حديث المبادرة الفرنسية -محمد السهلي
2015-07-19
نتقى المفاوض الفلسطيني بعض العبارات الجاذبة في الأفكار الفرنسية وتجاهل الأخطار الوطنية الكبرى التي تحفل بها هذه الأفكار
نفت الخارجية الفرنسية بسرعة صحة ماقاله وزير الخارجية في السلطة الفلسطينية رياض المالكي من أن باريس سحبت مبادرتها بشأن التسوية من التداول.
ولانعرف فيما إذا شهدت الساعات الأربع والعشرون التي فصلت بين قول المالكي ونفيه فرنسيا أية اتصالات بين باريس ورام الله بهذا الشأن، لكن الثابت أنها لم تقع قبل ذلك وإلا ماحصل هذا التناقض بين الجانبين.
يأتي ذلك بعد أسابيع قليلة على اجتماع وزير الخارجية الفرنسي مع الرئيس عباس والحكومة الفلسطينية وإعلان الجانب الفلسطيني استحسانه الأفكار التي طرحها الوزير فابيوس بخصوص تحريك التسوية ودعم السعي الفرنسي لترسيم هذه الأفكار في مجلس الأمن.
اللافت أن المالكي أحال التراجع الفرنسي إلى الضغوط الأميركية والاسرائيلية في الوقت الذي نوه فيه بأفكار تتبلور لدى نيوزلندا وكأن الأخيرة أقدر من باريس على مقاومة الضغوط.
لذلك، بدا للمراقبين أن «الرسمي» الفلسطيني منهمك في استدراج عروض أفكار أكثر من انهماكه في التدقيق بمقاربتها للحقوق الفلسطينية.
التحرك الفرنسي الرسمي بخصوص التسوية برز في شباط / فبرايرالعام 2010 عندما نسقت باريس مع مدريد في صياغة ملامح مبادرة في ظل ظروف مشابهة من جمود عملية التسوية بعد الفشل المعلن للمفاوضات التي وقعت في العام 2008 عقب مؤتمر أنابوليس. وكان الطعم المقدم للفلسطينيين هو ذاته الذي تقدمه الأفكار الفرنسية في صورتها الراهنة، وهو الاعتراف بالدولة الفلسطينية في حال بدأت المفاوضات وانقضت مدتها المقررة (عام ونصف العام) في ذلك الوقت، أي حتى منتصف العام 2011. مع مؤشر مهم يتعلق بقرارات برلمانات أوروبية عدة مؤخرا تعترف فيها بدولة فلسطين ودعت حكومات بلادها للقيام بذلك. وهذا أحد الأسباب الاضافية التي تدفع بباريس للحديث عن الاعتراف شكلا والهروب منه عملا عبر ربطه بمسار التسوية المعطلة.
لكن مضمون مشروعي المبادرتين القديم والحالي ذاته في الجوهر ويبدأ من شطب حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وممتلكاتهم مرورا بتقديم الاعتبارات الأمنية الاسرائيلية وصولا إلى مبدأ تبادل الأراضي وانتهاء بتعويم قضية القدس.
مع ذلك، وضعت واشنطن في ذلك الوقت حدا للدور الفرنسي بإلزام المفاوض الفلسطيني بدخول المفاوضات التقريبية بعد شهر واحد تقريبا من تداول الأفكار الفرنسية - الاسبانية، التي نقلها كوشنير وزير الخارجية الفرنسي إلى الأطراف المعنية ورفضتها تل أبيب فيما رحب بها المفاوض الفلسطيني تحت سحر عبارة الاعتراف بالدولة الفلسطينية والتي وردت خارج الأفكار الرئيسية المحددة للمبادرة.
من المعروف أن واشنطن وتل أبيب ترفضان أي دور أوروبي يتجاوز حدود الاعتراف بحق الولايات المتحدة الحصري بإدارة عملية التسوية مع اسرائيل سواء على الجبهة الفلسطينية أو غيرها من الجبهات العربية. وتاريخ التسويات المعقودة في هذا الشان أوالاتفاقات المبرمة على طريقها يثبت ذلك.
والأمر نفسه ينسحب على دور «الرباعية الدولية» منذ تشكيلها. ومن يتابع بياناتها طيلة مسار المفاوضات المتعرج في العام 2010 يخلص إلى أن اللجنة حاضرة في ظل تطابق مواقف أطرافها مع واشنطن، ومغيبة في الحال المعاكس. وفي هذه الحال يختزل دور «الرباعية» بتحركات منسقها توني بلير الذي، ومع التصاقه بالموقف الأميركي من عناصر التسوية وآليتها، لم ينج من الاقصاء عندما لم تتم دعوته لحضور مهرجان إطلاق المفاوضات المباشرة في واشنطن في الأول من أيلول/سبتمبر 2010 وتأكد فشلها بعد 16 يوما فقط.
إلى جانب ذلك، ترفض تل أبيب الحديث عن سقف زمني للمفاوضات وتربط مدتها بحصول تقدم جوهري ربطا بتحقيق رؤيتها حصرا. وهي حلت هذه المعضلة عمليا مع واشنطن عندما قفزت عن استحقاقات انتهاء المرحلة الانتقالية المسقوفة باتفاق أوسلو بخمس سنوات، أي حتى أيار/مايو 1999. وكان نتنياهو في ذلك الوقت على رأس الحكومة الاسرائيلية منذ العام 1996 وعمل بنشاط في إعاقة التوصل إلى اتفاقات تنفيذية تمهد لهذه الاستحقاقات.
أسباب كثيرة تدفع اسرائيل لرفض الأفكار الفرنسية بشأن التسوية . وهي عندما أعلنت عن خروج هذه الافكار من التداول كانت تقرأ تصريحات فابيوس وفقا لفهمها الدقيق لأبرز محددات الموقف الأميركي بشأن المبادرات الأخرى وقدرته على تعطيلها، وخاصة أن فابيوس قال بضرورة توفير إطار دولي وإقليمي داعم للمبادرة الفرنسية. وهذا يعني بنظر فابيوس أن اللجنة الرباعية الدولية لاتشكل هذا الداعم القادر على تشكيل رافعة في مجلس الأمن. إذن ماهو مطروح فرنسيا الخروج من ضيق المساحة السابقة التي ينحشر فيها النقاش حول التسوية. وهنا يتقاطع الموقفان الأميركي والاسرائيلي تجاه هذا الجانب الآلياتي من المبادرة الفرنسية.
إلى جانب ذلك، لاتلقى الأفكار الفرنسية تأييدا من عدد من العواصم الأوروبية المؤثرة، أهمها لندن وبرلين اللتان تنظران بحذر إلى النشاط الفرنسي في المنطقة وقرأتا فيه مسعى لتعزيز نفوذ باريس وتأثيرها مستخدمة كلمة السر التاريخية المتعلقة بالقضية الفلسطينية والتي لطالما شكلت جواز سفر يمكن من النفوذ إليها بسهولة.
إذن، قراءات عدة للأفكار الفرنسية تقوم بها الأطراف المعنية ذات التأثير والتأثر. وهذه القراءات تتم وفق معايير قياسية وفقا لمصالح كل من هذه الأطراف.
لكن ماهي القراءة التي قام بها المفاوض الفلسطينيى لهذه الأفكار؟ يمكن القول من خلال المواقف المعلنة إن المفاوض الفلسطيني لم يستخدم المعايير القياسية في تحديد الموقف من هذه الأفكار. فانتقى - دون أن يجبره أحد على ذلك - بعض العبارات الجاذبة وتجاهل الأخطار الوطنية الكبرى التي تحفل بها الأفكار الفرنسية وهي مكتوبة ونشرت على الملأ.
المعايير القياسية هي محددات الموقف الوطني ربطا بتجسيد حقوق الشعب الفلسطيني. وأكد على أبرزها المجلس المركزي الفلسطيني في اجتماعه الأخير الذي ربط بين العملية السياسية وحضور قرارات الشرعية الدولية أساسا لها، وعلى رأسها القرار الرقم 194 الذي يكفل حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وممتلكاهم التي طردوا منها إبان النكبة الفلسطينية الكبرى.
لذلك ينبع الموقف الصائب تجاه الأفكار الفرنسية من قياسها بميزان الحقوق وليس بمحصلة المواقف الأخرى منها وفق قاعدة مشؤومة تقول «مايرفضه عدوي يأتي لصالحي»؟!.
أما لماذا نعى الوزير المالكي المبادرة، فمن الممكن أن تكون معلومات خاطئة.. أو قراءة خاطئة لتصريحات فابيوس في الأمم المتحدة بداية الشهر الجاري.. أو تصور خاطىء حول ردة فعل باريس المتوقعة تجاه المواقف الرافضة لأفكارها.. على كل تتعدد الاحتمالات ويبقى الخطأ وحده.. سيد الموقف.