:مصدر المقال
https://ajalia.com/article/4952

الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين واليسار الجديد بالمغرب

2015-03-07

يحتاج الحديث عن علاقة اليسار الجديد المغربي بالجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين إلى حيز أكبر بكثير من حيز هذه الورقة، بل إن صحفات عدد واحد من المجلة لن يفي بالغرض ولن يعطي الموضوع بالتأكيد حقه من التناول الرصين والمعالجة التاريخية الهادئة والعلمية التي أضحت اليوم واجبة أكثر من أي وقت مضى، وفاء لذاكرة أجيال من المناضلين والمناضلات، في بلاد كثيرة غير المغرب، قدموا لفلسطين ربما أكثر مما قُدر لهم أن يقدموه بالمعنى المباشر لبلادهم في المعارك اليومية، ولو أنه من وجهة نظر تاريخية لا يمكن اعتبار ما بذله هؤلاء، وسأخص هنا بالتحديد مناضلي اليسار الجديد من الجيلين الأول والثاني في المغرب، من جهود وتضحيات في التعبئة لفائدة القضية الفلسطينية، وما خاضوه من نضالات في سبيل نصرة ودعم كفاح الشعب الفلسطيني والتعريف بمقاومته ورموزه، يندرج خارج خط النضال الداخلي من أجل قضايا الشعب المغربي نفسه. فكل تقدم كان يحرزه النضال في الداخل ضد النظام القائم كان يصب بشكل أو بآخر في مجرى الكفاح الوطني الفلسطيني ويخدم قضايا التحرر الوطني في المنطقة.
لكن للمقام أحكام وضرورات، وللمناسبة شروط. وعليه، سنقتصر في هذه الورقة على إشارات سريعة لما نراه تذكيرا بجوانب أساسية من تاريخ علاقة غير عادية واستثائية كان فيها للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين بصمة خاصة في مسيرة نشأة وتطور حركة اليسار الجديد بالمغرب، وهي البصمة التي نتلمَسُها في وقائع وممارسات مختلفة من تاريخ فصائل هذا اليسار، خاصة في التحاق مناضلين من جيله الأول بصفوف المقاومة الفلسطينية تحت رعاية الجبهة وتأطيرها وبتأثير ملموس من فكرها السياسي وتنظيرات قادتها المؤسسين، كما يمكن تقعَب أوجه هذه العلاقة كذلك في انخراط اليساريين المغاربة في السجالات السياسية والفكرية التي اندلعت في محطات كثيرة حول قضايا الصراع العربي الصهيوني، وحركة التحرر الوطني، واستراتيجيات الكفاح ووسائل المواجهة مع الكيان الصهيوني وحلفائه محليا ودوليا، ونقلها إلى السياق الداخلي على نحو صارت معه أطروحات اليسار الفلسطيني، وبشكل أخص أطروحات الجبهة الديمقراطية، جزءا من عملية بناء نظرية الصراع الطبقي على المستوى الداخلي المحلي، بمختلف تصريفاتها السياسية والثقافية والتنظيمية.
لا شك أن ميلاد اليسار الجديد في المغرب لم يكن مجرد صدى لأطروحات يسار حركة القوميين العرب، الذي نشأ وتطور في حضنها فكر سياسي جديد على يد قادة ثوريين كبار من عيار نايف حواتمة، سيتبلور في النهاية في صورة مشروع جذري جديد أخذ على عاتقه النهوض بأعباء مهام تاريخية ثقيلة طرحتها المرحلة التي أعقبت هزيمة جيوش أنظمة البرجوازية الصغيرة في حزيران من عام 1967. غير أنه بالمقابل لا يمكن التنكر للدور الحاسم الذي كان لتلك الأطروحات الجديدة في تسريع ميلاد اليسار الجديد المغربي، وإكساب مناضليه وكوادره الثقة الضرورية في النفس، وتمكينهم من أدوات تحليلية ومرجعية وثيقة الصلة بخصوصيات المجتمع المحلي، وما يرتبط بتداخل مهام الصراع الطبقي والتحرر الوطني. ولعل أطروحة الثورة الوطنية الديمقراطية ذات الأفق الاشتراكي تشكل واحدة من أهم الأطروحات التي برز من خلالها هذا التأثير جليا، من خلال المستندات التحليلية والمواد المفاهيمية التي ارتكز عليها بناء الأطروحة، أو أيضا بسحر البلاغة الإيديولوجية التي غلفتها، وربما كانت أهم ما سحر وأخذ بتلابيب المناضلين واستبد بعاطفتهم ووجدانهم في زمن المنعطفات الفلسفية والإيديولوجية الكبرى لنهاية الستنينيات من القرن الماضي.
لقد انبثقت تجربة الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين في سياق تاريخي وقومي تميز بمواجهة/ أوالتفاعل مع تحولين أساسيين في الفكر والسياسة:
-الأول مرتبط بتحليل أسباب فشل التيار الوطني القومي في تجاوز أفق رؤيته الطبقية البرجوازية الصغيرة والتي تحكمت في سلوكه السياسي وإنتاجه الاديولوجي، وأوجدت في طبيعة تكوينه التاريخي وجذوره الطبقية الأسباب الموضوعية والذاتية للهزيمة النكراء التي حلت بجيوش الأنظمة المنتسبة له في 5 حزيران 1967؛ ومن نتائج هذا التحليل إيجاد وتوفير الإطار النظري والسياسي الجديد لبناء رؤية مغايرة لأحزاب البرجوازية الصغيرة، وممارسات الأحزاب الشيوعية التقليدية التابعة للمركز السوفياتي، وهي الرؤية التي تركزت حول تبني مفهوم واضح لحرب التحرير الشعبية طويلة الأمد ينطلق من الجمع بين تنشيط وتفعيل مقاومة الشعب الفلسطيني للعدو الصهيوني على كافة الأصعدة السياسية والاجتماعية والعسكرية والاقتصادية والديبلوماسية، وفي نفس الوقت ربط هذه المقاومة مع قواعد خلفية تدعم المواجهة الشاملة للعدو والاصطدام المباشر مع حلفائه من الأنظمة الرجعية المحلية والامبريالية العالمية، وبشكل أخص الاصطدام مع مصالحها في المنطقة بحكم الترابط الوثيق بين هذه المصالح والأنظمة الرجعية ودور الكيان الصهيوني في المنطقة. وطبعا كان تفعيل هذه الرؤية يعني على نحو واضح ومباشر تحريك واستنهاض همم قوى حركة التحرر الوطني ودفعها للتصدي لمهمام مناوئة المصالح الامبريالية من خلال الضغط على حلفائها من الأنظمة الرجعية لتغيير سياساتها وتحالفاتها، وإلا فالعمل على إسقاطها، مع اعتبار المقاومة الشعبية الفلسطينية المسلحة والسياسية طليعة هذه المواجهة الشاملة وخطها الأمامي.
-والثاني مرتبط بنقد خط الأحزاب الشيوعية العربية التي أغرقتها ممارساتها الستالينية وتبعيتها العمياء للمركز السوفياتي في حالة من الانحطاط الفكري والعجز السياسي ودوامة الممارسات الانتهازية والتخاذلية وسلوك المهادنة، بل ومعاداة أي نزعة تجذير لحركة التحرر الوطني على قاعدة الانتماء الطبقي البروليتاري المفترض. فقد شكلت هذه الأحزاب مثالا فاضحا لحالة الانحطاط الستاليني دوليا، وكشفت خطورة التمسك الأعمى بالموضوعات الستالينية حول الثورة وانشغالها المرضي بمواجهة ما صورته كخطر داهم تمثله التروتسكية على الثورة الاشتراكية، فيما هي تبرر الانحراف التسلطي والبيروقراطي، أو بالأحرى ثورة مضادة كانت تعمل تحت ركام من الشعارات الثورية المستوردة في غالبيتها من النشرات السوفياتية الرسمية.وفي هذا الباب أيضا شكل هجوم الجبهة على الرؤى المتكلسة لهذه الأحزاب وسلوكها التبعي ونقد رؤيتها لتسوية القضية الفلسطينية وفق المنظور السوفياتي المكرس، الأرضية الأساسية لاستقطاب سياسي وإيديولوجي جديد في المنطقة العربية، يبدأ بنقد السياسات الستالينية المُسيَدة داخل الأحزاب الشيوعية، وينتهي بالقطع مع المنظومة الشاملة لليسار التقليدي وأطروحاته البالية في التاكتيك والاستراتيجية ونهجه المساوم والانتظاري وتبعيته العمياء للسياسات الرسمية للسوفيات. ولقد أوجدت نتائج هذا الهجوم، بكل ما انطوى عليه من اجتهادات فكرية وسياسية، وخلاصات جديدة وجذرية، وفي ظل مناخ دولي كان يعج بالحراك الثقافي والفلسفي، وتصاعد انتصارات حركات تحرر جديدة بقيادة الشيوعيين، وبروز جيل جديد من القادة الثوريين( الفيتنام، ماي 68، حركات اليسار الجديد بأوروبا وأمريكا، كوبا،...إلخ)، فضلا عن تنامي غير مسبوق لحركات الرفض والاحتجاج في الغرب الرأسمالي المتقدم، نقول أوجدت مناخا مواتيا لاستقطاب شباب الحركات الجديدة لليسار الماركسي اللينيني في المغرب وبلدان عربية وغير عربية، إلى صفوف المقاومة الفلسطينية، وبالتحديد إلى صفوف الجبهة الديمقراطية التي هيأت ظروف استقبالهم وتكوينهم في معسكراتها وتنظيمات الاستقبال التي كانت مجهزة لالتحاق ثوار من العالم أجمع، قبل الانعطاف الأردني لما بعد أيلول الأسود، ومنحت لآخرين منهم فرصة ترويج أفكارهم ونشر مقالاتهم في مجلتها (الحرية)، وفتحت بالتالي المجال للتفاعل مع أدبيات هذه الحركة الآخذة في النمو والتطور، وفك الحصار المضروب عليها بالداخل من قبل النظام المغربي وأجهزته القمعية الشرسة. في نفس السياق يمكن القول أن الجبهة الديمقراطية فتحت كذلك بشكل مبكر أمام اليسار الجديد المغربي النافذة "القومية" التي كان ينقصه الكثير من إدراك خصوصياتها وورطته في إشكالياتها الكبرى وانهماماتها العاطفية، وهي التي كلفته نقدا لاذعا في مرحلة التفكك من قبل تيارات ثقافية عابت عليه كثيرا الانغماس في الهم القومي وتجاهل خصوصيات البلد الثقافية.
وبرغم وجود إسهامات نظرية ونقدية هامة لمثقفين مرتبطين بالأحزاب الشيوعية مارست جاذبية لا تنكر على قطاعات واسعة من كوادر ومناضلي حركات اليسار الجديد في المغرب وبلدان أخرى، إلا أن مساهمة التيار اليساري الذي خرج من رحم الحركة القومية بقيت حاسمة وكانت أقوى تأثيرا، كما كان لها الوقع العاطفي والوجداني على الجيل الأول لليسار الجديد المغربي إلى درجة يصعب حتى الآن الفصل في قضية ترتيب المصادر التاريخية التي كان لها النصيب الأوفر في تشكيل وعي الجيل المؤسس للأنوية الأولى للحركة الماركسية اللينينية المغربية في أواخر الستينيات من القرن العشرين. أما مجلة "الحرية" فسيكون لها سحر خاص سيطال بتأثيره حتى الجيل الثاني لليسار الجديد بالجامعة المغربية الذي مثله الطلبة القاعديون التقدميون، ورثة اليسار الطلابي الراديكالي، إلى جانب مجلة "الهدف" التي دخلت على الخط في العقد الثمانيني من نفس القرن لتمارس بدورها تأثيرا بالغا في توجيه مواقف مناضلي الجناح الراديكالي للنقابة الطلابية العتيدة(الاتحاد الوطني لطلبة المغرب) من القضية الفلسطينية، وكل القضايا المرتبطة بحركات التحرر الوطني. والجدير بالتذكير هنا أن تأثير الجبهة الديمقراطية ومجلة "الحرية"، وفي وقت لاحق أيضا تأثير الجبهة الشعبية ومجلتها، سيبلغ مستويات خطيرة جدا، ليس فقط على مستوى الاستقطاب وتوزَع مناضلي اليسار القاعدي على انتماءات فلسطينية محددة والاستظلال بها، والتمترس في صراعاتها الداخلية والانخراط في سجالاتها السياسية والاستراتيجية، ونقلها إلى الساحة الطلابية بنفس الحدة والقوة، وأحيانا ترجمتها في طقوس مماثلة وتعبيرات متماهية مع ما يجري هناك في المخيمات أو الأراضي المحتلة، بل وأيضا في تغذية صراعات داخلية ليس للتنظميات الفلسطينية بالتاكيد أي علم بها ولا هي من شأنها، كما حدث في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي حين اندلعت صراعات عنيفة داخل فصيل طلابي يساري قوي على خلفية تكييفات سياسية محلية لمواقف فصائل فلسطينية من الاتحاد السوفياتي لم تكن سوى مواقف الجبهتان الديمقراطية والشعبية لتحرير فلسطين. فبسبب التمترس وراء الخطوط السياسية للتنظيمين سالت دماء، وتمزق جسم الفصيل الطلابي القوي، وانقسم مناضلوه إلى تيارات لم تتوقف منذ ذلك الزمن عن الاقتتال حول الشرعية والتمثيلية. طبعا ليس من المنطقي أن يكون الانشقاق الذي عرفه الفصيل المذكور سببه الوحيد هو الخلاف المكيف داخليا حول الموقف من علاقة الاتحاد السوفياتي مع حركات التحرر الوطني للشعوب، إنما مع ذلك يكشف الحدث درجة ارتباط أجيال اليسار الجديد المغربي باليسار الفلسطيني، وبشكل خاص الجبهة الديمقراطية، وهو الارتباط الذي لا يبعد كثيرا عن التعلق العاطفي الكبير للمغاربة بفئاتهم المختلفة بالقضية الفلسطينية.
ونتمنى أن تتاح لنا الفرصة للعودة إلى هذا الموضوع بتفصيل في وقت مناسب.
كاتب وباحث/ عضو هيئة تحرير مجلة نوافذ (فصلية ثقافية مغربية)