غادة زقروبة: جــداريّة الجســد المــقـــاوم
2015-07-19
تلك الأجساد الواسعة كأرض وطن والصابرة كرمال الصحراء على حرارة صيف صبرًا مطلقا لا يقبل المواربة، فكما تلك الرمال ثابتة في وجه الشمس كاليقين، تثبت تلك الأجساد في وجه العدوّ.
إن تلك الأجساد التي تحمل تاريخ رعبها وتاريخ ثباتها، تاريخ الفضاعات التي تناوبت عليها وتاريخ صلابتها، تاريخ جدلية الموت والحياة التي نُقشت على لحمها، إن نحن لا نملك القدرة على الغوص في أسرار ما أخفاه عنّا غيابها الإختياري (جسد المقاوم) أو القسري (جسد الأسير) عن مجال إبصارنا، فلنملك القدرة على الإنحناء حياء وإكبارا لوجع لم نسمع صراخه ولركض في الوعر لم نعشه ونحن نيام هادئين لأن تلك الأجساد تحمي الوطن وتحمي غفوتنا من صوت الرصاص وتحمي طفلا من فزع آنخلاع الحلم، فلنملك القدرة على الإنحناء بحياء خجول لتلك الأجساد التي تناثر دمها في أقبية التحقيق الإسرائيلية، في صحوتنا الغافلة عنها، حتى تظل دماؤنا هادئة في جريانها الدؤوب نحو إحياء، أو ترميم، حيواتنا. وكيف لدماء أن لا ترمِّم حياة جسد إذا كان هذا الأخير يحمل نفسا صامتة صمت الذلّ والإذعان أو صمت الغدر حتى.
جسد المقاوم في بعده عن مجال إبصارنا ما يجعلنا لا نَتَمَاسُّ مع ما يعيشه من مشاعر الخوف أو الرعب أو الفرح أو الشوق أو الحنين أو القلق أو حتى ما يحمله في صمته من كلام كثير وهو يرقب تخييم الليل في مسقط شمس تتهادى للتلاشي المنظور أو تنهيدة إعياء بعد ركض طويل في مطاردة يخالها العدوّ عين فعله، بينما هي مطاردة الذات المقاوِمة لذات الشر في حركة وجودية عالية إثباتا لقوتها وإرادتها من جهة، ومن أخرى هي طردٌ للذات المعادية في ركض حثيث إلى جهة الحريّة شرقا.
ذلك المقاوم الذي يسكن الجبال ويتحسّس معالم أرضه حجرا حجرا، ويتفاعل مع أمنياته التائهات في ملامح لغد مشتهى تَفَاعُلَ العاشق المشتاق مع ملامح معشوقه، هو من فهم لذّة السُّكنى إرادة قوة وحلما بحريّة واسعة.
ذلك المقاوم الذي يقطن المغائر وإن كان قاطنا للخطر وساكنا في الرعب إلا أنه مزّمّل بوسع الحياة فيه وبالفرح المدهش الذي يصّعّد في روحه ذات ضحكة واسعة المدى في ركض مع رفاق سلاح في جبل أثناء غفلة عن عدوّ.
ظل شجرة يرتاح تحتها ذاك المترحّل في المكان والراكض في الوعر ليلة بأكملها ولفحة الهواء تلك التي تلامس عَرَقَهُ بلطف النواعم فتُسري قشعريرةً في جسده اللاهث من تعبٍ وتخفّف عنه ثقل الغبار وتنيخ راحةً تهدؤ على طرف غفوة تشتهي بقية نوم في ذاك الظل، تلك الدقائق هي سَكَنٌ في زمن غائر داخل حيّز،على ضيقه تتسع حرية لهث من أجلها الفؤاد المقاوم ليلة بأكملها ركضا في طيّات الأمكنة المتلعثمة بصخورها ووديانها وهاوياتها وأجرافها حتى.
ليلة ركض في لعبة غادرة تتشكّل مطاردة في حياة مقاوم تقاس بكل ليالي أعمارنا، بل وأكثر، فليس المقاوم رجلا خارقا لا يشعر بأي قلق أو وجع بل هو من أرغم الرعب على الركوع أمام هامة الإرادة العالية وهو من عضّ على لحمه حتى لا يُسمَع صراخه حين آقتلاع رصاصة من جسده وهو الذي كوى بالجمر الحارق جرحه حتى لا تشي به لعدوّه قطرات دمه تتناثر على أرضية مشفى.
ذاك الجسد المقاوم ليس جسدا ناعما كأجساد البشر الذين يعودون إلى ديارهم كل مساء حاملين حلما رخيصا بهدوء عابر وسكينة واهمة، لكنه جسد ناعم بنعمة ما حمل من ثقل الإنسان فيه وبما خربشت عليه أشواك الجبال، هو ناعم بهواء الليل ورطوبة الصبح التي لامست خده في العراء، ناعم بتلك الخشونة في يديه التي تعطّرت برائحة البارود.
جسد، نهمل كل معانيه لأننا نراه بأنانية القابع في الرخاء، فلا نحس جوعه إلا آنطلاقا من شبعنا ولا نحس برده إلا من خلال دفئنا ولا ركضه لعشرات الكيلومترات في ليل وفي وعر إلا من خلال سكوننا وراحتنا، هذا أصلا إن فكرنا في الإحساس بتلك التفاصيل ، ولم نفكّر.
ذاك الذي ترك النمارق والرخاء وأسند روحه على كفّه وعشق بندقية يتجه نحو الحق رصاصها وتأخذ شرعيتها من فعل تحرّر من مغتصب بَذَلَ كل طاقاته الشريرة من قتل وتعذيب وترويع وتدمير، ذاك الجسد الذي حوّل حلمه من شهادة جامعية إلى شهادة حق تصغر أمامها كل شهائد التعليم العليا، ذاك الذي ترك الطفل وهو يبتسم له ليزرع في روحه بتلك الإبتسامة أملا متجددا بلقاء قد لا يأتي إلا وهو جسد مسجّى ، ذاك الذي فارق الأم بدمعة غصّت في حلقه وأبى أن تتلألأ في عينيه أمامها ليُفيضها بعيدا عنها، وقد يجهش في بكائه في الهناك البعيد.
في ليلة كاملة من المطاردة بين المقاوم وعدوّ يتربّص به بطائراته وبجنده وسلاحه، وهو المفرد في صيغة الجمع، الجمع الذي ينام في هدوء في أسرّته بفضل ذاك المطارد الذي يحمل الحق في أنفاسه ويلهث بها حتى لا ينالها عدوّ قذر، ذلك المفرد في صيغة الجمع كان له من القوة التي تستمد طاقتها من الحق وشرعية القضية ما يفوز به على عدوّه وعدوّ أمة بأكملها، فعدوّه يحمل حق قوة الظلم (السالبة) بينما ذاك المقاوم يحمل قوة الحق، وشتان بين القوتين.
جدلية حق القوة وقوة الحق هي جدلية تحدث من أجل فرض الحق ناصعا بقوته الموجبة (قوة الحق) ودحر حق قوة سالبة غايتها العنف والتسلّط والقتل و آغتصاب أرض.
بأي وجه صفيق نواجه ندبة في جسد مقاوم. أليست تلك الندبة ذاكرة لمواجهة مع عدوّ؟ تلك الندبة كانت رصاصة غائرة في جسد المطارد أو جرحا مزّق لحمه حين كان يركض في ذاك العراء المرعب في ليل لم نشعر بطوله لأننا كنّا نياما. تلك الندبة ستسائلنا بأي ذنب وُشِمَتْ، فالذي وُشمت على جسده كان يقوم بدور مركزي في قضية تحرّر ( قتال العدوّ) لكن دوره يستوجب منا تكميله، ونحن ما فعلنا، بل تركناه يقاتل عنّا جميعا ونحن نتدثّر بالدفء والنوم والسعادة الواهمة.
وجوهنا لا تحمل نور تلك الندبة التي لن نستطيع تكذيبها، فهي التي أَرْشَفَتْ لصرخة مكتومة عضّ بها فاهُه لحمه وهو ينتزع الرصاصة الغائرة أو يرش ملحا على جرحه، حتى لا يوسّع الصدى صوته فينكشف لعدوّ.
أجساد المقاومين الذين قاتلوا العدوّ في حرب بعيدة عن أنظارنا تحمل ذاكرة وطن بأكمله، وطن تحقّق في الروح قبل التراب وسكن العقل والفؤاد قبل أن يسكن السواعد على شالكة بندقية.
أولئك الذين تصلّبوا أمام الموت وواجهوه بكل ثقة هم من أولئك الذين أدركوا أن الحياة أوسع من الموت وأنهم إن ماتوا إنما سيهبون الحياة للباقين بل أن موتهم لن يكون إلا تواصلا مكرورا لحياة قضية ستشع في قلوب آخرين سيواصلون نهج التحرّر ذاته.
على جداريّة الجسد المقاوم نُقش الحق ندبات، ونُقشت الموت حياةً، ونُقش الرعب قوة، وتَعَشَّقَتْ رائحة الوطن على أكفّ المقاومين برائحة البارود، و وَكَدَ الحلم بحريّة أرض فؤاد العاشق الذي أهدى أغلى ما لديه (حياته وتفاصيل عمره) لمعشوقته “فلسطين”.
(تونس)