المال الفاسد والفاسدون في الحالة الفلسطينية
2015-08-12
كتب فريح ابو مدين*: أعرف مسبقا حساسية ما سأكتب عنه ومحاذير التعاطي في مثل هذا الأمر مع شريحة لا تزال تملك مفاتيح قوة المال وبالتالي عناصر كاتم الصوت وخنق الأنفاس وتقييد الحركة، ولكن حق الدفاع الشرعي عن النفس والمال والوطن يصبح واجبا لا مفر منه وهذا يتطلب أن نقف في مواجهة الانحراف السياسي والمالي وهما كتوأم سيامي يرتبط كل منهم في الأخر وجودا وعدما، خاصة في العالم العربي والعالم الثالث، نهبا وسلبا لمقدرات الشعوب في الحرية والكرامة ومهدرين حقه في مستقبل الحياة والشواهد والنماذج كثيرة فناهبي الأموال من بلادهم يتفتق ذهنهم عن طرق شيطانية للاحتفاظ بتلك الأموال وتوظيفها سياسيا مع قوى الاحتلال والاستعمار وهنا نقول أن الحالة الفلسطينية هي أخطر الحالات لأن الوطن بكامله محتل والمال جله خارجي يمنح في معظمه لأسباب سياسية والسؤال هل يستطيع الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج تشكيل حلف الفضول ؟؟!! ولعل أول كتاب صدر عن الحالة الفلسطينية منذ مدة هي للكاتب الصحفي بينوا فوكون، فلقد اجتهد للوصول إلى الحقيقة بكتابه المعنون West Bankers راصدا لبعض حالات الانحراف المالي في السلطة ومر ذلك كتاب بكل أسف بدون انتباه يذكر إلا ما نشره الصديق عبد الباري عطوان حين كان رئيسا لجريدة القدس العربي إلا أن الكاتب لم يستطع الإحاطة بكل ظواهر وحالات الفساد لافتقاره إلى الوثائق والمعلومات الدامغة وهذا ما واجه أيضا دراسة الباحث وائل السعيد والذي نشر بحثه في مؤسسة باحث للدراسات وأيضا هذا ما واجهه صديقنا رفيق النتشة (أبو شاكر) مسؤول ملف مكافحة الفساد فتمخض جبل نشاطه عن بعض الفئران الصغيرة الهاربة أو الخارجة من مظلة السلطة الحالية فأعاد البعض منهم فتات ما اختلس ونهب على قاعدة (المال السايب بعلم السرقة) !! ولكن النفوس والنظام كانت السائبة يا أخ أبو شاكر فدعني أذكرك عندما تزاملنا في المجلس التشريعي الأول الذي تصدى لكثير من القضايا وأشير على سبيل المثال قضية إعادة أموال صندوق الاستثمار حيث أعيد أقل من نصف ما توقع المجلس ولم نستطيع أن نفعل شيئا بعد شهور من البحث والتنقيب لعدم وجود وثائق أو معلومات من ذوي الأمر ، كما واجه المجلس عقد شركة كهرباء غزة في ضوء ملاحظات لجنة تولت دراسة العقد وتبين أنه عقد إذعان مجحف جعل أهل غزة يلطمون الخدود ويشقون الجيوب حتى تاريخه لأن الشركة صاحبة العقد أغدقت المال الفاسد ولا زالت رائحته تفوح من البعض حتى تاريخه وأرشيف المجلس التشريعي الأول مرجع لكثير من القضايا لمن أراد الاطلاع.
لقد كانت مواجهة الفساد صعبة وذلك ليس لشطارة اللصوص ولكن لتحالفهم مع بعض مراكز نفوذ السلطة كونهم أصبحوا جزءا منها مع اعتمادهم على السلوك المنحرف للبعض بإغدافهم الهدايا والأموال على مسؤولين متنفذين لشراء ذممهم وسد الحنك أو ما يسمون كشوف البركة كما فعل ريان نصر وهي عملية تسمى تحضير مسرح النهب مسبقا لذا كانت الأحكام والتسويات غير منصفة بل ومضحكة فما معنى الحكم باسترداد عشرة أو خمسة عشر مليون دولار من اصل مليار و نصف المليار أو اكثر!!
هذا حديث يطول وأرجو من الأخ ابو شاكر نشر التحقيقات على مواقع الإنترنت لعل وعسى ان يتحدث البعض بما يعلم ما لا نعلم.
وعود على بدء فإن مصيبة الفساد بدأت حين وضعت وفصلت خطة اقتصادية للسلطة بوحي إسرائيلي بعد بروتوكول باريس الاقتصادي واختير للخطة من اختير بشراكة مع بعض اجهزة الامن وهنا غرق في المال الوفير من لا يحلم بشراء بدلة وحذاء وكان كل ذلك من خلف مجلس الوزراء والوزراء المختصين كالمالية والاقتصاد وبدأ سوق الاحتكار والنهب اسمنت، بترول، حديد، دخان، دقيق، الخ..
وتولى منظمو المعابر التخديم على الخطة والحال هو الحال وان اختلفت الوجوه والظروف والجميع في جيب المعلم الخواجا، الاحتلال وعلى سبيل المثال كان جهاز امني يتولى تحصيل مائة وستون دولار عن كل سيارة تخرج او تدخل القطاع من إسرائيل وكان عددها ما يقارب ستمائة سيارة يوميا من غزة فقط كما ان هناك جهاز امني اخر كان يقوم بترخيص ما يقارب عشرة آلاف سيارة في القطاع بعيدا عن وزارة المواصلات لعدم قانونية الترخيص كونها مسروقة او خلافه نظير دفع مبلغ يعادل خمسة آلاف دولار عن سيارة سنويا وهناك أمثلة أخرى بصور أخرى جعل من القطاع مرتعا للفساد والفلتان وهيأ الأمور للانقسام ولقد غضب كثيرا منهم من مقال كتبته بعد الانقسام حين قلت اثقلهم المال عن حمل السلاح ولكن أصدقتني الأيام القول .
ما سبق باختصار هو عن فترة السلطة ولكن بصراحة الم تكن البدايات مع المال الاسود البترولي الفاسد والمفسد مع المنظمة وفصائلها.. الم يسري ذلك المال كالسم الزعاف في عروق ومفاصل الحركة الوطنية وكلنا نعلم ماذا جرى بعد حرب الخليج حين تكرر تجفيف الينابيع والحديث يطول لما جرى بعد ذلك من تدفيع الثمن وصولا لما نحن فيه .
لقد كانت التقديرات ان المنظمة وفصائلها قد حصلت على ما يربو عن خمسة وعشرون مليار دولار بأسعار ذلك الزمن والمفارقة انه لم يرصد للداخل تحت الاحتلال الا النذر اليسير وللامانة لا املك وثائق مرجعية لهذه الأرقام التقريبية ولكن ظواهر الأمور كانت كاشفة للواقع وعلى من عايشوا وشاركوا تلك الفترة، وأود هنا الحديث عن قصة تواترت عن احد المسؤولين الماليين تبين الاستهتار في معالجة أمور المال حينما سأل ذلك المسؤول عن اثني عشر مليون دولار فقال انه مول بها صفقة سلاح في غزة وحينما سأل عن السلاح قال تم دفنه في جنوب مدينة غزة حيث أقيمت مستوطنة نتسريم فوقه وحينما جلت المستوطنة لم يكن هناك سلاح ولا ما يحزنون وربما تكون هذه القصة نموذج للمحاكاة ولكن جبل الثلج اكبر بكثير، وكان لسوء استعمال المال نتائج كارثية حين أصرت بعض الفصائل على عسكرة الانتفاضة الأولى الكبرى فخر الشعب الفلسطيني مما انعكس سلبا معطيا الاحتلال فرصة استعمال القوة المفرطة ضد جماهير الانتفاضة وذلك ما حذر منه في حينها الدكتور حيدر عبد الشافي أشير إلى مصدر آخر كان يدخل ذمة منظمة التحرير وهو ضريبة الخمسة في المائة من رواتب الموظفين في الدول الخليجية وغيرها وكان رقما لا يستهان به (ربما تفكر حماس في ذلك الآن) يدفعه الموظف من قوت أبنائه راضيا في سبيل فلسطين وحين وقعت الواقعة بعد زلزال حرب الخليج دفعوا أثمانا مضاعفة اقلها الطرد والشتات وضياع المدخرات بما يقدر اكثر من خمسة عشر مليار دولار والآن لا أحد يذكرهم أو يستشيرهم في مستقبل القضية أو مستقبلهم وتركوا لمصيرهم المجهول وأذكر أن الرئيس الشهيد ياسر عرفات كان دائم الحديث عن الأموال الخمسة في المائة التي بقيت لدى بعض العرب وكان يذكر بغضب ان احد مشايخ الخليج صادر مبلغ وزوج به المئات من مواطنيه كما رفض القذافي إعادة أربعمائة وخمسون مليون دولار من تلك الأموال.
الحديث عن هذه الأموال وغيرها يثير الاسى والحزن والتوق للمحاسبة ففي غزة فقط مائة واثنان وثلاثون الف جامعي يبحثون عن وظيفة بواب بما بعادل مائة دولار شهريا أو وظيفة بطالة لمدة خمسة وأربعون يوما وهناك طوابير البحث عن كابونة أو سلة غذائية وأعدادهم لا حصر لها كما أن الأسر المحتاجة للشؤون الاجتماعية لا يصرف لها إلا سبعمائة وخمسون شيكل كل ثلاثة شهور ناهيك عن المرض والعلاج والسكن المدمر وشح المياه والكهرباء هؤلاء ينظرون مشدوهين لمن اغترفوا المال وتربعوا على عرشه، والمال هنا يطل براسه ولسانه رغم انف حائزيه ليقول شاهدوني في المناسبات السعيدة وغيرها كيف يرفل الأبناء والأحفاد في العز والرز خارج الوطن بتكلفة الملايين طائرات فنادق ضيوف مجوهرات طبل وزمر الخ.. وأبو مازن يبشر بسبعمائة الف داعشي.
نعود الآن للمال والحال المايل في الحالة الفلسطينية الملتبسة للحالة الإسرائيلية ومظاهر التجلي واضحة للمال السياسي الذي أصبح لا فكاك منه من الراتب وحتى ميزانية المنظمة والناظر إلى حال الفصائل المنضوية تحت رايتها شكلا يرى أن الأمناء العامون للتنظيمات يخشوا اتخاذ موقف سياسي في اللجنة التنفيذية بعيدا عن توجهات الرئاسة حتى لا يغامروا بضياع الميزانية وبالتالي ضياع التنظيم نفسه وهنا نعرج على الوضع في إقليم غزة فحماس هناك تشرع وتفرض الضرائب والرسوم لعصر المواطن الغزي محاولة حل ازمتها المالية على حساب أزمة المواطن والوطن ولا يتورع بعض المسؤولين عن الإفتاء وتحليل المحرم ولقد شاهدنا بالصوت الصورة احد المسؤولين يقول للتجار حققوا أرباحكم ولا شأن لكم بمعاناة المواطن وفي بعض الأحوال يتورط بعض أعضاء المجلس التشريعي للأسف في ذلك الأمر.
كما أن الأخطر من ذلك ان بعض العناصر الأمنية أصابها ما أصاب قبلها وهذا ما كانت حماس دائما تحاول تفاديه وأعطي مثلا حين تتاح فرصة فتح معبر رفح فلا سبيل للمواطن بالوصول للجانب المصري دون دفع الدولار الأخضر كل بقدر حاجته ومقدرته نحن نعلق الجرس في رقبة الجميع ونقول ان حكمة صمت أبو الهول آن لها أن تنتهي ووجب وضع حد للمال السياسي وانحرافه وهنا نقول لحماس بصراحة ان التأرجح بين ايران ومن والاها وبين السعودية ومن والاها خطر يجب تجنبه فالسعودية وايران كلتاهما تتأرجح بين واشنطن وموسكو ومعسكراتهم من ربيع وخريف وبلاوي لا حصر لها فالمال هنا مأفون ملعون .
أعود إلى مسرح خلافة السلطة الذي نصب مبكرا من يخلف من والحديث يطول عن شبق المتنافسين للسلطة وهنا نقول ان قرار الخلافة ليس فلسطينيا بل صاحب الفصل فيه حصول المرشح على رخصتين للقيادة واحدة إسرائيلية والأخرى أمريكية وبعد انبهار من العربان كما ان للمال دورا أساسيا فنحن نرى ونسمع كيفية الاستقطاب واحاديث الإفك وراقبوا مواقعهم الإلكترونية ونقول أن أهم الأهداف عدا امتطاء صهوة الشعب والقضية إن بقيت قضية هو تحصين انفسهم بالموقع حرصا على الخلف الخاص (الأبناء والأسرة) وليس الخلف العام (الشعب) فهو مقدور عليه في تقديرهم.
هنا أصل أيها القارئ العزيز لكيفية كيف أودى المال بحياة الشهيد ياسر عرفات فبعض ممن تحصلوا على المال ممن كانوا حوله كان طريق إسرائيل اليهم مفروشا بنفس المال للنيل من أبو عمار وتصفيته بالاغتيال فمن اغتروا بالمال وقعوا في براثن الخواجا هان عليهم التفريط والتآمر على قائدهم حيث كان الاحتلال يعلم خباياهم المالية ويساعدهم في التحويل والإخفاء والثمن المطلوب هو رأس ياسر عرفات وهنا أنوه أن بوادر تمرد ظهرت عند البعض قبل الحصار وبعد الحصار بعدم الانصياع إلى تعليمات الرئيس وازدادت وضوحا تحت السطح تحالفات تسعى لما بعد ياسر عرفات وأحس بذلك كثير ممن تواجدوا على الساحة السياسية والأمنية وبعضهم يتمسح الأن بياسر عرفات وسيرته .
هنا على الرئيس أبو مازن بعد عقد من اغتيال أبو عمار أن يختم حياته السياسية بخطوة حاسمة بكشف الغطاء عن من تورطوا وذلك بإعادة التحقيق وبجدية مع الاعتذار للأخ توفيق الطيراوي ودعكم من حكاية النيابة والقضاء الفرنسي أو الدولي فالعلة أولا فلسطينية بأوامر إسرائيلية فارض فلسطين كما نقول مقدسة لا تخفي أسرار الكون وشعب فلسطين لا يغفر ولا ينسى ولابد من ذلك ولو طال الزمن.
سألني صديق اطلع على مسودة المقال على من تحرض يا أخ!! قلت له هذا ليس تحريضا وان كان الفهم كذلك فنعم هو على الجميع وللننهض بمفهوم جديد ندق جدران الخزان ونحاول تصحيح البوصلة وما يشجعني على ذلك ان أقلام كثيرة من الكتاب والمثقفين بدأت بشجاعة تشخيص المرض والعلاج كرأس حربة دون خوف من المال والأمن ولو اصطف العشرات والمئات لطردت العملة الرديئة عكس المقولة المتداولة من سوق الوطن ودعونا لا نقول ناديت إذا اسمعت حيا فلم يعد في العمر أو القضية بقية لا نقول ذلك يئسا وإنما إدراكا لما يمكن إدراكه.
ولا نامت أعين الجبناء.
كاتب ووزير العدل الفلسطيني السابق