الحراك الشعبي إذ يعيد للأوطان العربية معناها مصر ولبنان مثالاً
2015-09-14
الأزمات في مصر نتاج مصادرة السياسة والتساكن مع الفساد
مصطفى اللباد - مصر
استقالت حكومة إبراهيم محلب في مصر أمس الأول بعد أيام قليلة من «اكتشاف» شبكة فساد في وزارة الزراعة المصرية. وبالتوازي مع ذلك يستمر الحراك الشعبي اللبناني في الضغط على السلطة السياسية وفسادها انطلاقاً من أزمة النفايات. ينهض الحراك في البلدين، مصر ولبنان، مثالاً على الصراع الضاري الذي تخوضه المجتمعات العربية مع شبكات الفساد، ذلك الذي يتخذ أشكالاً متباينة تتغير بحسب خصوصيات البلد العربي المعني، الجغرافية والسكانية والتاريخية. ومع ذلك التباين المعلوم، تشترك ظواهر الفساد العربي في جذر واحد كبير، مفاده أن شبكات الفساد أصبحت تحكم قبضتها على السلطة السياسية العربية، ولم تعد ظاهرة عابرة أو حتى مستديمة تتساكن معها السلطات العربية تحت ذرائع مختلفة. حل الإثنان، الفساد والسلطة العربية، في بعضهما البعض وصارا شيئاً واحداً، يصعب الفصل بين مكوّناته الأصلية. فلا استقالة حكومة إبراهيم محلب الناجزة في مصر أمس الأول، أو استقالة وزيري البيئة والداخلية في لبنان - إن حدثت أصلاً - تعني حسم معركة المجتمعين المصري واللبناني مع شبكات الفساد، تلك التي لم تعد مرتبطة بأشخاص بذواتهم ولا حتى بوزارات بعينها وإنما بأسس النظم الحاكمة وعلّة وجودها.
الحراك الشعبي يجدد حيوية لبنان
بعث الحراك الشعبي اللبناني في الأذهان تلك الأحلام العراض المترافقة مع «الربيع العربي» في بداياته، فكان مشهد الكتل البشرية السلمية المطالبة بحقها في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية والنظافة جديراً بالاحتفال. ولم يكن غريباً أن يتصدر العلم اللبناني ـ لا الأعلام الحزبية ـ المشهد برمّته، إذ أن الحراك الشعبي يستنهض وطناً تتناهشه شبكات الفساد الحاكمة والمتوزعة على ملوك الطوائف اللبنانية وأحزابهم من دون استثناء. وبرغم وجاهة التوقعات القائلة بعدم قدرة المتظاهرين على إسقاط النظام السياسي، نظراً لطبيعة الدور المناط بالنظام السياسي اللبناني إقليمياً ودولياً وبسبب تغلغل المحاصصة الطائفية في بنيته، إلا أن استمرار الحراك الشعبي يثبت بوضوح أن حيوية المجتمعات العربية في مواجهة شبكات الفساد ونظمه السياسية أقوى بأشواط مما تتصوره التوقعات العاقلة على وجاهة تقديراتها. ألغى الحراك الشعبي اللبناني التقسيمة الرائجة إلى معسكرين متخاصمين سياسياً، بعدما نزع ورقة التوت السياسية عن عورات النظام السياسي اللبناني الذائب في شبكات الفساد، والمتكون فعلياً ومؤسساتياً من المعسكرين المتخاصمين معاً. ولعل تلك النتيجة هي أبرز نجاحات الحراك الشعبي اللبناني حتى الآن، برغم أن الحكومة اللبنانية لم تعرف استقالات فردية أو جماعية من جراء الحراك حتى الآن، وهي نتيجة لا تقلل من شأنه بأي حال من الأحوال. ومرد ذلك أنه حتى إذا افترضنا جدلاً أن الحكومة اللبنانية استقالت الآن من دون تغيير أسس المحاصصة التي يقوم عليها النظام السياسي برمته، فلن يعني ذلك سوى استبدال شخصيات في مسرح عرائس خشبية.
سأم اللبنانيون نهب مقدرات وطنهم تحت شعارات سياسية برّاقة، يبدو أنها لم تعد تنطلي على الغالبية منهم. وبدلاً من خطابي «جماعتنا» و «جماعتهم» الرائج بشدة في المحافل الطائفية المغلقة، فقد ساد خطاب «نحن» اللبناني الجامع في التظاهرات الشعبية. وفي حين صدعت شبكات الفساد المتوسلة بالطوائف وملوكهم وحدة لبنان، فقد أعاد الحراك الشعبي التذكير بتلك الوحدة في أوضح صورة. وإذ أجمع «أفرقاء» لبنانيون يتصادمون في الخطاب السياسي على اتهام «دولة عربية صغيرة» (قطر) بالوقوف وراء التظاهرات - وهي ليست فوق مستوى شبهات التدخل في شؤون الأخرين بالمناسبة - إلا أن نظرية المؤامرة الرثّة هذه تعني إنكار المغزى الحقيقي للحراك ومحاولة التنصل من الأسباب الحقيقية له وملخصها شبكات الفساد التي تحكم قبضتها على مقدرات السلطة في لبنان، تلك التي يتشارك بها هؤلاء «الأفرقاء». قد يصحّ القول إن الحراك الشعبي اللبناني لا يعرف قيادة موحدة، وأن تنوع الحركات تحت سقفه قد يعني تضارباً في الأولويات والأهداف، لكن ذلك لا يبخس الحراك أهميته والإنجازات المعنوية الكبيرة التي حققها حتى الآن. وفي النهاية لا يمكن الحكم على الظواهر الفارقة في حراك المجتمعات بنتيجة ما تحققه في اللحظة والتو، وإنما بالقدرة على هز الأسس وتعرية الترابط في المصالح ضمن شبكات الفساد ومن ثم البناء على ذلك وفق المقتضى.
مصادرة السياسة والتساكن مع الفساد مصر
لم تشهد بنية السلطة الاقتصادية - الاجتماعية في مصر تغيراً نوعياً منذ «الربيع العربي» وحتى الآن، وذلك بسبب استمرار شبكات الفساد المتكونة من تحالف رجال الأعمال الكبار مع قمة أجهزة الدولة البيروقراطية ومع مؤسسات «الدولة العميقة» وأذرعها الأمنية، في التحكم بمقدرات المصريين: الغذاء والمحروقات والإسكان والمصارف ووسائل المواصلات والتوظيف والتأمين الصحي. وإذ تغير على المصريين أربعة رؤساء خلال أربعة أعوام حسين طنطاوي (2011 ـ 2012) ومحمد مرسي (2012-2013) وعدلي منصور (2013 - 2014) وعبد الفتاح السيسي (2014 ـ حتى الآن) ، فلم تتغير المساكنة مع شبكات الفساد بشعارات وذرائع مختلفة.
وبالتوازي مع ذلك، يشهد المجال العام المصري المزيد من القيود والتضييق، في تصادم صارخ مع بديهيات الشرعيات السياسية. والدليل على ذلك أن المشروعية السياسية للحكم الحالي تأسست على المظاهرات المليونية في 30 يونيو/ حزيران 2013 التي أطاحت بحكم «الإخوان المسلمين»، باعتبارها تعبيراً عن إرادة الشعب، في حين كان قانون حظر التظاهر أول القرارات التي أصدرها الحكم الجديد، وهي مفارقة تستعصي على التفسير والتجسير. وبرغم استقالة حكومة إبراهيم محلب - المهندس التكنوقراطي غير المسيّس والذي ورد اسمه في لائحة اتهامات «فساد القصور الرئاسية» - أمس الأول، إلا أن السياق والإطار العام للمساكنة مع الفساد لم يتغير. ولا يتوقع للحكومة الجديدة ورئيسها شريف إسماعيل أن يكونا استثناء من السياق العام المتوالي منذ عقود طويلة، خصوصاً أن رئيس الوزراء الجديد من المقرّبين من وزير البترول الأسبق سامح فهمي، المتهم في قضية تصدير الغاز المصري إلى إسرائيل.
ومع اقتراب الانتخابات البرلمانية، تبدو خطة النظام مختصرة في خلق برلمان جديد «غير سياسي»، ولا توجد به كتلة سياسية كبرى تحد من نفوذ الرئيس أو تتشارك معه في سلطات النظام السياسي. لم تجر الانتخابات البرلمانية بعد، ولكن قانون تقسيم الدوائر الجديد الذي يفتّت الدوائر في بعض المناطق ويوسّعها في البعض الأخر ويمزج بين الانتخاب بنظام الفردي والقائمة، يبدو مصاغاً للخروج ببرلمان يعكس سيطرة الفئات التقليدية من وجهاء الريف ورؤساء العائلات والعشائر والمال السياسي من دون رابط سياسي، وهي ذات التركيبة التي حكمت برلمانات مبارك بما فيها برلمان 2010 الساقط.
ويأمل مهندسو الانتخابات البرلمانية المقبلة في النهاية إلى تعزيز مواقع الرئيس باعتباره نقطة توازن بين كل القوى السياسية والاقتصادية المتواجدة على الساحة البرلمانية، التي تتصارع فيما بينها على المقاعد وقربها من النظام وشبكات الفساد، وليس على برامج سياسية أو قضايا العدالة الاجتماعية أو مسائل الديموقراطية والحريات. قد تبدو اللحظة قاتمة، لكنها كانت كذلك صبيحة الخامس والعشرين من يناير/ كانون الثاني 2011 أيضاً. ومارد الحراك الشعبي المصري، وإن بدا الآن مرهقاً ومحبطاً ومخترقاً ومفتقراً إلى قيادة موحدة، إلا أن إرجاعه إلى القمقم مرة أخرى يبدو مستحيلاً برغم ذلك.
الحراك الشعبي والأوطان العربية
كشف الحراك الشعبي في مصر ولبنان أمور مفصلية عدة كانت غائبة عن الأذهان أو مطمورة تحت شعارات براقة خادعة وهي: أولاً، مقولة أن النظم السياسية العربية أقوى من مجتمعاتها لم تعد من المسلمات غير القابلة للنقاش كما كان الحال في السابق. ثانياً، أنه مهما بلغت قدرة شبكات الفساد والنظم السياسية الذائبة فيها على التأقلم وفقاً للظروف واجتراح مناورات للتمييع واتقان فن التمويه السياسي، فإن الحراكات الشعبية تكشف العورات وتهز الأسس حتى ولو لم تسفر عن نجاحات فورية. ثالثاً، أن طلب العدالة الاجتماعية والالتفاف حوله هو الأقدر على تحصين الأماني الشعبية العابرة للطوائف، وبالتالي العاصم للحراكات الشعبية من التفتت والتشرذم ومن محاولات الالتفاف عليها. رابعاً، أن شبكات الفساد تعرقل ـ بحكم مصالحها - أي تنمية سياسية واقتصادية حقيقية يمكن أن تتمتع بثمارها الغالبية الكاسحة من الشعوب العربية، فلا يمكن التساكن مع الفساد والادعاء بوجود «قضية نبيلة» تدافع عنها النظم السياسية ما يحتم تأجيل المواجهة مع شبكات الفساد كما هو سائد في الدول العربية على اختلافها وتباين «قضاياها النبيلة». خامساً، تمنع شبكات الفساد، ببنيتها الأخطبوطية وبقدراتها الاقتصادية والإعلامية والسياسية، الدول العربية من اجتراح توزيع عادل للسلطتين السياسية والاقتصادية بين مواطنيها، فتدفع قسماً معتبراً من مواطنيها إلى خارج بلادهم في عملية تهجير قسري صامتة، ربما كانت هجرة السوريين من الحرب الأهلية إلى أوروبا مثالها الأكثر صخباً راهناً. فيما تعيد الحراكات الشعبية الروح إلى الأوطان العربية، تلك التي سلبتها شبكات الفساد ونظمها السياسية اسمها ومعناها.