الأزمة السياسية ومستقبل الثورة في مصر-محمد حسن خليل
2015-03-11
دخل نظامنا السياسى فى أزمة سياسية منذ حكم المحكمة بوجود عوار دستورى فى تقسيم الدوائر من ناحية عدد سكان كل دائرة الذى يخل إلى حد بعيد بالتمثيل العادل والمتكافئ للناخبين. وليس هذا سوى أول الفيض، حيث هناك أحكام متوالية صدرت وتصدر بنواحى عوار متعددة فى النظام الانتخابى تتعلق بالقوائم، وبعدم العدالة فى منع مزدوجى الجنسية من الترشح كممثلين للمصريين المقيمين فى الخارج فى البرلمان مع إعطائهم حق الترشيح، وغيرها من الجوانب.
وشنت المعارضة الليبرالية أساسا نقدا لاذعا بدءا من سلوك لجنة الخمسين لوضع الدستور التى ألغت رقابة المحكمة الدستورية السابقة على إصدار القوانين وقصرتها على الرقابة اللاحقة، ثم الاعتراض على الاعتراضات الوجيهة التى ساقتها الأحزاب على قانون الانتخاب وبالذات على موضوع القوائم المطلقة التى تشبه التعيين، وصولا إلى نقد تشكيل لجنة وضع القانون التى تشتمل فقط على فقهاء دستوريين دون أن يمثل فيها الخبراء السياسيين بالذات من أحزاب المعارضة بما فيهم الفقهاء الدستوريون المنتمون إلى تلك الأحزاب.
والحكومة من ناحيتها لازالت تواصل جهودها المستميتة فى محاولة تدارك كل تلك المشاكل بما لا يمس مصداقيتها فى مواعيد الانتخابات البرلمانية التى لابد وأن تكون قريبة لكى تكتمل فى رأيها، وفى رأى الغرب الذى تبتز به وهى تحتاج لاستثماراته، خريطة الطريق التى وضعتها من ثلاث خطوات هى وضع الدستور والانتخابات الرئاسية والبرلمانية. ولكن كثرة الثغرات وكثرة المستعدين لاستخدام سلاح القضاء الإدارى والإحالة للمحكمة الدستورية العليا يجعل من الصعب اللحاق بمعدلات تنفيذ الانتخابات، خصوصا ولم يبق سوى شهرين ونصف على رمضان والعيد مما يهدد بتأجيل الانتخابات لنهاية الصيف.
أثار هذا الهاجس قلق المعارضة الليبرالية أساسا التى تستميت هى الأخرى على الانتخابات، وتتشبث بخارطة الطريق، وترى أن من حقها إجراء الانتخابات بسرعة، والتى تتوقع بفضل نفوذها التاريخى وتمويلها السخى أن تفوز، منفردة أو بتحالف مع أحزاب مشابهة لتشكيل الحكومة. وأكثر من عبر عن أكثر الآراء تطرفا فى اعتراض المعارضة البرجوازية (أحزاب الوفد والدستور والمصرى الديمقراطى الاجتماعى والمصريين الأحرار) هو الدكتور محمد أبو الغار رئيس الحزب الديمقراطى الاجتماعى الذى وصل فى تشخيصه إلى أن هناك ما يشبه المؤامرة المتعمدة من رئاسة الجمهورية وباقى أجهزة الحكم وعلى رأسها الأجهزة الأمنية. فهو يربط بين تقديم الانتخابات الرئاسية على البرلمانية، مع تفصيل القوانين التالية لصالح تأجيل متعمد للانتخابات البرلمانية، مع استبدادية طابع القائمة المطلقة، مع دور أجهزة الأمن فى تشكيل ما يراه حزب السلطة وسعى هذا الحزب لاجتذاب معظم الرموز البارزة، يربط بين كل هذا فيما يراه نظرية مؤامرة تهدف إلى تشكيل برلمان وهمى جدير بالدول الاستبدادية وليس برلمان ديمقراطى يمارس فعلا لا قولا سلطات التشريع والرقابة على الحكومة.
ولكننا نحتاج إلى نظرة أكثر تمحيصا على رأى الجماهير الواسعة، ورأى أحزابها وقواها الثورية، لكى نحدد واجباتنا فى هذه المرحلة من مسار الثورة المصرية. من الواضح أن مزاج الجماهير العام تسوده حالة من الإحباط، ولكن ليس للأسباب التى تسوقها المعارضة الليبرالية. السبب الرئيسى للإحباط الجماهيرى هو أنه بعد أربع سنوات من الثورة الأولى، وبعد ثورة ثانية، لم تلمس الجماهير تحسنا واضحا فى أحوالها المعيشية، ولم تلمس اقترابا محسوسا من تحقيق هدف العدالة الاجتماعية، ولا الحرية والكرامة الإنسانية. هذه الأهداف الثلاثة هى التى ثارت من أجلها الجماهير وليس خطة الخطوات الثلاث لوضع دستور جديد (على أهميته) وانتخابات رئاسية وبرلمانية تستوفى مقومات الشرعية القانونية المعترف بها دوليا!
وإن كانت قطاعات من الجماهير ترغب فى الانتخابات البرلمانية فهى تهدف إلى إبطال آخر حجة للسلطة فى تحسين أوضاعها، وليس لنفس أسباب المعارضة الليبرالية التى تسعى لانتخابات توصلها إلى تشكيل الحكومة.
الاتجاهان الرئيسيان فى المعارضة الآن هما الاتجاه الذى يرى أن الخطر الرئيسى، كما يراه أبو الغار مثلا، والكثير من الاتجاهات الشبابية فى المعارضة (اليسارية) من نوع الاشتراكيين الثوريين و6 إبريل. وهو الاتجاه الذى يرى الخطر الرئيسى هو خطر تشكل الدولة البوليسية التى تعيد إنتاج نظام مبارك، وبالتالى لا يتحرج معظم ممثليه فى تبنى هتاف يسقط يسقط حكم العسكر.
ولكن هناك اتجاه آخر يرى ما لا تراه المعارضة الليبرالية، ولكن يراه، على الأقل على مستوى الإحساس، أغلبية الشعب، كما تراه القيادات السياسية الناضجة، وهو الاتجاه الذى يدرك حجم التحدى الذى يمثله المخطط الإرهابى للمنظمات الإسلامية المتطرفة والمتعاونة مع أمريكا والغرب، ويهدف إلى تفتيت الوطن العربى إلى دويلات طائفية وفقا لمشروع الشرق الأوسط الجديد، ويهدف فى هذا الطريق إلى إضعاف كل كيانات الدول العربية وعلى رأسها مصر، أكبر ثقل سكانى واستراتيجى فى المنطقة.
هناك عناصر ضعف استراتيجية خطيرة نشأت فى أعقاب فترة ما يسمى بالربيع العربى، على رأسها أن مصر تجد نفسها محاصرة بقوات الناتو فى ليبيا، وبالقوة الهائلة لجميع المنظمات الإسلامية فى ليبيا فى ظل انهيار الدولة هناك إلى حد استيلائهم على العاصمة طرابلس وعلى مساحات شاسعة وآبار للبترول وأسلحة تشمل الطائرات، على الحدود الغربية. كما تشهد مصر على حدودها الشرقية محاولات عمل إمارة سيناء الإسلامية بالمعونة الضخمة من حماس ومن الدول الاستعمارية ومن قطر وتركيا. وإلى الشرق أيضا توجد الدولة الإسلامية فى العراق والشام (داعش) وطموحها لتحدى كافة الأنظمة المحيطة بما فيها النظام السعودى، والسعى لإسقاطه وتفتيت السعودية لثلاث دول. وعلى حدودنا الجنوبية هناك نظام البشير المتواطئ مع الإرهاب الإسلامى.
ورغم النجاح الضخم الذى مثله خلاص مصر من حكم الإخوان بعد ثورة 30 يونيو، ورغم تقليم الأظافر الضخم الذى أنجزته قوات الجيش والشرطة بالتنظيمات الإرهابية وتحجيم أعمالها، فما زال لها خطر يحسب حسابه ويهدف إلى مهاجمة الشعب وإضعاف الدولة وتدمير المرافق، لكى يحاصروا مصر من الداخل والخارج.
وقلت أن الشعب يحس على نحو ما بكل هذا، وانتخب السيسى بإجماع ساحق بعد نجاحه فى تخليصه من حكم الإخوان بالتحالف مع ثورته، كما يرفض الحس الشعبى فى هذا المناخ هتاف يسقط يسقط حكم العسكر وقام بمهاجمة الذين يهتفون به فى مرات كثيرة من قيامهم بهذا.
والموقف الثورى الواعى الذى يجب أن يتخذه الثوريون هو أن يضعوا نصب أعينهم كلا الخطرين: الخطر الوجودى الذى يتهدد مصر بالمخطط الأمريكى الإسرائيلى الإرهابى المشترك، وخطر إحياء عدد من أهم سمات نظام مبارك التى ثار عليها الشعب وجعلت أهداف الثورة فى الحرية والعدالة الاجتماعية مازالت بعيدة المنال.
وما دام كل تحليل اجتماعى يرتكز أساسا على تحليل طرفى التناقض الرئيسيين، فهل طرأ جديد على سلوك السلطة بعد الإطاحة بمبارك؟ وهل هناك استمرارية بين النظام الحالى ونظام مبارك؟ وما السبب فى عدم تحقق أهداف الثورة حتى اليوم؟ وما هو الطريق للوصول إلى تحقيقها؟
هناك تغير هام تحقق بالإطاحة بنظام مبارك، تسبب من ناحية فى دخول الشعب بقوة طرفا فى المعادلة السياسية، ومن ناحية أخرى باستغلال الغرب والإخوان فترة الضعف فى أعقاب الثورة فى تنفيذ المخطط التفتيتى لوطننا.
كان تكتيك النظام القديم هو بعض التنازلات تتمثل فى التضحية بمبارك، وتقديم تنازلات محدودة للشعب فى مجال الأجور، وفى مجال الحريات تميز الوضع بسيادة مناخ ممارسة الكثير من حريات التعبير والتنظيم بالأمر الواقع رغم صدور قوانين قمعية متعددة. وكان أداة النظام هو تحالفه مع قوة المعارضة المنظمة الرئيسية وهى الإخوان المسلمين. إلا أنه لم تمض شهور قليلة إلا وافتضح المخطط الغربى الإخوانى للسيطرة. قاد هذا إلى تغيرين هامين: تضامن النظام القديم مع الشعب الثائر فى الإطاحة بالإخوان، والشقاق الذى حدث بين النظام القديم وبين أمريكا رغم تبعية النظامين التى لا شك فيها للمعسكر الرجعى العالمى.
قاد هذا، بعد الإطاحة بالإخوان، إلى عدد من التغيرات الاستراتيجية الهامة على رأسها قرار بتنويع مصادر السلاح لأول مرة منذ عام 1974، والتعاقد على شراء الأسلحة المتقدمة من روسيا وفرنسا، وتقوية العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية مع دول البريكس (روسيا والصين والهند على رأسها). كما قاد إلى تغير استراتيجى هام على صعيد العلاقات المصرية مع أفريقيا. كانت استجابة السادات ومن بعده مبارك للخط الأحمر الأمريكي الذى وضعوه أمام النظام المصرى فى أفريقيا قد أدت ليس فقط إلى خروج مصر من أفريقيا ولكن إلى دخول إسرائيل وتهديد مصادر مصر من المياه التى تنبع من وسط أفريقيا وتصب عندنا. وبالتالى كانت القيمة الضخمة للتغير الاستراتيجى فى مصر بالتوجه ناحية أفريقيا وتوثيق التعاون مع دولها لتأمين مصدر المياه لمصر فهى أمنها القومى.
المشكلة أن النظام حينما أسقط الإخوان بالتحالف مع الشعب، تحالف مع ثانى قوة منظمة فى المعارضة، القريبة منه سياسيا، وهى المعارضة الليبرالية الممثلة فى أحزاب الدستور والوفد والمصرى الديمقراطى الأجتماعى، فجاء إلى المشاركة فى السلطة البرادعى نائبا للرئيس والببلاوى رئيسا للوزراء والوزراء المنتمين لتلك الأحزاب، لكى يثبتوا فشلهم الذريع فى إدارك الخطر الاستراتيجى المتمثل فى المخطط الأمريكى الإرهابى على مصر. لقد اتبعوا تكتيك الدعوة للمصالحة مع الإخوان، وامتنعت وزارة الببلاوى عن تغيير السفراء ورؤساء الجامعات وغيرهم من القياديين الإخوان الذين أتى بهم مرسى. بالطبع قاد ذلك السلوك المتواطئ للزعامات الليبرالية إلى محاولة السلطة تحجيمهم وتضييق الديمقراطية حتى داخل الطبقات المالكة.
بعد أن كانت السلطة قد قررت فى أعقاب 11 فبراير 2011 أن تغير النظام السياسى من التعددية المقيدة إلى نوع من تداول السلطة داخل الطبقة وتوسيع التمثيل السياسى للطبقة فى الحكم ليشمل فى المرحلة الأولى الإخوان المسلمين وفى المرحلة الثانية المعارضة الليبرالية، بدأت بعد اتضاح مخطط الإسلاميين فى إقرار الهيمنة الغربية، وبعد تواطؤ الليبراليين ونزوعهم للتصالح مع الإسلاميين، بدأت السلطة فى مزيد من التضييق على تلك القطاعات من الطبقة وصياغة قوانين برلمانية تضمن على الأقل ألا تحوز المعارضة أغلبية برلمانية بطرق متعددة منها القوائم المطلقة التى تشكل كتلا للنظام شبيهة بالتعيين، ومحاولة الدعم غير المباشر لحزب سلطوى جديد غير الحزب الوطنى وغير الأحزاب الليبرالية، وبالطبع فى كل الأحوال مع استبعاد القوى الشعبية.
ولكن على صعيد السياسة الداخلية، وبعد فترة من توقف المخططات المباركية وبعض التنازلات الاقتصادية، استأنف النظام خطط مبارك فى استمرارية تحميل عبئ الأزمة الاقتصادية على عاتق الفقراء وليس على عاتق الأغنياء، مع محاولات استئناف مخططات الخصخصة.
من هنا تغيرت الحكومات سواء حكومة محلب أو التغيير الوزارى الأخير الذى شمل 8 وزراء، لتكون حكومة تكنوقراط تنفيذية وليست حكومة سياسية ولو حتى من حيث الشكل مثل حكومة شرف التى تلت فبراير 2011 أو حكومة الببلاوى التى تلت 30 يونيو 2013.
إن القضية المركزية فى كل ثورة هى قضية السلطة. والثورة الناجحة هى التى تبدأ فورا بعزل القيادات السياسية القديمة وفرض الحظر السياسى عليها (وهى هنا الحزب الوطنى بعد 2011 والإخوان بعد 2013) مع إطلاق أوسع الحريات للجماهير، وتثوير جهازالدولة وإعادة بناء أجهزة الشرطة، مع تحقيق مطالب الشعب المعيشية فورا. لم يكن هذا هو المسار بعد ثورتين، ليس لقصور فى الفهم ولكن لميزان القوى الواقعى بين قوى الثورة الوليدة بعد عقود من مصادرة الديمقراطية وضعف مستوى تسييس الشعب، وضعف تنظيماته السياسية والنقابية مما لم يؤدى بالتغيرات الثورية أن تبلغ مداها بالصورة التى أوضحناها.
لهذا على القوى الثورية أن تضع نصب أعينها من الآن الأهداف الثورية التى تتضمن الحرية والعدالة الاجتماعية، كما تتضمن التصدى لمخطط الهيمنة الاستعمارية المشتركة مع الإرهاب الإسلامى، بدون تغليب لأحد الجانبين. إن شعار إسقاط حكم العسكر يعنى نزعة عدمية إزاء التهديد القومى الذى يمثله تحالف الاستعمار مع الإرهاب الإسلامى. كما أنه لا يمكن انطلاقا من رفض المخطط الإرهابى تأييد استعمال الحكومة له للتضييق على ديمقراطية القوى الشعبية، واستئناف مخططات التبعية الاقتصادية.
من الإيجابى السعى لتقليص التبعية بتنويع العلاقات السياسية الاقتصادية العسكرية مع القوى الدولية الصاعدة الجديدة وبالذات روسيا والصين والهند، ومن الحيوى تأمين منابع النيل، ولكن مع التوازن بين هذا وبين رفض استعادة الاستبداد وإلقاء عبئ الأزمة الاقتصادية على الفقراء وإعفاء الأغنياء، واستئناف مخططات الخصخصة.
محمد حسن خليل – القاهرة
الحزب الاشتراكي المصري
6 مارس 2015