهدة (في 19/11/1919 و19/3/1920)، بما فيه المشاركة في عصبة الأمم، على خلفية التحسب لاحتمال التورط في نزاعات عسكرية قد تترتب على عضوية العصبة. وبهذا، تكون الولايات المتحدة قد انسحبت سياسياً من أوروبا، بعد أن ساهمت بحسم حربها عسكرياً، مسجلة إنكفاءً أعادها إلى تقاليد الإنعزال في السياسة الخارجية. لكن الولايات المتحدة، الدولة الرأسمالية المتعاظمة قوة، والإمبريالية موضوعياً، لم يعد بإمكانها العدول عن نهج الإنفتاح على العالم بسياسة تدخلية فاقت بأشواط كل ما سبقها، إنما بعد عقدين من الزمن

(3)

الإنكفاء النسبي

1921-1933

1-■ الرؤساء الثلاثة «الجمهوريون» (1921-1933) الذين دخلوا البيت الأبيض بعد ويلسون «الديمقراطي»، مثلوا الاتجاه القومي المحافظ في السياسة الخارجية الأميركية («أميركا أولاً»)، ما عنى: التركيز على التوسع الإقتصادي في العالم، وما يساعد على استمراره. ومن هنا، الإهتمام بمباحثات الحد من التسلح في البحار، ونبذ الحرب؛ وبالمقابل، الاستمرار في تجنب التدخل في السياسة الدولية، بما فيه الإبتعاد عن عصبة الأمم، وحتى عن محكمة العدل الدولية، أي باختصار: الانفتاح الإقتصادي على العالم، مع أقل قدر من التدخل السياسي في شئونه، وعدم التورط في صراعاته.

■ غير أن القوة المتعاظمة للولايات المتحدة، معطوفة على صلة الإقتصادي – موضوعياً – بالسياسي؛ والصراعات السياسية الكبرى الدائرة رحاها في العالم، من أوروبا إلى الشرق الأقصى، (خاصة بعد صعود الإمبريالية اليابانية)، التي دخلت على خطها الأزمة الإقتصادية – المالية الكبرى (1929-1933) من وول ستريت إبتداء، وصولاً إلى كل زوايا العالم الرأسمالي... هذه التطورات وغيرها، كانت تدفع باتجاه مغادرة الولايات المتحدة لسياسة النأي بالنفس عن الساحة الدولية، أو – الأدق – كانت تدفع نحو المزيد من الإنخراط فيها، لأن الوضع الذي نشأ بعد الحرب العالمية الأولى، والمكانة التي باتت تحتلها الولايات المتحدة في المعادلات الدولية، لم يعد يسمح لها – ولم يكن من مصلحتها أصلاً – أن تنعزل عن مجرياتها، كما كان الحال حتى عشية الإنعطافة النوعية التي طرأت على السياسة الخارجية إبّان رئاسة ماكينلي.

الظرف الموضوعي، إذن، كان يستدعي الخروج من حالة الإنكفاء النسبي، لا بل الإرادوي، عن التعاطي الأوسع مع الشأن الدولي، وبالتالي تجنب الأسلوب الإنتقائي في التعامل مع مندرجاته، بالتركيز على قضايا محددة، وإهمال أخرى.

2-■ جمعت السياسة الخارجية للرئيس وارين هاردينغ- Warren Harding (1921-1923) ما بين البراغماتية، وبين النزعة المحافظة في السياسة الدولية، فمزجت ما بين تطوير العلاقات الإقتصادية الخارجية، والإبتعاد عن عصبة الأمم، وبين المحادثات مع القوى العظمى، أو مع الدول المؤثرة، بغرض استقرار الحالة الدولية. وفي هذا الإطار، تم إيلاء اهتمام خاص لاتفاقيات السلام بين أعداء الأمس، والوضع الاقتصادي في الشرق الأقصى، بما فيه العلاقة المعقدة مع اليابان.

■ تمثل أهم حدث في السياسة الخارجية في تلك الفترة، بافتتاح «مؤتمر القوى التسع» بواشنطن (12/1921) بمشاركة: الولايات المتحدة + بلجيكا + المملكة المتحدة (بريطانيا) + الصين + فرنسا + إيطاليا + هولندا + البرتغال + اليابان. وقد بحث المؤتمر بالسبل الآيلة إلى تهدئة الأوضاع في الشرق الأقصى، في الصين ومحيطها بالتحديد، والحد من سباق التسلح في البحار، وتوصل المؤتمر في العام 1922 إلى قرار يؤكد على سيادة الصين على كامل أراضيها، وعدم جواز انتهاك حدودها. وفي سياق أعمال هذا المؤتمر انعقد مؤتمران: 1- «مؤتمر القوى الأربع» (الولايات المتحدة + بريطانيا + فرنسا + اليابان)، الذي خرج بضمانات متبادلة بين هذه الدول، بعدم جواز وقوع انتهاكات فيما بينها في نطاق المحيط الهاديء؛ 2- «مؤتمر القوى الخمس» (الـ 4 أعلاه + إيطاليا) في شباط (فبراير)1922، حيث تم الإتفاق على الحد من التسلح في البحار.

3-■ تزامنت رئاسة كالڤين كولريدج– Calvin Coolridge (1923-1929) مع بلوغ تطور الإقتصاد الأميركي ذروته في عشرينيات ق 20، فكان بإمكان السياسة الخارجية أن تستند إلى المكانة الصناعية والمالية المتقدمة عالمياً لبلادها، حيث بلغت الإستثمارات الأميركية في الخارج (ومركز ثقلها في أوروبا، كندا، واللاتينية)، رقماً قياسياً، كاد أن يساوي استثمارات بريطانيا التي تحتل الموقع الأول في هذا المضمار. وعليه، تابع كولريدج السياسة الدولية المحافظة لسلفه، فتوصل بين عامي 1923 و1926 إلى اتفاق لتسوية ديون الحرب العالمية الأولى (التعويضات)، وبمساهمة بنوك أميركية، بين مختلف المعنيين (بريطانيا، فرنسا + 11 دولة أخرى). ولعل الإنجاز الأهم للسياسة الخارجية لإدارة كولريدج، تمثل في «معاهدة نبذ الحرب» (1928) الأميركية – الفرنسية التي انضم إليها 60 بلداً، تعهدوا التخلي عن الحرب كأداة في سياسة دولهم، ما أسهم – لفترة مؤقتة – في تهدئة الوضع الدولي.

■ في اللاتينية، واصل كولريدج تقليد السياسة التدخلية في أميركا الوسطى والبحر الكاريبي، حيث تم إنزال قوات المارينز في نيكاراغوا (1926)، علماً أنه كان قد أنهى السيطرة العسكرية في جمهورية الدومينيكان قبل سنتين (1924). وفي العام 1926 مارست الخارجية الأميركية ضغطاً كثيفاً على المكسيك، من أجل تغيير قوانين تملك الأراضي واستثمار النفط، التي اعتبرتها بولشڤية(!)، لكنها تمكنت – بالنتيجة – من تحقيق تسوية مع الحكومة المكسيكية عام 1928.

4-■ تأثرت السياسة الخارجية لإدارة هيربرت هوڤر – Herbert Hoover (1929-1933) بالأزمة الإقتصادية الكبرى التي انطلقت من وول ستريت في تشرين الأول (أكتوبر) 1929، وبتراجع وضع الولايات المتحدة دولياً؛ لكنه – بالأساس – تابع سياسة سلفيه، فحافظ على موقف عدم المشاركة في عصبة الأمم، وعدم الإعتراف بالإتحاد السوڤييتي، وكان يؤمن بالتعاون الدولي، وبتضافر الجهود من أجل السلم العالمي.

في موضوع نزع السلاح، حقق هوڤر في «مؤتمر الأسطول» بلندن (1930) تسوية، قضت بتقليص حمولة السفن الحربية، لكن هذه التسوية لم تدم طويلاً. وفي «مؤتمر نزع السلاح» بجنيڤ (1932)، سعى لمنع امتلاك الجيوش أسلحة هجومية، وتقليص ملاكها إلى ثلث عديدها، دون نتيجة تذكر.

■ سعى هوڤر لتحسين العلاقة مع اللاتينية، وإزالة الإرتياب بنوايا الولايات المتحدة، وعدم الثقة بسياستها، وتفعيل العمل المشترك في القضايا الثقافية، ووقف سياسة التدخل العسكري. وفي هذا الإطار سحب المارينز قبل نهاية ولايته من نيكاراغوا، إلى جانب التحضير لخطوة مماثلة في هايتي.

■ في الشرق الأقصى، وبناء على انتهاك اليابان للإتفاقيات الموقعة بعدم المساس بسيادة الصين وسلامة أراضيها، إبّان أزمة مندشوريا (1931-1932)، طبقت الإدارة الأميركية في 7/1/1932 «عقيدة هوڤر - ستيمسون» القاضية بعدم الإعتراف بأي توسع إقليمي تجربة اليابان بالطرق العسكرية. وبالنتيجة، بقيت الأهداف التي حددها هوڤر في سنوات الأزمة بمعظمها بلا تأثير، وفشلت في منع تدهور وضع الولايات المتحدة عالمياً■

(4)

الخروج النهائي من الانعزال

1933-1945

1-■ في فترة رئاسة فرنكلين روزڤلت- (FDR) Franklin Roosvelt (1933-1945)، انتقل مفهوم التدخلية إلى حقل السياسة الداخلية، بعد أن كان استخدامه يقتصر على حقل السياسة الخارجية. وعليه، اكتسى مفهوم التدخلية بعداً جديداً تمثل بتوسيع دور الحكومة، كما لم يكن فيما مضى، في القضايا الإقتصادية والإجتماعية، وما يحيط بهما. هذا ما عكسه برنامج روزڤلت: «العقد الجديد»- The New Deal، بمضمون العقد الإجتماعي بين الدولة ورأس المال والمجتمع، الذي يوسع دور الدولة في إدارة الشأن العام، أي «دولة أكثر» بحسب المصطلح الشائع، ما أدى إلى تعاظم دور المستوى التنفيذي، وبخاصة مؤسسة الرئاسة في حكم البلاد.

■ هذا الدور استدعته أزمة الرأسمالية الكبرى في مرحلتها الإحتكارية التي انفجرت عام 1929 في الولايات المتحدة، وانداحت بتداعياتها على العالم الغربي بأسره، ما جعل الدوائر المعنية، ومراكز القرار، تدرك الحاجة الموضوعية إلى دور جديد، تدخلي، تلعبه الدولة في معالجة الخلل المتأصل في بنية النظام الرأسمالي الذي يهدد بتدميره، وفي استعادة التوازن الإقتصادي للنظام الرأسمالي، وتأمين استمراره.

■ آلية المنافسة بين الإحتكارات بمستوى الحِدَّة الذي بلغته، باتت تتطلب وجود جهة تنظم هذه المنافسة، تشكل حَكَماً بين أقطابها ومختلف احتكاراتها، دون أن تعبِّر عن مصلحة احتكار بعينه، بل هي ترعى المصلحة العليا لرأس المال، وتعمل ضابطاً ينظم العلاقة بين مختلف الأطراف، هذه الجهة هي الدولة المتسيِّدة فوق تناقضات مختلف المجاميع، والمتسلحة – موضوعياً – بالرؤية الأبعد، الرؤية الضامنة للمصلحة النهائية للرأسمالية الإحتكارية.

2-■ في السياسة الخارجية، أدرك روزڤلت، في وقت مبكر، مخاطر صعود النازية في ألمانيا، والفاشية في إيطاليا، والعسكريتاريا التوسعية في اليابان؛ وكان يرى، وهو يراقب نُذُر الحرب وهي تتجمع في أوروبا والشرق الأقصى، أن الموقع الطبيعي للولايات المتحدة هو في صف الدول المناوئة لدول المحور (ألمانيا + إيطاليا + اليابان..)؛ لكنه كان يدرك مدى تجذر المزاج الإنعزالي في بلاده، ذلك المزاج الدافع - تحت كل الظروف – للبقاء بعيداً عن الحرب المقبلة، وفي موقع آمن خلف حدود المحيطين. وقد عكس الكونجرس بدقة هذا المزاج بإصدار ما سمي بـ«قوانين الحياد» بين عامي 1935 و1937.

■ خاض روزڤلت معركة سياسية متعددة الأوجه لإقناع مواطنيه بخطورة الإنعزال عن العالم، لأن أمن ورفاه البلاد يرتبطان بأمن أوروبا وآسيا، والإخلال بميزان القوى في أوروبا، ناهيك عن انتصار دول المحور، ستترتب عليه نتائج وخيمة على الولايات المتحدة في عالم واحد مترابط الحلقات، تحكمه قاعدة التأثر والتأثير المتبادل بين مختلف مكوناته. وعليه، لا تصان المصلحة الوطنية إلا من خلال الحفاظ على السلام العالمي، وتوفير شروط استمرار الإقتصاد الحر، وضمان حق تقرير المصير للشعوب، واحترام مباديء الأمن الجماعي، الخ..

■ بنتيجة هذه الجهود التي استهدفت وعي المواطنين، استطاع روزڤلت بعد اندلاع الحرب عام 1939، وبشكل رئيسي، بفعل الصدمة الذي أحدثها إعتداء اليابان على القاعدة البحرية في بيرل هاربر عام 1941، أن يتجاوز تأثير تيار الإنعزال، وانتقل بالمزاج العام إلى حالة تدخلية هجومية، انتقلت بالولايات المتحدة - بعد تحقيق الإنتصار- إلى مصاف الدول العظمى.

■ بعد الحرب العالمية الثانية، كانت قوة الولايات المتحدة، عسكرياً، اقتصادياً، مالياً، علمياً، وثقافياً، قد بلغت درجة، جعلت من المستحيل على أي دينامية إنكفائية أن تعيدها إلى حدودها وراء المحيطين . لقد باتت الولايات المتحدة زعيمة «العالم الحر» بلا منازع، والقطب الآخر المواجه للإتحاد السوڤييتي، ما جعل التدخلية سمة ثابتة، متأصلة، وملازمة لسياستها الخارجية طيلة فترة «الحرب الباردة»، وكذلك في الفترة التي أعقبتها، أي فترة هيمنة القطب الواحد، وحتى يومنا. قد تكتسي هذه السياسة التدخلية أكثر من شكل، وتتبع أكثر من أسلوب، تبعاً لأولويات سياسة الإدارة المقيمة في البيت الأبيض وتقديراتها، لكنها لا تغير شيئاً من طبيعتها، ولا من جوهرها القائم على التدخلية الملازمة عضوياً للعولمة■