:مصدر المقال
https://ajalia.com/article/49147

ايها اللبنانيون .. سنبقى نحب بيروت

2020-08-10

ايها اللبنانيون .. سنبقى نحب بيروت

فتحي كليب، عضو المكتب السياسي للجبهـة الديمقراطيـة لتحريـر فلسطين

لفتتني رسالة بعث بها احد الاصدقاء محتجا عن أسباب البحث عن مبررات حب بيروت. رغم وجاهة هذا الاحتجاج وصحته، بأن محبة بيروت لا تحتاج الى اي مبررات، لأن كلمة الحب تكفي كي تعبر عن عشق الملايين لهذه المدينة.. لكن هناك بعض التفاصيل الصغيرة، التي قد لا تكون ملموسة لدى الكثيرين، تجعل من التعبير الدائم عن محبة بيروت ولبنان ضرورة، خاصة بالنسبة للاجئين الفلسطينيين المقيمين في لبنان الذين تربطهم ببيروت علاقة من نوع خاص..
فكلما توغلنا في دواخل بعض اللبنانيين نكتشف جديدا يضيف الى قاموسنا وفهمنا الكثير مما كنا نجهله. فحين نعتبر ان التمييز السلبي ضد الشعب الفلسطيني في لبنان، والذي يقترب من درجة العنصرية هو آفة يجب مواجهة اصحابها، نظرا للخطر الذي تشكله على نفسها وعلى المجتمع، فان هذا الاستنتاج نابع من مسار طويل من التعاطي غير الانساني من قبل فئات معينة داخل المجتمع اللبناني التي تصر على النظر الى هذا الفلسطيني نظرة مختلفة، وهي لا تعدم وسيلة، قانونية وغير قانونية، لتأكيد صوابية منطقها، حتى لو كان ذلك على حساب مشاعر ووطنية الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين، الذين لا يجدون اي عذر او مبرر لأصحاب تلك الممارسات، حتى لو غلِّفت بغشاء الحرب الاهلية في لبنان التي اعلن عن انتهاءها منذ ثلاثين عاما..
مناسبة هذا الكلام هو اصرار بعض وسائل الاعلام اللبنانية على التعاطي بسلبية مع الوجود الفلسطيني في لبنان، وهو تعاطي يعكس نمطا معينا في نظرة بعض اللبنانيين تجاه القضية الفلسطينية بشكل عام.. وآخرها تجاهل التفاعل الايجابي للمخيمات الفلسطينية مع مأساة مدينة بيروت. فقد وقعت الكارثة بحدود الساعة السادسة مساء. ولم يمض سوى وقت قليل جدا، حتى انهالت الدعوات في المخيمات من جميع الفصائل والمؤسسات الى التبرع بالدم وفتح ابواب المؤسسات الصحية داخل المخيمات للجرحى. ولم يكن غريبا هذه الاستجابة السريعة من قبل شباب المخيمات الذين هبوا جميعا الى تلبية النداء، انطلاقا مما تمثله بيروت ولبنان بشكل عام بالنسبة الى الشعب الفلسطيني.
في اليوم التالي، توقفت جميع الفعاليات في المخيمات الفلسطينية في لبنان، سواء الصحية المتعلقة بمواجهة تداعيات كورونا او الوطنية ذات العلاقة بصفقة القرن ومفاعيلها، وكانت الاولوية هي في كيفية حشد الدعم والمساعدة، رغم الامكانات البسيطة والمتواضعة لدى ابناء المخيمات. فنظمت فرق الدفاع المدني نفسها، وواصلت المراكز الصحية استقبال الجرحى واعلن عدد واسع من رجال الاعمال الفلسطينيين في بيروت وصيدا والشمال الاستعداد لاستقبال عائلات فقدت منازلها او تضررت بفعل الانفجار..
وجه الاستغراب هنا هو ليس في ابراز التفاعل الايجابي السريع للمخيمات الفلسطينية مع ما احدثته الكارثة، ولا في الحديث عما قدمه الشعب الفلسطيني من مساهمات ميدانية الى جانب الفرق اللبنانية والاجنبية، سواء فرق الاسعاف والهيئات الصحية او الدفاع المدني، بل انطلاقا من تجاهل بعض وسائل الاعلام اللبنانية، وعن قصد، لهذا الجانب الايجابي والمضيء في علاقة الشعبين الشقيقين اللبناني والفلسطيني، والتي يبدو ان تطورها يزعج الكثيرين من اولئك الذين يصرون على تقديم الفلسطيني في لبنان بغير صورته الحقيقية..
وجه الغرابة ايضا ليس في عدم تفاعل الاعلام اللبناني مع بعض الظواهر الايجابية، فهذا شأن هذه الوسائل، لكن حين يفتح الهواء على مدار الساعة ويجوب المراسلون كل الاراضي اللبنانية في تغطيتهم لردود الفعل المحلية وابراز المبادرات الايجابية في تفاعل المجتمع اللبناني مع تداعيات ما حصل، بينما المخيمات التي لا تبعد عن منطقة الحادث وعن المقرات المركزية لهذه الوسائل سوى امتار قليلة يتم تجاهل مبادراتها وتفاعلها الحي مع ما حدث.. هنا يصبح للسؤال اهمية عن اسباب هذا التجاهل ولخدمة من يتم التعتيم على كل الظواهر الايجابية داخل المخيمات التي دائما ما يتم تصويرها على غير حقيقتها.. وهنا نعود بالذاكرة الى تلك المقولة الصهيونية "ان الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت".
نظرة بعض الاعلام اللبناني الى فلسطينيي لبنان هي امتداد لمسار طويل من التعاطي السلبي مع المخيمات وما بداخلها.. فحين تخرج المخيمات عن بكرة ابيها في تحركات احتجاجية ضد اجراءات وزارة العمل، وبشكل يومي، على امتداد ثلاثة اشهر، فان هذا الاعلام لا يرى ولا يسمع ما يحصل داخل المخيمات، بل ان بعض القنوات ادعت، على سبيل المثال ان تظاهرة مدينة صيدا، 16 تموز 2019، التي قدرت بنحو خمسين الفا بلغت بضع مئات من المتظاهرين.. وحين تنظم في المخيمات عشرات التحركات الشعبية رفضا لصفقة القرن وتداعياتها، فلا تجد لها اي اصداء على شاشات بعض الفضائيات، بينما يفتح الهواء والبث المباشر لتحرك نظمه بضعة افراد امام السفارة الامريكية زعموا كذبا انهم يمثلون المخيمات، مطالبين بالهجرة.. بل ان مشكلة فردية بسيطة داخل احدى المخيمات كفيلة باستحضار جميع الفضائيات التي سرعان ما تبدأ سمفونية التحريض..
نختم لنقول: رغم هول المشهد الكارثي، الا ان ما يتعرض له الشعب الفلسطيني في لبنان من ممارسات واجراءات تمييزية، لا يمكن ان نضعها الا في خانة التماهي مع المشروع الامريكي، سواء لجهة المساهمة باتجاه تهجير اللاجئين في اقاصي الارض بعيدا عن فلسطين، او جعل لبنان واحة امريكية واسرائيلية لا مكان فيها لمفردات ثقافة المقاومة تحت ذات الشعارات التي حفلت بها الحرب الاهلية في لبنان، لكن هذه المرة بلباس جديد يساير العصر الامريكي..
قد لا يكون الوقت مناسبا لمثل هذا النقاش، لكن إن كانت الحروب والصراعات تفرق، فهول الكارثة وفظاعتها يجب ان يجمع ويوحد، وبالنسبة لنا كفلسطينيين، ورغم اننا لسنا جزءا من الصراع الداخلي اللبناني او حتى الاقليمي، الا ان من حقنا على الاعلام اللبناني ان ينقل محبتنا لبيروت واهلها.. فبيروت بالنسبة لفلسطين تحديدا، ليست مجرد مدينة كبقية المدن العربية، انها العاصمة الوحيدة بعد القدس التي دنسها الصهاينة، وهي العاصمة الوحيدة ايضا التي قاومت وصمدت لأكثر من (76) يوما، صنع خلالها الشعبان اللبناني والفلسطيني ملاحم اسطورية في موجهة العدوان ما زالت خالدة في وجدان الوطنيين الاحرار..
بيروت اكبر من مدينة وعاصمة نعم، هي العروبة الهاربة من مهدها وبلسم المظلومين وحضنهم، هي التي ابت ان تحيا وعلى ارضها صهيوني محتل. لهذا وذاك، اسمحوا لنا ايها اللبنانيون ان نعبر عن حبنا لهذه المدينة التي احبتنا، كما احبت الجميع، احببناها وعشقناها منذ ما قبل النكبة، فكانت توأمة لكل مدينة فلسطينية في علاقة تاريخية، انسانية ووطنية وقومية، لم تشبهها اي علاقة بين شعبين عربيين يترجمها وجود ثلاث قنصليات لبنانية في كل من القدس، حيفا ويافا.
لكل ذلك وغيره، وبدون اي مبررات سنبقى نحب بيروت واهلها، وسيبقى لمحبة هذه المدينة طعم مختلف لدى فلسطين والفلسطينيين، لن يغيرها حقد جاهل وحسابات ضيقة الافق من هذا او ذاك.. فبيروت لا تختصر بممارسات واجراءات غير انسانية خارجة عن نسق التاريخ، بيروت العاصمة تختصر بتاريخها الانساني العريق المتجذر في نفوس جميع احرار العالم. فتحية لبيروت العربية، وتحية لبيروت المقاومة..
فتحي كليب
10 آب 2020