زلازل جيوسياسية: أميركا، المحادثات النووية والشرق الأوسط الجديد ..
2015-04-15
بقلم : نيكول أبي، ديتر بيدنارز، إيريك فولاث، وهولغر ستارك
تعيد الولايات المتحدة النظر مؤخراً في نهجها تجاه الشرق الأوسط، حتى أنها عثرت على قواسم مشتركة بينها وبين العدو اللدود سابقاً، إيران. وفي هذه الأثناء، يكتنف البرود علاقاتها مع الحلفاء التقليديين في المنطقة، مثل إسرائيل والعربية السعودية. ويمكن أن يزيد الاتفاق النووي من تجليات هذا التحول.
أراد باراك أوباما أن يفعل كل شيء بطريقة مختلفة عن سلفه، وشمل ذلك مجال السياسة الخارجية أيضاً. أراد أن يضع نهاية لدور أميركا كرجل الشرطة العالمي، وإلى القيادة من الخلف بدلاً من السعي إلى الهيمنة أحادية الجانب. وكانت رؤيته هي أن يصبح بلده مشرفاً على السياسة الدولية وأن يعثر لنفسه على حلفاء لبناء تحالفات جديدة.
لكنه على الأرجح لم يستشرف النتائج التي تتجسد الآن. اليوم، تجد الولايات المتحدة نفسها متورطة في جميع جبهات الشرق الأوسط -بل، في الآونة الأخيرة، مع دول تناصب بعضها العداء. وفي الأسابيع الأخيرة، كان الوضع غرائبياً بشكل خاص. فمن جهة، تدعم الولايات المتحدة تدخل التحالف العسكري السني في اليمن، والذي يقوم بقصف مجموعة مدعومة من إيران. ومن جهة أخرى، قدمت الولايات المتحدة الدعم الجوي للميليشيات الشيعية التي يقودها جنرال إيراني.
الأكثر من ذلك، أن وزير الخارجية الأميركية جون كيري عمل على التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران بحلول الحادي والثلاثين من آذار (مارس) الذي كان الموعد النهائي لإقرار اتفاق إطار عمل، (وهو ما تحقق بعد ذلك بيومين)، بينما تعارض حليفة أميركا التقليدية في المنطقة، إسرائيل، مثل هذه الصفقة بشدة.
الآن، تصبح الثوابت السياسية أكثر اهتزازاً وضبابية. من هم أعداء أميركا ومن هم حلفاؤها؟ بعد عقود من كونها ثابتاً غير قابل للتحريك في السياسة الخارجية الأميركية، هل ما تزال إسرائيل تتمتع بمكانة الحليف الذي لا غنى عنه؟ ثمة الكثير من الثوابت التي شخصت الشرق الأوسط طوال عقود، والتي لم تعد تشف عن اليقين نفسه.
ليس هناك أي بلد آخر، باستثناء إسرائيل، والذي تلقى هذا القدر من الأسلحة عالية التقنية مثل العربية السعودية، الدولة الملكية المحافظة. ورغم القمع العنيف لكل صوت معارض، والسنوات التي أنفقت في تمويل الإرهاب الإسلاموي عن طريق المنظمات "الخيرية"، استمرت واشنطن في الإحساس بضرورة الالتزام تجاه السعوديين. لكن ذلك ربما لن يدوم الآن. فبعد أن قللت تقنيات تفتيت الصخور في الوطن من الاعتماد الأميركي على البترول المستورد من العربية السعودية وبقية الشرق الأوسط -إلى درجة أن الولايات المتحدة قد لا تضطر قريباً إلى استيراد أي بترول على الإطلاق– أصبح من الممكن أن تتغير العلاقات الأميركية مع الرياض، أو أن يلفها البرود على الأقل.
بالإضافة إلى ذلك، تقاتل العربية السعودية السنية، وإيران الشيعية، من أجل الهيمنة والتفوق في الشرق الأوسط -في سورية، وفي العراق، وأخيراً في اليمن. ولكن، وعلى النقيض مما حدث في السنوات السابقة، أصبحت المصالح الأميركية تتداخل إلى درجة كبيرة في الآونة الأخيرة مع مصالح طهران. وفي الحقيقة، وبينما انحدرت العلاقات بين واشنطن والقيادة الإسرائيلية إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق في الأسابيع الأخيرة، أصبحت طهران شريكاً بحكم الأمر الواقع في المعركة الجارية ضد "الدولة الإسلامية"، حتى مع عدم رغبة أي من الطرفين في قول ذلك صراحة.
التجسس على الولايات المتحدة
الآن، تشكل المصالحة مع إيران، وإعادة دمجها في سياسة واشنطن وانفتاحها الاقتصادي أمام الشركات الأميركية الكبيرة، أولوية قصوى بالنسبة للرئيس أوباما. وبذلك، أصبح إرثه في السياسة الخارجية يعتمد إلى درجة كبيرة على تأمين اتفاق نووي مع إيران. ومن أجل الحصول على اتفاق، تبدو الحكوة الأميركية مستعدة لقطع أشواط طويلة. ومع ذلك، تخشى إسرائيل هذا التوجه بالضبط؛ حيث يشعر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بالإضافة إلى البعض في المعارضة، بالقلق من أن تقدم واشنطن قدراً كبيراً من التنازلات.
يساعد هذا في تفسير أسباب انتقاد نتنياهو العنيف لأقرب حلفائه على الملأ؛ حيث وصف المفاوضات مع إيران بأنها ساذجة. وبالإضافة إلى ذلك، نأى نتنياهو بنفسه عن التزاماته السابقة بالعمل في اتجاه حل الدولتين المدعوم أميركياً للصراع مع الفلسطينيين، وانعطف بحدة نحو اليمين في الأيام الأخيرة من حملة إعادة انتخابه التي نجحت في نهاية المطاف.
وكما لو أن ذلك لم يكن كافياً، ظهرت تقارير تقول إن أجهزة المخابرات الإسرائيلية كانت تتجسس على وفد الولايات المتحدة خلال المفاوضات النووية مع إيران في لوزان في سويسرا، وتمرر تفاصيل الصفقة المخطط لها إلى أعضاء في الكونغرس. وقد أغضب ذلك أوباما. وقال مؤخراً عن علاقاته بنتياهو: "لا يمكن اختزال هذه المسألة بطريقة ما إلى: دعونا نرفع أيدينا جميعاً ونغني "كومبايا"". ولم يستبعد الرئيس حتى خيار دعم إقامة دولة فلسطينية في الأمم المتحدة؛ حيث قال عن ذلك: "نحن في طريقنا إلى إجراء ذلك التقييم".
وفي هذا الإطار، يلمح مستشارو أوباما بهدوء إلى أن ذلك قد يعني: ربما تتوقف الولايات المتحدة عن دعم إسرائيل بشكل أعمى في الأمم المتحدة، ويمكن أن تتجاهل مخاوف نتنياهو وتوقع معاهدة نووية مع طهران، إلى جانب كل من أوروبا، والصين وروسيا.
ولكن، كيف أمكن أن تصل الأمور إلى هذا الحد؟ يحيل البحث عن تفسير مرة أخرى إلى الربيع العربي الذي انطوى على الوعد بإحداث تطورات إيجابية في المنطقة. لكن تلك الآمال خفتت منذئذ. في مصر، ثمة دكتاتورية عسكرية بحكم الأمر الواقع، والتي عادت مرة أخرى إلى السلطة، بينما انحدرت كل من ليبيا واليمن أكثر إلى وضع "الدولة الفاشلة".
ممارسة تأثير على الأسد
مع ذلك، ترى واشنطن أن أكبر خطر ماثل الآن هو ذلك الذي تشكله "الدولة الإسلامية". وفي المعركة ضد الإسلامويين المتطرفين، يبدو أوباما مستعداً لتقديم تنازلات مؤلمة. وعلى سبيل المثال، أثار وزير الخارجية الأميركية جون كيري في أواسط آذار (مارس) احتمال دراسة واشنطن خيار التفاوض بشار الأسد. وحتى مع أنه تراجع عن تصريحاته سريعاً، فإنه يبدو أن هناك على الأقل، في خضم المعركة ضد "الدولة الإسلامية" تفاهم غير مباشر مع الأسد. وفي الحقيقة، يبدو أن البيت الأبيض لم يعد ينظر إلى تغيير النظام هناك كأولوية، وأن الرئيس الأميركي –كما يقال- يحاول ممارسة التأثير على الأسد من خلال قنوات إيرانية. وبعد كل شيء، ليس هناك أحد يمتلك تأثيراً على الأسد أكثر من القوى الموجودة في إيران.
وفي الحقيقة، يبدو أن أهم خيوط القوى في المنطقة تتجمع كلها في طهران في هذه الأيام، مما يجعل ذلك البلد يبدو أكبر الكاسبين من التحولات الجيوسياسية الراهنة في الشرق الأوسط. وكان الذي أرسى حجز الزاوية لهذه التطورات، بغير حصافة، سلف أوباما الرئيس جورج دبليو بوش. ففي أعقاب الهجمات الإرهابية يوم 11 أيلول (سبتمبر) 2001، هاجم بوش كلاً من طالبان في أفغانستان وصدام حسين في العراق، وهما العدوان السنيان اللدودان لإيران. لكنه لم يفعل الكثير لإضعاف حزب الله، الميليشيا التابعة لإيران، والتي تمارس نفوذاً هائلاً في كل من سورية ولبنان. وفي الحقيقة، تشكل دمشق وبيروت وصنعاء ثلاث عواصم في المنطقة، والتي تقع إلى حد كبير تحت السيطرة الإيرانية.
لكن النقطة الأمامية الإيرانية الأكثر أهمية هي بغداد. في العراق، ليس هناك رجل أكثر نفوذاً الآن من الجنرال الإيراني قاسم سليماني، المعروف بين العراقيين باسم "سوبرماني". ومن دون المساعدة، وقوات النخبة الإيرانية، ما كان الجيش العراقي ليتمكن أبداً من هزيمة "الدولة الإسلامية" واستعادة تكريت، وما كان ليصبح في موضع يؤهله ليضع عيونه على الموصل. سليماني (60 عاماً)، يقود سرايا القدس؛ الذراع العسكرية للحرس الثوري، الذي يشكل نوعاً من جيش خاص تحت السيطرة المباشرة للزعيم الديني الإيراني علي خامنئي. وفي الماضي، كانت هذه السرايا قد تورطت في هجمات إرهابية. ولكن الأميركيين يبدون هم أيضاً، بالإضافة إلى العراقيين، معجبين بحِرَفية سليماني. ويقول مسؤولو الاستخبارات إن واشنطن تنسق ضرباتها الجوية مع الجنرال؛ ولأن أوباما غير معني بإرسال قوات أميركية إلى العراق، أصبحت قوات النخبة الإيرانية بمثابة "قوات (واشنطن) على الأرض".
تحولات على المدى الطويل
هذه التحالفات الاستراتيجية بشكل أساسي، تجيء بطبيعة الحال نتيجة لاستجابة براغماتية للقضايا المطروحة، والتي لا تشكل نهجاً جديداً تجاه إيران في حد ذاتها. بل إن هذه القضايا ما تزال موضع جدل في داخل إدارة أوباما نفسها أيضاً؛ حيث يقول رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، جون برينان، إنه لا يرى إيران كحليف في العراق.
لكن هناك احتمالاً بأن يكون تحول طويل الأجل في العلاقات الأميركية-الإيرانية قادماً على الطريق. ومع ذلك، سيعتمد هذا على مسألة الموافقة على الاتفاق النووي مع طهران والمصادقة عليه.
ظلت الأزمة النووية بين طهران وبقية العالم قائمة على مدار الاثنتي عشرة سنة الماضية. وفي خمس مناسبات منفصلة، أقرت الأمم المتحدة عقوبات ضد طهران، نتيجة لبرنامجها النووي. ومع أنه لم يتم أبداً تقديم دليل دامغ لا يقبل الجدل على أن إيران تقوم ببناء سلاح نووي، فقد تم إثبات أن الخداع والحيل شكلت جزءاً من استراتيجية طهران لمواصلة ما تصر على أنه برنامج نووي مدني. وبالإضافة إلى ذلك، رفض ذلك البلد الامتثال للمطالب المادية وطلبات التفتيش التي أصدرتها الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وكالة الأمم المتحدة التي تشرف على الالتزام بمعاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية. وتستمر حقيقة مواصلة إيران رفضها تقديم معلومات تتعلق بتجاربها التي يعتقد بأن لها صلة ببرنامجها للأسلحة النووية، في أن تكون من أحجار العثرة الرئيسية أمام التوصل إلى الاتفاق المحتمل.
وفي الأسابيع الأخيرة، كانت إمكانية حدوث اختراق في المفاوضات بشكل متكرر موضوعاً للكثير من التكهنات، بينما جرى تأكيد إحراز تقدم في مسائل مخصوصة. كان الطرفان يريدان تحقيق النجاح، وأراد المتفاوضون أن يقدموا إطار عمل سياسي لاتفاق محتمل يتم إبرامه في نهاية مهرجان نوروز السنة الجديدة في إيران يوم الثلاثاء. ويفترض أن يكون ذلك الإطار بمثابة الخطوة التعاقدية والرمزية الأولى الضرورية. وبعد ذلك، بحلول نهاية تموز (يوليو)، هناك معاهدة أكثر تفصيلاً ستتلو، والتي ستوضح التزامات إيران والتزامات الغرب بوضوح. ومع ذلك، كان التفاؤل هو الشعور الذي رجح على الشكوك في الأيام التي سبقت الإعلان عن اتفاقية الإطار في نهاية المطاف.
كان المتفاوضون قد أحرزوا بعض النجاح فيما بالمسائل التقنية، مثل عدد أجهزة الطرد المركزي التي يُسمح لإيران بتشغيلها، والدرجة المسموح بها لتخصيب اليورانيوم. وأشارت التقارير إلى أن الفترة الزمنية للاتفاق المحتمل –حول 10 سنوات- قد تحددت إلى حد كبير. لكن هناك مسألتان، مهتمان بشكل حاسم، كانتا هما الأصعب على الحل: عمليات التفتيش، والعقوبات.
مواجهة مأزق
يريد الغرب أن تكون للوكالة الدولية للطاقة الذرية القدرة على التفتيش الشامل لكل المرافق التي تريد، في أي وقت تريد، ومن دون إخطار مسبق، حتى لا تعطى لإيران أي إمكانية للافتراق عن مسار الطاقة النووية السلمية. كما استشرف المفاوضون الغربيون وضع قيود تحد من قدرة العلماء الإيرانيين على إجراء تجارب خاصة بالتقنيات النووية. لكن طهران لم تكن راغبة في القبول بأي إجراءات ربما تحد من سيادتها الوطنية، ورفضت مثل هذه الاقتراحات حتى كتابة هذا التقرير.
وفي الحقيقة، واجه الطرفان مأزقاً حقيقياً، مع عدم رغبة طهران في القبول بعمليات تفتيش غير محدودة، بينما لم تستطع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الوفاء بمطالب إيران بالرفع الفوري للعقوبات كافة. وقد أرادت أوروبا وأميركا جعل رفع العقوبات معتمداً على التأكد من حسن النوايا الإيرانية، واقترحتا رفعاً تدريجياً للعقوبات. وأشار الغربيون إلى حقيقة أن طهران سعت في كثير من الأحيان إلى خداعهم، وإلى معرفتهم أنه سيكون من الصعب تجديد فرض العقوبات بمجرد أن تتم إزالتها. ومع ذلك، كان من الصعب تصور أن توافق القيادة الإيرانية على برنامج زمني مطول لإزالة العقوبات.
مع ذلك، وبعد أن أصبح الرئيس أوباما في النصف الثاني من فترته الرئاسية الثانية والنهائية، فإنه سيكون حراً في اتخاذ بعض المخاطرات. وتشير استعادته الأخيرة للعلاقات الدبلوماسية مع كوبا الشيوعية، وهي خطوة خلطت أوراق الجمهوريين، إلى أنه راغب في استثمار الحرية التي تضمنها له محدوديات الفترة الرئاسية. لكنه لا يستطيع مع ذلك أن يزيل العقوبات ضد إيران ومن جانب واحد ببساطة، خاصة بالنظر إلى أن الكونغرس هو الذي كان قد فرضها. ولعل كل ما يستطيع فعله هو أن يعلق بعضها مؤقتاً -وهو ما يرجح أنه لن يرضي إيران.
مع ذلك، يشعر الرئيس الإيراني المعتدل حسن روحاني ومستشاروه بالقلق إزاء شيء آخر أيضاً. إنهم لا يريدون أن يكونوا ضحايا ما يشيرون إليه في الكواليس بأنه "كارثة أوسلو". في أوائل التسعينيات، أجرى الإسرائيليون والفلسطينيون محادثات بقيادة الولايات المتحدة في العاصفة النرويجية، والتي لقي فيها رئيس منظمة التحرير ياسر عرفات الكثير من الإشادة بسبب رغبته في التسوية. لكنه لم يحصد الثمار أبداً.
"لا صفقة، أفضل من صفقة سيئة"
بطبيعة الحال، ليست الحكومة هي التي تمتلك الكلمة الأخيرة في طهران، وإنما المرشد الديني الأعلى علي خامنئي. وكان ما يفضله هو عدم توقيع إطار عمل مكتوب الآن، لصالح إقرار صفقة واحدة في نهاية تموز (يوليو)، والتي تنظم كل شيء -من دون إتاحة المجال أمام الكثير من التأويلات. ومع ذلك، دعم خامنئي فريق إيران المفاوض في شباط (فبراير)، في كلمة ألقاها في الحرس الثوري، بل إنه أعلن أنه مستعد "للشرب من الكأس المسمومة".
كانت الإشارة إلى سلفه آية الله الخميني، مؤسس إيران الحالية، الذي وصف القبول باتفاق وقف إطلاق النار الذي وضع نهاية للحرب العراقية الإيرانية في الثمانينيات بأنه "شرب من الكأس المسمومة".
وقال خامنئي: "تماماً كما برهنّا حينذاك على أننا منطقيون، فإننا نفعل كذلك اليوم في سياستنا النووية"، مؤكداً بذلك رغبته في التوصل إلى صفقة في نهاية المطاف. لكن ذلك سيحدث فقط، كما أوضح، إذا كانت صفقة جيدة. وقال: "تماماً مثل الأميركيين، أنا مع الرأي القائل إن عدم وجود صفقة سيكون أفضل من صفقة سيئة".
بطبيعة الحال، كان ذلك أيضاً، شكلاً من أشكال التقارب.
أراد باراك أوباما أن يفعل كل شيء بطريقة مختلفة عن سلفه، وشمل ذلك مجال السياسة الخارجية أيضاً. أراد أن يضع نهاية لدور أميركا كرجل الشرطة العالمي، وإلى القيادة من الخلف بدلاً من السعي إلى الهيمنة أحادية الجانب. وكانت رؤيته هي أن يصبح بلده مشرفاً على السياسة الدولية وأن يعثر لنفسه على حلفاء لبناء تحالفات جديدة.
لكنه على الأرجح لم يستشرف النتائج التي تتجسد الآن. اليوم، تجد الولايات المتحدة نفسها متورطة في جميع جبهات الشرق الأوسط -بل، في الآونة الأخيرة، مع دول تناصب بعضها العداء. وفي الأسابيع الأخيرة، كان الوضع غرائبياً بشكل خاص. فمن جهة، تدعم الولايات المتحدة تدخل التحالف العسكري السني في اليمن، والذي يقوم بقصف مجموعة مدعومة من إيران. ومن جهة أخرى، قدمت الولايات المتحدة الدعم الجوي للميليشيات الشيعية التي يقودها جنرال إيراني.
الأكثر من ذلك، أن وزير الخارجية الأميركية جون كيري عمل على التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران بحلول الحادي والثلاثين من آذار (مارس) الذي كان الموعد النهائي لإقرار اتفاق إطار عمل، (وهو ما تحقق بعد ذلك بيومين)، بينما تعارض حليفة أميركا التقليدية في المنطقة، إسرائيل، مثل هذه الصفقة بشدة.
الآن، تصبح الثوابت السياسية أكثر اهتزازاً وضبابية. من هم أعداء أميركا ومن هم حلفاؤها؟ بعد عقود من كونها ثابتاً غير قابل للتحريك في السياسة الخارجية الأميركية، هل ما تزال إسرائيل تتمتع بمكانة الحليف الذي لا غنى عنه؟ ثمة الكثير من الثوابت التي شخصت الشرق الأوسط طوال عقود، والتي لم تعد تشف عن اليقين نفسه.
ليس هناك أي بلد آخر، باستثناء إسرائيل، والذي تلقى هذا القدر من الأسلحة عالية التقنية مثل العربية السعودية، الدولة الملكية المحافظة. ورغم القمع العنيف لكل صوت معارض، والسنوات التي أنفقت في تمويل الإرهاب الإسلاموي عن طريق المنظمات "الخيرية"، استمرت واشنطن في الإحساس بضرورة الالتزام تجاه السعوديين. لكن ذلك ربما لن يدوم الآن. فبعد أن قللت تقنيات تفتيت الصخور في الوطن من الاعتماد الأميركي على البترول المستورد من العربية السعودية وبقية الشرق الأوسط -إلى درجة أن الولايات المتحدة قد لا تضطر قريباً إلى استيراد أي بترول على الإطلاق– أصبح من الممكن أن تتغير العلاقات الأميركية مع الرياض، أو أن يلفها البرود على الأقل.
بالإضافة إلى ذلك، تقاتل العربية السعودية السنية، وإيران الشيعية، من أجل الهيمنة والتفوق في الشرق الأوسط -في سورية، وفي العراق، وأخيراً في اليمن. ولكن، وعلى النقيض مما حدث في السنوات السابقة، أصبحت المصالح الأميركية تتداخل إلى درجة كبيرة في الآونة الأخيرة مع مصالح طهران. وفي الحقيقة، وبينما انحدرت العلاقات بين واشنطن والقيادة الإسرائيلية إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق في الأسابيع الأخيرة، أصبحت طهران شريكاً بحكم الأمر الواقع في المعركة الجارية ضد "الدولة الإسلامية"، حتى مع عدم رغبة أي من الطرفين في قول ذلك صراحة.
التجسس على الولايات المتحدة
الآن، تشكل المصالحة مع إيران، وإعادة دمجها في سياسة واشنطن وانفتاحها الاقتصادي أمام الشركات الأميركية الكبيرة، أولوية قصوى بالنسبة للرئيس أوباما. وبذلك، أصبح إرثه في السياسة الخارجية يعتمد إلى درجة كبيرة على تأمين اتفاق نووي مع إيران. ومن أجل الحصول على اتفاق، تبدو الحكوة الأميركية مستعدة لقطع أشواط طويلة. ومع ذلك، تخشى إسرائيل هذا التوجه بالضبط؛ حيث يشعر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بالإضافة إلى البعض في المعارضة، بالقلق من أن تقدم واشنطن قدراً كبيراً من التنازلات.
يساعد هذا في تفسير أسباب انتقاد نتنياهو العنيف لأقرب حلفائه على الملأ؛ حيث وصف المفاوضات مع إيران بأنها ساذجة. وبالإضافة إلى ذلك، نأى نتنياهو بنفسه عن التزاماته السابقة بالعمل في اتجاه حل الدولتين المدعوم أميركياً للصراع مع الفلسطينيين، وانعطف بحدة نحو اليمين في الأيام الأخيرة من حملة إعادة انتخابه التي نجحت في نهاية المطاف.
وكما لو أن ذلك لم يكن كافياً، ظهرت تقارير تقول إن أجهزة المخابرات الإسرائيلية كانت تتجسس على وفد الولايات المتحدة خلال المفاوضات النووية مع إيران في لوزان في سويسرا، وتمرر تفاصيل الصفقة المخطط لها إلى أعضاء في الكونغرس. وقد أغضب ذلك أوباما. وقال مؤخراً عن علاقاته بنتياهو: "لا يمكن اختزال هذه المسألة بطريقة ما إلى: دعونا نرفع أيدينا جميعاً ونغني "كومبايا"". ولم يستبعد الرئيس حتى خيار دعم إقامة دولة فلسطينية في الأمم المتحدة؛ حيث قال عن ذلك: "نحن في طريقنا إلى إجراء ذلك التقييم".
وفي هذا الإطار، يلمح مستشارو أوباما بهدوء إلى أن ذلك قد يعني: ربما تتوقف الولايات المتحدة عن دعم إسرائيل بشكل أعمى في الأمم المتحدة، ويمكن أن تتجاهل مخاوف نتنياهو وتوقع معاهدة نووية مع طهران، إلى جانب كل من أوروبا، والصين وروسيا.
ولكن، كيف أمكن أن تصل الأمور إلى هذا الحد؟ يحيل البحث عن تفسير مرة أخرى إلى الربيع العربي الذي انطوى على الوعد بإحداث تطورات إيجابية في المنطقة. لكن تلك الآمال خفتت منذئذ. في مصر، ثمة دكتاتورية عسكرية بحكم الأمر الواقع، والتي عادت مرة أخرى إلى السلطة، بينما انحدرت كل من ليبيا واليمن أكثر إلى وضع "الدولة الفاشلة".
ممارسة تأثير على الأسد
مع ذلك، ترى واشنطن أن أكبر خطر ماثل الآن هو ذلك الذي تشكله "الدولة الإسلامية". وفي المعركة ضد الإسلامويين المتطرفين، يبدو أوباما مستعداً لتقديم تنازلات مؤلمة. وعلى سبيل المثال، أثار وزير الخارجية الأميركية جون كيري في أواسط آذار (مارس) احتمال دراسة واشنطن خيار التفاوض بشار الأسد. وحتى مع أنه تراجع عن تصريحاته سريعاً، فإنه يبدو أن هناك على الأقل، في خضم المعركة ضد "الدولة الإسلامية" تفاهم غير مباشر مع الأسد. وفي الحقيقة، يبدو أن البيت الأبيض لم يعد ينظر إلى تغيير النظام هناك كأولوية، وأن الرئيس الأميركي –كما يقال- يحاول ممارسة التأثير على الأسد من خلال قنوات إيرانية. وبعد كل شيء، ليس هناك أحد يمتلك تأثيراً على الأسد أكثر من القوى الموجودة في إيران.
وفي الحقيقة، يبدو أن أهم خيوط القوى في المنطقة تتجمع كلها في طهران في هذه الأيام، مما يجعل ذلك البلد يبدو أكبر الكاسبين من التحولات الجيوسياسية الراهنة في الشرق الأوسط. وكان الذي أرسى حجز الزاوية لهذه التطورات، بغير حصافة، سلف أوباما الرئيس جورج دبليو بوش. ففي أعقاب الهجمات الإرهابية يوم 11 أيلول (سبتمبر) 2001، هاجم بوش كلاً من طالبان في أفغانستان وصدام حسين في العراق، وهما العدوان السنيان اللدودان لإيران. لكنه لم يفعل الكثير لإضعاف حزب الله، الميليشيا التابعة لإيران، والتي تمارس نفوذاً هائلاً في كل من سورية ولبنان. وفي الحقيقة، تشكل دمشق وبيروت وصنعاء ثلاث عواصم في المنطقة، والتي تقع إلى حد كبير تحت السيطرة الإيرانية.
لكن النقطة الأمامية الإيرانية الأكثر أهمية هي بغداد. في العراق، ليس هناك رجل أكثر نفوذاً الآن من الجنرال الإيراني قاسم سليماني، المعروف بين العراقيين باسم "سوبرماني". ومن دون المساعدة، وقوات النخبة الإيرانية، ما كان الجيش العراقي ليتمكن أبداً من هزيمة "الدولة الإسلامية" واستعادة تكريت، وما كان ليصبح في موضع يؤهله ليضع عيونه على الموصل. سليماني (60 عاماً)، يقود سرايا القدس؛ الذراع العسكرية للحرس الثوري، الذي يشكل نوعاً من جيش خاص تحت السيطرة المباشرة للزعيم الديني الإيراني علي خامنئي. وفي الماضي، كانت هذه السرايا قد تورطت في هجمات إرهابية. ولكن الأميركيين يبدون هم أيضاً، بالإضافة إلى العراقيين، معجبين بحِرَفية سليماني. ويقول مسؤولو الاستخبارات إن واشنطن تنسق ضرباتها الجوية مع الجنرال؛ ولأن أوباما غير معني بإرسال قوات أميركية إلى العراق، أصبحت قوات النخبة الإيرانية بمثابة "قوات (واشنطن) على الأرض".
تحولات على المدى الطويل
هذه التحالفات الاستراتيجية بشكل أساسي، تجيء بطبيعة الحال نتيجة لاستجابة براغماتية للقضايا المطروحة، والتي لا تشكل نهجاً جديداً تجاه إيران في حد ذاتها. بل إن هذه القضايا ما تزال موضع جدل في داخل إدارة أوباما نفسها أيضاً؛ حيث يقول رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، جون برينان، إنه لا يرى إيران كحليف في العراق.
لكن هناك احتمالاً بأن يكون تحول طويل الأجل في العلاقات الأميركية-الإيرانية قادماً على الطريق. ومع ذلك، سيعتمد هذا على مسألة الموافقة على الاتفاق النووي مع طهران والمصادقة عليه.
ظلت الأزمة النووية بين طهران وبقية العالم قائمة على مدار الاثنتي عشرة سنة الماضية. وفي خمس مناسبات منفصلة، أقرت الأمم المتحدة عقوبات ضد طهران، نتيجة لبرنامجها النووي. ومع أنه لم يتم أبداً تقديم دليل دامغ لا يقبل الجدل على أن إيران تقوم ببناء سلاح نووي، فقد تم إثبات أن الخداع والحيل شكلت جزءاً من استراتيجية طهران لمواصلة ما تصر على أنه برنامج نووي مدني. وبالإضافة إلى ذلك، رفض ذلك البلد الامتثال للمطالب المادية وطلبات التفتيش التي أصدرتها الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وكالة الأمم المتحدة التي تشرف على الالتزام بمعاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية. وتستمر حقيقة مواصلة إيران رفضها تقديم معلومات تتعلق بتجاربها التي يعتقد بأن لها صلة ببرنامجها للأسلحة النووية، في أن تكون من أحجار العثرة الرئيسية أمام التوصل إلى الاتفاق المحتمل.
وفي الأسابيع الأخيرة، كانت إمكانية حدوث اختراق في المفاوضات بشكل متكرر موضوعاً للكثير من التكهنات، بينما جرى تأكيد إحراز تقدم في مسائل مخصوصة. كان الطرفان يريدان تحقيق النجاح، وأراد المتفاوضون أن يقدموا إطار عمل سياسي لاتفاق محتمل يتم إبرامه في نهاية مهرجان نوروز السنة الجديدة في إيران يوم الثلاثاء. ويفترض أن يكون ذلك الإطار بمثابة الخطوة التعاقدية والرمزية الأولى الضرورية. وبعد ذلك، بحلول نهاية تموز (يوليو)، هناك معاهدة أكثر تفصيلاً ستتلو، والتي ستوضح التزامات إيران والتزامات الغرب بوضوح. ومع ذلك، كان التفاؤل هو الشعور الذي رجح على الشكوك في الأيام التي سبقت الإعلان عن اتفاقية الإطار في نهاية المطاف.
كان المتفاوضون قد أحرزوا بعض النجاح فيما بالمسائل التقنية، مثل عدد أجهزة الطرد المركزي التي يُسمح لإيران بتشغيلها، والدرجة المسموح بها لتخصيب اليورانيوم. وأشارت التقارير إلى أن الفترة الزمنية للاتفاق المحتمل –حول 10 سنوات- قد تحددت إلى حد كبير. لكن هناك مسألتان، مهتمان بشكل حاسم، كانتا هما الأصعب على الحل: عمليات التفتيش، والعقوبات.
مواجهة مأزق
يريد الغرب أن تكون للوكالة الدولية للطاقة الذرية القدرة على التفتيش الشامل لكل المرافق التي تريد، في أي وقت تريد، ومن دون إخطار مسبق، حتى لا تعطى لإيران أي إمكانية للافتراق عن مسار الطاقة النووية السلمية. كما استشرف المفاوضون الغربيون وضع قيود تحد من قدرة العلماء الإيرانيين على إجراء تجارب خاصة بالتقنيات النووية. لكن طهران لم تكن راغبة في القبول بأي إجراءات ربما تحد من سيادتها الوطنية، ورفضت مثل هذه الاقتراحات حتى كتابة هذا التقرير.
وفي الحقيقة، واجه الطرفان مأزقاً حقيقياً، مع عدم رغبة طهران في القبول بعمليات تفتيش غير محدودة، بينما لم تستطع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الوفاء بمطالب إيران بالرفع الفوري للعقوبات كافة. وقد أرادت أوروبا وأميركا جعل رفع العقوبات معتمداً على التأكد من حسن النوايا الإيرانية، واقترحتا رفعاً تدريجياً للعقوبات. وأشار الغربيون إلى حقيقة أن طهران سعت في كثير من الأحيان إلى خداعهم، وإلى معرفتهم أنه سيكون من الصعب تجديد فرض العقوبات بمجرد أن تتم إزالتها. ومع ذلك، كان من الصعب تصور أن توافق القيادة الإيرانية على برنامج زمني مطول لإزالة العقوبات.
مع ذلك، وبعد أن أصبح الرئيس أوباما في النصف الثاني من فترته الرئاسية الثانية والنهائية، فإنه سيكون حراً في اتخاذ بعض المخاطرات. وتشير استعادته الأخيرة للعلاقات الدبلوماسية مع كوبا الشيوعية، وهي خطوة خلطت أوراق الجمهوريين، إلى أنه راغب في استثمار الحرية التي تضمنها له محدوديات الفترة الرئاسية. لكنه لا يستطيع مع ذلك أن يزيل العقوبات ضد إيران ومن جانب واحد ببساطة، خاصة بالنظر إلى أن الكونغرس هو الذي كان قد فرضها. ولعل كل ما يستطيع فعله هو أن يعلق بعضها مؤقتاً -وهو ما يرجح أنه لن يرضي إيران.
مع ذلك، يشعر الرئيس الإيراني المعتدل حسن روحاني ومستشاروه بالقلق إزاء شيء آخر أيضاً. إنهم لا يريدون أن يكونوا ضحايا ما يشيرون إليه في الكواليس بأنه "كارثة أوسلو". في أوائل التسعينيات، أجرى الإسرائيليون والفلسطينيون محادثات بقيادة الولايات المتحدة في العاصفة النرويجية، والتي لقي فيها رئيس منظمة التحرير ياسر عرفات الكثير من الإشادة بسبب رغبته في التسوية. لكنه لم يحصد الثمار أبداً.
"لا صفقة، أفضل من صفقة سيئة"
بطبيعة الحال، ليست الحكومة هي التي تمتلك الكلمة الأخيرة في طهران، وإنما المرشد الديني الأعلى علي خامنئي. وكان ما يفضله هو عدم توقيع إطار عمل مكتوب الآن، لصالح إقرار صفقة واحدة في نهاية تموز (يوليو)، والتي تنظم كل شيء -من دون إتاحة المجال أمام الكثير من التأويلات. ومع ذلك، دعم خامنئي فريق إيران المفاوض في شباط (فبراير)، في كلمة ألقاها في الحرس الثوري، بل إنه أعلن أنه مستعد "للشرب من الكأس المسمومة".
كانت الإشارة إلى سلفه آية الله الخميني، مؤسس إيران الحالية، الذي وصف القبول باتفاق وقف إطلاق النار الذي وضع نهاية للحرب العراقية الإيرانية في الثمانينيات بأنه "شرب من الكأس المسمومة".
وقال خامنئي: "تماماً كما برهنّا حينذاك على أننا منطقيون، فإننا نفعل كذلك اليوم في سياستنا النووية"، مؤكداً بذلك رغبته في التوصل إلى صفقة في نهاية المطاف. لكن ذلك سيحدث فقط، كما أوضح، إذا كانت صفقة جيدة. وقال: "تماماً مثل الأميركيين، أنا مع الرأي القائل إن عدم وجود صفقة سيكون أفضل من صفقة سيئة".
بطبيعة الحال، كان ذلك أيضاً، شكلاً من أشكال التقارب.
(ديرشبيغل)