رجاء بكريّة: محمّد نفّاع عاشقٌ ترويهِ الحِكاية
2015-06-07
مداخلة: رجاء بكريّة
“.. فالنَّصُ عندهُ، تشكيلٌ فنيٌّ لكلِّ ما لا يخطُرُ لنا ببال. يستَدعي الغائبَ حاضِرا. يجمَعُ الأفعالَ ضمنَ فعلٍ واحدٍ. يسترسِلُ ليضربَ الضّمائرَ بالأسماءِ. يستحضرُ الذّاكرةَ، يسجِّلُ أحاديثَ شِتائِها كصيفِها في ذاتِ المُساجلةِ”.
تنفرطُ المعادلة حين يجري الحديث حول رجلِ حكايا توقّف عن عدّ الزّمن. ليس كاتبا تماما، ولا يروي حكاياه، بل ترويهِ، هي، من بئر غِوايتها. فليس عاديا في عمر الحكاية أن نُمسِكَ بها من كَعبِهَا، إلا في حالات نادرة، حين يشتدُّ لمعانُ عُيونِها، وتسقُطُ فتنتُهَا بضوضاء خاتمٍ على صولَجانِ قلب. وهذا ما يحدثُ حين يفُكّ أزرار حكاياهُ محمّد نفّاع.
لسنا، هنا، أمامَ حالة عابرة نسجِّلُ عنها لنقلب صفحتها ونمضي، ولكنّا أمام ظاهرة كلَّما جُدْنا بنفيسِها، جوّعَنَا فقرُ أدواتِنَا، فحينَ يُغرِقُ النّفيسُ صاحبَهُ بالبَريقِ يصيرُ الكلامُ فقيراً ، ودرويشاً إن شِئتُم.. لا يروي ظمأَ الورق.
فَراوِينا عاشِقٌ يُرَبّي شُخُوصَهُ كَزرعِ الحقلِ تَماماً بِعِشقٍ لا يرويهِ الحَكي. قرَأتُ كثيرَ الكُتّابِ، لكنّي لم أقع على مِثلِ وليمَةِ الكلامِ الّتي لأَبطالِهِ وسُطورِه. وليمةٌ لا تُحبُّ أن تمُدَّ إليها يدُكَ لِئلا تجعلَكَ بعضَ أطاييبِها. وأنتَ أمامَها لا تعرِفُ كيفَ تنتَقِي ما تُحِبُّه، لأنّ كلَّ ما فيها يُحِبُّك. لا، لم أقرأ سرداً كهذا يتعربشُك، ويؤسِّسُ لهُ، على زنديكَ عالماً. وفي قلبِكِ وبينَ عينيك. وعلى جبينِكَ يسقُطُ ورقَ عِنَبٍ ناضِجِ القُطوفِ كي يُدَلِّلك.
منذُ قرأتُ أعمالَهُ، وأنا أزدادُ حيرةً كلَّما التفّتِ النِّساءُ، نساءَهُ علي. فهُنَّ يتشابَهنَ في مصادِرِ أنوثتِهِنَّ، وأَنَفَتِهِنَّ، وثورَتِهن، أمّا عن خصبِ أجسادِهِنّ، ولو تمرّدنَ، فحدِّث ولا حرج. خصبٌ يغرِفُ من جُرنِ الأُسطورَةِ ليَجُدنَ نضارةً وعُمراً ومسافَة. فلهُنَّ كبرياءٌ أشمُّ تتمنّاهُ الأُنوثَةُ في أماكِنَها وأَزمَانِها، ورغمَ ذلكَ يحفظنَ ذلكَ الحياء الفِطريّ الّذي بتنا نتمنّاهُ في النّساء.
ولعلّهُ الجميلُ فيما يُصَادِفُنا اقترانَ حكايا النّساء بحَكايا الأرضِ. بشوكِها ووردِهَا، بُطمِهَا، وسرّيسِها، وتاريخِ ذاكِرَتِها. حرصٌ يمنحُ جذوراً بعيدةَ الأثرِ لتاريخِ الميجنا والعتابا والأغنية. فالنَّصُ عندهُ، تشكيلٌ فنيٌّ لكلِّ ما لا يخطُرُ لنا ببال. يستَدعي الغائبَ حاضِرا. يجمَعُ الأفعالَ ضمنَ فعلٍ واحدٍ. يسترسِلُ ليضربَ الضّمائرَ بالأسماءِ. يستحضرُ الذّاكرةَ، يسجِّلُ أحاديثَ شِتائِها كصيفِها في ذاتِ المُساجلةِ.
ونحنُ نحتارُ تَماماً، ولا نميِّزُ إذا كانَ يشطحُ خلفَ جدائلِ غيمة، أم أنَّهُ يُطلِقُ للزّرعِ جَدائلَ من نسيجِ الحِكاية. رائحِةُ التُّرابِ، والورقِ والنّبتِ، والتّلمِ. تحتلّكَ حدّ أنّك لا تميّز أيّها الأجمل في حضور بلاد تستشريهِ بلا نهاية.
غيرّ مرّةٍ شدهتني سبيكةُ السّردِ الّتي لشُخوصِهِ بأحداثِها. هوَ يكتبُ كما يحكي، ويحكي كَما يكتبُ. يفصِّحُ ويعمِّمُ بيسرٍ وسلاسة. يُغنّي ويثورُ بذاتِ القدرِ من الغضبِ والسّعادة. لا يهمُّهُ الجائزُ والممنوعُ، ولا خطوطَ تلوِّنُ فواصِلَهُ. إشاراتُ المُرورِ لديهِ، كما اللُّغةِ تمسَحُها ليونةَ سردِهِ بيُسرٍ وتلقائيّة. هذا الإنسيابُ النّادرُ للحديثِ بينَ أصابِعِهِ ينطوي على جماليّةٍ فنيّةٍ بالغة. بعدَها، لا يمكنُ لأيٍّ كانَ أن يتحدّى فاطمة، وهيَ تناوِرُ أُنوثتَها وتتجاوزُ رجعيَّةَ ربعِها، لتسبقُ زَمَنَها.
لقد أسّسَ راوي الحكاية المُحتفى بفنِّهِ، عبرَ ما نسَجَ نقشاً يُلغِي معاييرَ الحكاية، فأنشأَ حِكايتَهُ وقامُوسَهُ وشُخوصَهُ وتاريخَهُ، وأعلنَ: كلُّ سطرٍ تطأونَهُ سُجّادةٌ تحكي عن نقوشِها الرِّواية.
(أطلقت في أمسية محمّد نفّاع، كفرياسيف)