معوقات محاسبة إسرائيل في القانون الدولي وآلية تجاوزها
للقانون الدولي الإنساني وظيفتان، تتمثل الوظيفة الأولى بتوجيه الدول بالمبادئ القانونية والأعراف الدولية قبل الحرب وبعدها، وذلك بهدف السعي إلى تخفيف الأعمال العنفية والعدائية بين طرفي النزاع، وفي هذا الصدد، تطرح الإشكالية نفسها حول مدى إمتداد الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وإطالة الظلم للفلسطينيين على إمتداد 73 عاما، منذ النكبة الفلسطينية عام 1948.
تشير المادة 2(4) والفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة بإعتبارهما مصدرين أساسيين لقانون الحرب، أن يمتنع جميع الأعضاء في علاقتهم الدولية عن التهديد بإستخدام القوة أو تهديد السلامة العامة، أو الإستقلال السياسي لأي دولة، وكذلك إستخدام أي طريقة أخرى تتعارض مع مبادئ ميثاق الأمم المتحدة، كما أشار الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة إلى الإجراءات المتعلقة بالتهديدات للسلام، وخرقه، من خلال ممارسة العدوان، والمتعلق أيضا بالمادة 39 و51 من ميثاق الأمم المتحدة، وفي حالة الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، نجد أن هذا الصراع يقع بالمنطقة الرمادية لناحية تطبيق الفصل السابع، بسبب تردد مجلس الأمن بتعريف جريمة العدوان، وبسبب تعقيدات القانون الدولي، نتيجة إتهام "إسرائيل" الدول العربية التعرض لها بعد صدور قرار التقسيم 181، بينما في المقابل إتهمت الدول العربية متمثلة بالفلسطينيين عام 1948 "إسرائيل" بأنها غير شرعية، وهي التي تعدت على الأراضي الفلسطينية. ما يضع المجتمع الدولي بحيرة من هو المعتدي؟
بالإضافة إلى ذلك، تجادل "إسرائيل" بأنها خاضت الحرب دفاعا عن نفسها، كما هو ظاهر أمام المجتمع الدولي، وفي المقابل تجادل الدول العربية بأن الحرب شنت على "إسرائيل" دفاعا عن الأراضي الفلسطينية والشعب الفلسطيني، كما هو محدد في قانون الحرب، ومما زاد التعقيدات، هو تفسير الولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الأوروبية أن الحروب العربية- الإسرائيلية من منظور الحرب الباردة (1945-1990)، ما يؤدي إلى غياب حقيقة من هو المعتدي الحقيقي أمام المجتمع الدولي، الذي يعجز عن تطبيق الفصل السابع بسبب تمتع الولايات الأميركية التي تمتلك حق النقض بموجب المادة 27(3) من الفصل الخامس، وحمايتها "لإسرائيل" رغم إنتهاكها لقانون الحرب بإستمرار.
وبسبب غياب التنسيق بين الدول الكبرى والدول الصغرى بفرض مسؤولية قانون الحرب على الدول، تميل "إسرائيل" كـ "دولة" مدعومة من الدول الكبرى إلى تفسير قانون الحرب بما يتماشى مع مصالحها، وفي المقابل لا تعترف "إسرائيل" بالفلسطينيين الذين يدافعون عن أرضهم لتبني قانون الحرب، بل تصفهم بـ "الإرهاب"، ما يجعل المجتمع الدولي لا يفصل بين النضال الفلسطيني لحصوله على الحرية، وبين الدفاع عن النفس.
الوظيفة الثانية للقانون الدولي الإنساني تدور حول سلوك الدولة أثناء الحرب وبعدها، وذلك من خلال تطوير إتفاقيات جنيف ومعاهدة لاهاي، لعامي 1899 و1907، وتم وضع آلية للتعامل مع الأطراف العسكرية (المقاتلين) وبين المدنيين، والتقنين من جرائم الحرب.
في الواقع، هناك العديد من النزاعات الدولية التي فشلت بالإمتثال إلى القانون الدولي، وهذا الذي ينطبق على الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، ما جعل "إسرائيل" عرضة لخرق قانون الحرب، سعيا وراء مصلحتها القومية والأمنية، دون التمييز بين المقاتلين والمدنيين، وتتجاهل الممتلكات المحمية من الأهداف العسكرية، فتستهدف المدنيين ومنازلهم، وأراضيهم، ومدارسهم، والمستشفيات، والبنى التحتية، ومصادر المياه، وهي إنتهاكات متعمدة بنظر قانون الحرب، كما هو وارد في إتفاقيات جنيف التي إنضمت لها "إسرائيل" عام 1949، وصادقت عليها عام 1951، والتي تنص بالمادة الأولى منها على إحترام وضمان الدول الأطراف على تطبيقها في جميع الظروف.
بل على العكس تماما، تتعمد "إسرائيل" إنتهاك إتفاقيات جنيف وسط إدانة دولية، كما جاء في تقرير (CJPME) عام 2004، وأوضح كيف أنشأت "إسرائيل" المستوطنات غير الشرعية، وممارسة الإعتقال العشوائي، وقتل المدنيين، وتهجيرهم بشكل قسري، ومضايقة الوحدات الطبية، وإنتهاكها للمسؤولية التي تقع على عاتقها كدولة إحتلال على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967. ورغم كل إدانات الدول الغربية، وقرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة، فشلت هذه الدول في إقناع "إسرائيل" بالإمتثال أمام القانون الدولي الإنساني.
تمتلك "إسرائيل" القدرات الكافية لتحريف جميع القواعد لتحقيق مصلحتها، كون القانون الدولي هو شيء ثانوي بالنسبة لها، بإعتبار أن القانون الدولي يسري على الضعفاء وليس على الأقوياء، ما جعل القانون الدولي الإنساني بالنسبة للقضية الفلسطينية موجود في الإسم فقط، دون إمكانية في الوقت الحالي لإنصياع "إسرائيل" لتطبيقه، إستشهادا بمقولةـ "هيرش لوترباخت" (1952): "إذا كان القانون الدولي نقطة في تلاشي القانون، فإن قانون الحرب هو نقطة في تلاشي القانون الدولي".
تم إتخاذ حوالي 1500 قرار من الأمم المتحدة، بين الجمعية العامة ومجلس الأمن، بالإضافة إلى العديد من التقارير الدولية التابعة للمنظمات الدولية الحكومية والمنظمات الدولية غير الحكومية، ناهيك عن قرار محكمة العدل الدولية المتعلق بقرار الجدار العازل عام 2004، لم يطبق من هذه القرارات شيء يتعلق بحقوق الشعب الفلسطيني المتعلقة بحقه في تقرير المصير، سواء كان على مستوى إقامة الدولة الفلسطينية بعاصمتها القدس كما جاء في قرارات الشرعية الدولية، أو فيما يتعلق بعودة اللاجئين، إلى أن إنضمت فلسطين إلى نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية عام 2014، عسى أن تغير من واقع القانون الدولي الإنساني وإمكانية نفاذه.
فقرار المحكمة الجنائية بعد إجراء التحقيقات اللازمة، سيتعلق بقيادات إسرائيلية، ولا يحاسب "إسرائيل" كدولة في إنتهاكها للقانون الدولي، بل ستقوم المحكمة بمحاسبة أي فرد إرتكب جرائم الحرب، أو جرائم ضد الإنسانية، أو جريمة الإبادة الجماعية، أو جريمة العدوان، وذلك بالتعاون مع دول الأطراف بنظام روما، ما يعيق سفر القيادات الإسرائيلية المدانين إلى الدول الأطراف في نظام روما الأساسي خوفا من إلقاء القبض عليهم، وتسليمهم للمحكمة، أو يبقون فارين من العدالة في "إسرائيل" ممنوعين من السفر، هذا إن سلمنا جدلا أن دول الأطراف لن تتواطأ مع القيادات الإسرائيلية.
أما فيما يتعلق بمحاسبة "إسرائيل" كـدولة إحتلال، لإقرار الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وتحقيق الدولة الفلسطينية المستقلة بعاصمتها القدس، وعودة اللاجئين، كما جاء في قرارات الشرعية الدولية، فإنها تنتزع من "إسرائيل" كونها قوة إحتلال، وقد كفل القانون الدولي كل التحركات وكافة أنواع النضال والكفاح بكل وسائله، للتخلص من الإحتلال، كما نصت العديد من قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة (قرار3034 عام 1972، وقرار 3246 عام 1974)، وكما أثبت التاريخ، فمن هنا، على الشعب الفلسطيني أن يستفيد من القرارات الدولية، التي تمنحه حقوقه الوطنية، ويضع المجتمع الدولي بخانة التقصير، وإجباره على الإعتراف بدولته وحقوقه المشروعة، وذلك من خلال ممارسة جميع أشكال المقاومة الشعبية والشاملة.