الأكلات الشعبية.. تراثٌ يقتاتُه العجائز ولا يستطعمُه الشباب
ما بين وقتٍ وآخر يشدني الحنين إلى الطعم الحاذق "للحماصيص" والرمّانية، وما بين موسمٍ وآخر تشتاق معدتي إلى تذوق الكشك و"السماقية"، وغيرها من "أكلات زمان" التي تنفتح شهيتي عليها بمجرد أن اشتمّ رائحتها..
عبر هذا التقرير نصحبكم مع أمهاتٍ من ذلك الزمن الجميل محترفات في صناعة "أكلات زمان"، لتتعرفوا منهن على قيمتها المعنوية بالنسبة لهن، حيث لم يبخلن علينا بشرح هذه "الأكلات الشعبية" التي قد تفتحُ شهية النساء على تشمير سواعدهن لطهي أطعمةٍ جديرةُ بأن تكون في "مفضّلتهن":
في العرس والمأتم
البداية كانت مع الأكلة الأكثر شعبية لدى الشعب الفلسطيني.. "السماقية"، حيث تشتهر معظم المدن الفلسطينية وخاصة مدينة غزة بطهيها في المناسبات السعيدة والحزينة على حدٍ سواء، لتكون حاضرةً في المآتم والأفراح، فيتم تقديمها من قبل أهل العريس في الليالي التي تسبق حفل الزفاف مثلما تقدم خلال أيام العزاء، وأيضا يتم إعدادها في اليوم الأخير من رمضان وفي أيام عيد الفطر؛ لأنها حسب آراء من يقتدون بهذه الطقوس خفيفة على المعدة وسهلة الهضم وتساعد على فتح الشهية، ناهيك عن أنها تحتوي على كافة العناصر الغذائية المفيدة للجسم.
والمقادير الرئيسية "لأكلة" السماقية تتمثل في السمّاق الحب، وهو أحد البهارات المعروفة الذي يعد العنصر الرئيس في "الطبخة" لذا تسمى باسمه, بالإضافة إلى شرائح من البصل, ونبات "السلق", والطحينية والثوم, مع القليل من حبيبات الحمص, متوجاً بقطع اللحم البقري".
الحاجة سلّوم تريكة (102)عام ابتهجت بفكرة التقرير، وبدأت حديثها بصوتها الهرم:" أيوة هيك خلي "بنات اليوم" يتعدلّوا"!...وأخذت بلغة العجائز تقول: "ما يرفق هذه الأكلة من تقاليدٍ معتادة هو أنه يجتمع عدد كبير من النسوة في البيت الذي يعزمُ أهله على إعداد "السّماقية"، حيث توزّعُ النساء فيما بينهن المهام إلى أن يصلن إلى مرحلة سكبها في الأطباق".
طبق "سماقية"
أما عن طريقة صنعها, فتحملنا الحاجة سلوم إلى مطبخها الغزّي البسيط لتمارس هوايتها المحببّة وتغرينا بطبقٍ نأكل "أصابعنا" وراءه، حيث توضح:"يُقلب البصل مع الثوم المفروم بالزيت في إناء واسع ويضاف إليها اللحم والحمص المنقوع والشطة المفرومة بالإضافة إلى الملح والفلفل الأسود وبذرة عين الجرادة المدقوقة".
وتضيف بنبرة تتدفقُ حيويةً:" يُضاف السلق بعد أن يُفرم إلى الخليط، ثم تضاف كمية الماء اللازمة", بينما يُترك السّماق يغلي في الماء لفترة قليلة مدتها عشر دقائق تقريباً، ثم يُصفى مع الاحتفاظ بالماء لأنه سيضاف فيما بعد إلى الخليط".
وتصرّ الحاجة سلوم على أن تستأنف تفاصيل "الطبخة" من الألف للياء:"بعد ذلك يُقلب خليط السماقية باستمرار دون أن نتوقف للحظة، مع إضافة الطحين المذاب في الماء, لكن يجب أن تكون طريقة الإضافة ببطء مع استمرار التحريك، ويُضاف مقدار الطحينة عندما يتماسك الخليط مع الاستمرار في التقليب".
وقبل أن تغلق هذه المعمرّة كتاب الطبخ الذي احتوته خلال سنيّ عمرها الـطويل,أشارت أنه بعد سكب السماقية في الأطباق وتركها حتى تبرد، يضاف إليها زيت الزيتون، خاتمةً حديثها بابتسامةٍ واسعة "ومطرح ما يسري يمري".
الهمبرجر والتشيكن
وتؤكد سلوم أن "أكلات زمان", ألذ بكثير من الوجبات السريعة, موضحةً أن أحفادها كثيراً ما يأتون لها بوجبات طعام من الخارج, لكن هيهات أن يكون طعمه مثل الذي تصنعه يداها حسب تعبيرها.
في حين خالفتها في الرأي إسراء عايش وهي متزوجة حديثاً فقالت:"الزمن تغير في كل شيء بما في ذلك طبيعة تناول الأطعمة، وكما الجيل القديم لا يمكنه استيعاب هذه الأكلات السريعة التي يعتبرونها غير مفيدة للصحة، فنحن أيضاً معدتنا تستثقل الأكلات الشعبية، وتحمل هم صنعها الذي قد يكلف وقتاً وجهداً ليس في وسعنا".
الخير في العتاقي
وبالانتقال إلى الحاجة أم خليل تركية72 عاماً التي تطرقت في حديثها إلى الفرق بين الإقبال على طبخ هذه الأكلات قديما واليوم, لتقول:"يوجد فرق كبير فالأكلات القديمة لا أحد يستطيع أن يستغني عنها بالرغم من انتشار الأكلات الحديثة، بدليل أن هناك مطاعم متخصصة في طبخ الأكلات القديمة التي يقبل عليها كبار السن دائماً.
"أكيد الخير في العتاقي"، فنكهة زمان لذات الأكلات بلا شك أطيب بكثير من الآن لأنها تعتمد على مواد طازجة، ونحن مهما شرّقنا أو غرّبنا فلا بد من أن نعود بأصلنا للأكلات القديمة التي هي بالأساس جزء من تاريخنا وتراثنا الفلسطيني الذي ورثناه ولن ننساه، وعلينا أن نورثّه إلى من بعدنا".
وتابعت حديثها لتتذكر مثلاً شعبياً خطرَ ببالها:"أكيد الخير في العتاقي"، فنكهة زمان لذات الأكلات بلا شك أطيب بكثير من الآن لأنها تعتمد على مواد طازجة، ونحن مهما شرّقنا أو غرّبنا فلا بد من أن نعود بأصلنا للأكلات القديمة التي هي بالأساس جزء من تاريخنا وتراثنا الفلسطيني الذي ورثناه ولن ننساه، وعلينا أن نورثّه إلى من بعدنا".
وترى أم خليل أن السبب الذي قد يدفع ربات البيوت إلى عدم طهو هذه الأكلات هو ضيق الوقت، لاسيما أن العديد منهن التحقنَ بسوق العمل، ولكن هذا في رأيها ليس مبرراً لاستبعاد هذه الأطباق الشعبية من مطبخ المرأة الفلسطينية.
"دقّة قديمة"
من جهتها أكدت الحاجة أم ماجد حبوش 73عاماً أن أحفادها لا يقبلون غالباً على طلب هذه الأكلات منها, لأنهم يعتبرونها "دقّة قديمة" ونادراً ما يشتهيها أحدهم", مشيرةً بأنها تقتصر في طهيها لهذه الأكلات على المناسبات فحسب، فهي مثلاً قبل فترة وزعت أطباق السماقية على المحيطين بها وذلك عن روح زوجها الذي توفي العام الماضي.
وأعربت عن أسفها لعدم حرص الفتيات على تعلم هذه الطبخات التي فيها فائدة حقيقية عكس المعجنات التي تستسهلها الكثيرات منهن.
وتؤثر أم ماجد "طبخة الحماصيص" وهي عبارة عن عشب شكله يشبه نبات البقدونس يزرع في الأراضي الخالية, حيث يطبخ مع عدس حب أو مجروش وطعمه حامض.
وعن توقعها باختفاء هذه الطبخات وعدم إقبال الجيل الجديد عليها, أجابت:"هذا ما أخشاه، لكن علينا أن نبذل قصارى جهدنا كي تبقى بيوتنا الفلسطينية عامرةً بروائح هذه الأكلات الشعبية، لأنها أحد المظاهر الأساسية للتراث".